الدكتور كايد الركيبات: تأملات في رواية “يوميات مريم”

الدكتور كايد الركيبات
تصنف رواية “يوميات مريم” ذاكرة فتاة ريفية، للكاتبة صفاء حطاب ضمن صنف روايات الفتيان، لخصوصية المرحلة العمرية التي تخاطبها، أما من حيث الجنس الأدبي فيمكن تصنيف الرواية من جنس النوفيلا النفسية التأملية المكتوبة بأسلوب اليوميات، وتُعدّ هذه الرواية عملاً أدبياً متماسكاً ومتكامل الأركان، فالرواية حافظت على شخصية مركزية واحدة (مريم) قدَّمت عبر صوت سردي داخلي متّسق، وكُتب بأسلوب بسيط وعميق في آنٍ واحد، ما يمنح القارئ فرصة للانغماس في عالم داخلي تتقاطع فيه براءة الطفولة مع أسئلة الحياة الكبرى، ومن خلال تتبع القصص التي تكونت منها الرواية، نكتشف أننا أمام سردية تصاعدية تنمو فيها الشخصية الخيالية المركزية (مريم) عبر محطات شعورية ومعرفية متتابعة.
منذ الصفحات الأولى، نُدرك أن السرد لا يسعى إلى حبكة درامية صاخبة، بل إلى بناء شعور متنامٍ بالتأمل، حيث تلتقط مريم تفاصيل يومية بسيطة وتعيد تشكيلها برؤية طفلة تستشعر العالم من حولها بصفاء ودهشة، كل قصة من القصص السبع عشرة تشكّل لبنة في بناء وعي مريم بذاتها ومحيطها، وغالباً ما تشتبك هذه اليوميات مع عناصر الطبيعة، والحيوان، والإنسان، في نسيج سردي متين لكنه غير متكلّف.
تحمل القصص أبعاداً نفسية وتربوية وإنسانية، لكنها لا تُقدَّم على نحو مباشر أو وعظي، بل تأتي مغلّفة ببراءة السرد الطفولي، فالقارئ، على سبيل المثال، يتعاطف مع مريم عندما تلسعها النحلات انتقاماً من صبيان القرية، كما أنه يتأمل معها في أبعاد مهنة المعلمة والطبيبة البيطرية، في قصة “يا ترى معلمة أم طبيبة؟”، تكشف الكاتبة عن طريقة الطفلة في التخيّل والاختيار، إذ تجمع بين الحلم الشخصي وتأثير البيئة العائلية، ممثلة بالأم والممرضة، ما يعكس كيف يتكوّن الوعي المهني والاجتماعي لدى الأطفال.
أما في “المهمة الصعبة”، فتظهر مريم في دور الراعية والمسؤولة، حين تُجبر على التكيّف مع وضع أخيها الصغير سعيد، وتبذل جهداً في تقبُّل ما لا تحب، من أجل رعايته، المشهد هنا يتجاوز حدود القصة القصيرة نحو بناء صورة للطفولة الناضجة، التي تبدأ تدريجياً بفهم معنى الالتزام والتضحية، هذا النمو النفسي هو ما يمنح الرواية وحدتها الداخلية، فكل قصة تضيف بعداً جديداً إلى شخصية مريم وتعمّق من حضورها.
يظهر في القصة الرابعة “ضيف القرية” ملمح من الحنين الجمعي والارتباط الوجداني بالمكان والأشخاص، عودة محمود من أمريكا لا تمثّل مجرد حدث اجتماعي، بل تعني لمريم استعادة صورة أسرتها، وهو ما يتجلى في احتفاظها بصورة فوتوغرافية تجمعهم، وكأن الكاتبة تشير إلى أن الذاكرة الشخصية لا تكتمل إلا بشهادة خارجية تثبّتها، وهنا كانت الصورة أداة التثبيت.
في قصص أخرى مثل “كلب جدي” و”القطة الزائرة” و”حراثة الأرض”، تتجلى الرمزية الحيوانية كأداة لبناء مفاهيم الخوف، الشفقة، التحوّل، والرضا، فالعلاقة مع الكلب تتحوّل من رعب إلى محاولة فهم، فيما ترمز القطة إلى الرحمة الأمومية الكونية، وفي قصة الحراثة، يصبح الحمار أداة تأمل في طبيعة العمل والخلْق، حيث تعبّر مريم عن إدراك مبكر لفلسفة أن لكل مخلوق دوراً يؤديه بسعادة، مهما بلغت المشقّة.
