سعاد خليل: الشعر النبطي ما بين التجديد والتمسك بالتقاليد

سعاد خليل: الشعر النبطي ما بين التجديد والتمسك بالتقاليد

سعاد خليل
يُعد الشعر النبطي أحد أبرز أشكال التعبير الأدبي في الجزيرة العربية، وهو امتداد حيّ للشعر العربي الفصيح، غير أنه يُكتب باللهجة العامية البدوية، ما جعله أقرب إلى نبض الناس وهمومهم اليومية. وقد ارتبط هذا الشعر بتاريخ القبائل العربية وثقافتها الشفوية، فكان وسيلة لتوثيق الأحداث، ورواية البطولات، والتعبير عن المشاعر والعلاقات الاجتماعية، في قالب شعري بسيط في لغته، عميق في دلالاته.
نشأ الشعر النبطي في بيئة بدوية، حيث كانت الكلمة تُعد سلاحًا ووسيلة للتأثير، فبرع الشعراء في ارتجاله وتطويره حتى أصبح له قوالب فنية وأوزان محددة تختلف عن بحور الشعر الفصيح، لكنها تظل محتفظة بإيقاع موسيقي مميز وجاذبية شعبية. وقد لعب الشعر النبطي دورًا مهمًا في تشكيل الوعي الجمعي، وكان مرآة لواقع الحياة البدوية بما تحمله من قيم الفخر، والكرم، والحب، والحكمة، والرثاء.
اليوم، ما زال الشعر النبطي يحظى بشعبية واسعة في منطقة الخليج العربي خاصة، وتُقام له مهرجانات ومسابقات وفعاليات ثقافية كبيرة، تؤكد استمراريته كجزء من التراث الثقافي العربي ووسيلة فنية تتجدد مع الزمن، رغم تحولات اللغة والمجتمع.
بمعنى أن منطقة الخليج العربي هي الأكثر اهتمامًا بهذا النوع من الشعر، كما يؤكد المهتمون به صفته كامتداد طبيعي للشعر العربي القديم، لما يمثله من حفظ لأوجه التراث الزاخر بمدلولاته وعناصره. ولهذا نجد أن ميزة الحفظ والاسترجاع تلازمه وتتغلغل في عناصره، لأن ثقافة مجتمع منطقة الخليج تجسدها المأثورات الشعبية عن طريق التسجيل والترديد، والموضوعات التي يتطرق لها الشعر النبطي مستمدة ومستوحاة من البيئة المعاشة بأفراحها وأتراحها، ومن الممارسات اليومية، والحوادث التاريخية التي عايشتها المنطقة.
ويشير ظاعن شاهين إلى الدكتور سعد الصويان في دراسة له بعنوان الإبداع والمعاناة في نظم القصيدة النبطية، أن القصيدة النبطية في بنيتها الفنية وحبكتها الموضوعية لا تختلف كثيرًا عن نمط القصيدة الجاهلية، فالقصيدة الطويلة تتكون عادة من موضوعات يُؤلف الشاعر بينها ويُرصّعها بما يحلو له من صور وتشبيهات وصيغ بلاغية موروثة.
إلا أنه يحاول أن يُضفي على هذه القوالب التقليدية لمسات فنية خاصة ومتميزة، لأن هدفه هو تحقيق التوازن بين الإبداع والاتباع، بين الأصالة والتجديد، بين الابتكار والتقليد، وهو في ذلك يدرك أن قصائده لا بد أن تصب في نفس التقليد الشعري المتوارث، إلا أنه يريد أن يترك بصمته الخاصة التي تُميز إنتاجه عن الآخرين.
ويعرّف الدكتور فالح حنظل الشعر النبطي الخليجي بأنه الشعر المنظوم بعامية كلام أهل الخليج، والذي يُعطي صورة واضحة عن حياتهم وآدابهم وتراثهم وتاريخهم وأيامهم، ويُعبّر عن آرائهم تعبيرًا كاملاً.
ويرى أن من المشاكل التي يواجهها الشعر النبطي هي عدم معرفة تاريخه، وعدم تسجيله وتدوينه، حيث بقي الشعر النبطي، وخاصة الأمثال منه، محفوظًا في الصدور، ولولا رواته المعجبون به لما كان بالإمكان إيجاد شيء منه.
ولو قمنا من الناحية الأدبية بدراسة علمية دقيقة ومستفيضة للقصيدة النبطية، لأخذنا فكرة واضحة ودقيقة عن الروابط التاريخية والقوالب الفنية واللغوية التي تصل الشعر النبطي بالشعر الجاهلي.
ولكننا سنقوم هنا بعرض موجز لإبداع الشاعر النبطي في القصيدة، وأوجه التشابه والتحولات التي طرأت على القصيدة النبطية من حيث أخذ الشعراء مفردات وأمورًا معينة من السابق، وتركهم لها حاليًا، والأثر الحضاري الذي شكّلته البنية الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية على القصيدة النبطية.
يُعتبر الشاعر النبطي لسان القبيلة الصادق، وفارسها الذي يذود عنها، وحكيمها وكريمها وعاشقها الولهان. فهو إنسان نذر نفسه للعطاء والحب والخير والجمال، فترى دائمًا تفاعله مع الناس وأحداثهم، يشاركهم همومهم وأفراحهم.