تناولت قصة “موسم قطاف العنب” روح التعاون الاجتماعي في المجتمع الريفي، فيما تسلط قصة “المعلم القادم من المدينة” الضوء على تحديات التكيف مع بيئة جديدة، مقابل الارتباط الروحي العميق بالمكان، الذي يشكّل المعيار الحقيقي لتفضيلات الأفراد. أما قصة “صيدلية الريف”، فهي دعوة للحفاظ على المعارف المتوارثة من الأجداد، باعتبارها مخزوناً ثقافياً غنياً، يشكّل أساساً للتعايش في البيئة الاجتماعية. وانتهت قصة انقطاع الكهرباء بتأمل وجداني حول تكيف المخلوقات حسب طبيعتها وحواسها التي خلقها الله وأودعها فيها.
اللافت في الرواية أيضاً هو حضور القرية كمكان حي نابض بالتفاعل، لا كمجرد خلفية للأحداث، القرية هنا حاضنة للطفلة ولأفكارها وعلاقاتها، كما أنها موضوعٌ للتأمل والتحليل، في قصة “المذياع”، تظهر التحولات الثقافية والاجتماعية التي بدأت تطال المجتمع القروي، ويظهر تباين الأجيال في التفاعل مع هذه التغيّرات، ويبرز هنا الجد كجسر بين الأصالة والانفتاح، حين يساعد حفيدته على خوض تجربة جديدة رغم اعتراض الأب.
المساحة العاطفية داخل الرواية تُبنى بهدوء واتساق، كما يظهر في قصة “صديقتي ندى”، التي تسلط الضوء على التغيرات الفيزيولوجية والاجتماعية لدى الفتيات، وتُشير، من خلال هدية “المرآة الصغيرة”، إلى وعي متنامٍ بالهوية الجسدية والشخصية، بينما في قصص مثل “ملابس الطفل المنتظر” و”عرس في القرية” و”موسم العنب”، نرى تركيزاً على الطقوس الاجتماعية بوصفها مناسبات لتقوية الروابط، وإعادة إنتاج المعرفة الأسرية في سياقات احتفالية.
وفي نهاية الرواية، تأتي الخاتمة بعنوان “نهاية الحكاية: حلم جميل”، لتمنح النص لمسة خيالية تجمع خيوط التجربة بأكملها في رؤية شفافة تقوم على الرضى والتأمل والرأفة بالحيوان، وهو ما يُعطي الرواية بعدها القيمي الأسمى، إنها نهاية لا تختم الرحلة، بل تجعلها دائمة التجدّد، حيث تتقاطع الواقعية مع الخيال، والطفولة مع الحكمة.
ورغم أن القصص تبدو منفصلة ظاهرياً، إلا أن تسلسلها الزمني يوضح تطور مريم من مرحلة الطفولة نحو وعي أوسع بالعالم من حولها، وبالتالي فهناك نمو داخلي في الشخصية، يُعادل الحبكة في الروايات التقليدية، في حين أن المكان (القرية) ثابت نسبياً، ويؤسس لبيئة متكاملة تُسهّل تأمل القارئ في العلاقات والأحداث، كما أن هذا الثبات يخدم التوجه النفسي التأملي للنص، لأنه يركّز على تطور الرؤية لا تغير الجغرافيا، أما من حيث البعد الرمزي والموضوعي، فكل قصة كانت تحمل دلالة رمزية (عن الخوف، الحنان، المسؤولية، التحول…) وتخدم مجازاً عاماً عن تشكّل الذات الأنثوية في بيئة قروية، وهذه الرمزية المبطّنة دليل نضج فني، يحوّل القصص من حكايات بسيطة إلى أدب قائم بذاته.
ورغم أن بعض القصص تنتهي دون بلوغ ذروة درامية واضحة، فإنها تظل منسجمة مع طبيعة السرد التأملي، فالرواية متكاملة الأركان باعتبارها نوفيلا نفسية بصيغة يوميات، حافظت على وحدة الصوت، والبناء المتماسك، والهوية الأدبية، والبعد التأملي، وقدّمت محتوى هادفاً ومرهفاً دون افتعال، ما يجعلها نموذجاً ناجحاً لأدب اليوميات التأملي في سياق الطفولة والريف.
في المجمل، قدّمت “يوميات مريم” تجربة قرائية آسرة، تشد القارئ بعذوبتها وبساطتها وصدقها، إنها ليست فقط رواية عن طفلة، بل رواية عن تشكّل الوعي الإنساني في بيئة بسيطة، تُصبح فيها التفاصيل اليومية مصدراً للحكمة، ويتحوّل السرد إلى مرايا متقابلة تعكس مشاعر الطفلة وهموم الكبار، بأسلوب هادئ وصادق، استطاعت الكاتبة أن تمنح مريم صوتاً داخلياً ثرياً، يظل عالقاً في ذهن القارئ حتى بعد أن يطوي الصفحة الأخيرة.
كاتب اردني
[email protected]