كما تجده من خلال شمولية المواضيع والأغراض التي يتطرق لها في قصائده، متدفّق العطاء، مرهف الإحساس، دائم التفكير في قضايا المجتمعات، يُسخّر قصائده في خدمة الناس دون مقابل.
ويرى شعراء النبط أن المدح من الصفات الحميدة التي يجب أن يتحلى بها الشاعر في قصائده، لرفعة اسم القبيلة، كما هو الحال مع الدم.
وهذا بدوره يجرّنا إلى شعر النقائض الذي ترعرع ونما في عصر بني أمية، والذي يتميز بنفس الصفة.
وليس أبلغ من ذلك ما قاله جرير في بني نمير هجاءً:
“فَضَضْتُ الطرف إنك من نميرٍ … فلا كعبًا بلغتَ ولا كلابا”
وقد كانت نتيجة هذا البيت أن تنكّر بنو نمير لقبيلتهم، وأصبح ذكر اسمها عارًا يتحاشونه.
وهي نفس الحالة التي عاشها بنو أنف الناقة؛ إذ إذا سُئلوا، انتسبوا إلى بني قريع، ولم يُرفع عنهم هذه المهانة إلا قول الحطيئة:
“قومٌ من الأنفِ والأنساب غيرهم … ومن يساوي بأنفِ الناقةِ الذنبُ”
ومن هنا، كان المدح أمرًا ضروريًا للشاعر النبطي، مثلما كان عليه الشاعر الجاهلي أو الأموي أو العباسي.
ونرى ذلك جليًا من خلال الكم الهائل من القصائد النبطية التي يدخل المديح في أغراضها، لكن الأمر الملاحظ هنا أن المدح يأخذ صورة أخرى وصفة يكاد يتفرد بها الشعر النبطي عن سواه من ظواهر الأدب، والتي تخص بقعة جغرافية محددة هي منطقة الخليج العربي، وبالذات الجزيرة العربية.
حيث يقوم الشاعر النبطي القديم بنظم قصيدة مدح يُتوّجها لأحد الشيوخ أو الأمراء، يُسميها “عروس الشعر”، وتكون بذلك أجمل ما قاله في المدح.
حقيقةً، هذه الدراسة تحوي أمثلة من بعض من الشعر النبطي، وسنكتفي فقط بالقليل منها.
تقول الدراسة أيضًا إن هذه الخاصية (عروس الشعر) قد اختفت من الشعر النبطي، فلا توجد “عروس للشعر” عند شعراء النبط اليوم، ويأتي ذلك بحكم التطور السريع الذي طرأ على القصيدة النبطية.
وبالعودة إلى الشعراء النبطيين القدماء، نجد أنهم يأخذون في التفنن بابتداع المعاني من خلال العناء الذي يأخذهم في نظم القصيدة.
ومن المعروف أن الشاعر يستهل قصيدته برواية فنه وإدراكه وتفهمه وإبداعه لأمور الشعر.
(الأمثلة الشعرية – عمير بن راشد بن عفيته):
يقول عمير بن راشد بن عفيته:           قال الفهيم اللي من الجيل يختار
قافٍ تهيّا له على ما يريده               يمشي على المرجى دليل الي سار
ويعدل المعنى لمن يستفيده               قولٍ كما السكر على ورق الأزهار
                وأزهي من العقد المنظّم نقيده
ويحاول الشاعر النبطي من خلال سياقه لنص القصيدة وكلماته أن يُخفي مشاعره وعواطفه الخاصة عن الناس، وألا يُجاهر بها خيفةً من الواشين والكائدين.
ولكن ما يلبث أن يبوح بسرها الدفين، حيث يتغلب عليه شيطان الشعر ويُصرعه، فتنساب وعوده التي قطعها على نفسه بعدم البوح بمكنونه، كجريان الماء في التراب دون أن يُحرّك ساكنًا، ليستجيب لإبداع الشعر ودواعيه.
وهذه الصفة أخذت استمراريتها عند شعراء النبط، بمن فيهم المحدثون.
يقول الشاعر علي بن محمد القاضي:
فلا أقرا ولا أصلي صلاتي ولا أختلي              ولا استأحد الأهم فرقك يبرالي
خيالك وذكرت والوداد الذي مضى                تساون على قلبي توازن على بالي
أنا المبتلى المشتاق والمغرم الذي                 غرامك رماني في لحن كل قوالي
حقيقةً، هناك الكثير من الأمثلة في الشعر، ولكن ما يهمنا في هذا المقال هو الدراسة.
فرغم استجابة الشاعر لشيطان شعره، الذي يُصرعه ليأخذ بعض أسراره، تبقى هذه الاستجابة طوعية وبإرادته.
وتظل العملية الإبداعية متجلية في قدرته على عدم البوح كليًا بهذه الأسرار الخاصة جدًا.
فنجد الشاعر النبطي لا يُصرّح باسم الحبيبة التي يتغنى بها، لكنه يُعبّر عن طاقاته الإبداعية بصورة أخرى من خلال الرمز.
وتبقى قدرة الشاعر المبدع مستمرة ودائمة، وتصبح قريحته الشعرية متدفقة، تنقاد له القوافي، وتغدو ملك يديه، يُسرّها ويكسبها حسب ما يمليه قلبه المتوقد بها.
يقول الشاعر بن ظاهر:
يقول الفهيم المايدي اللي بنا
والأمثال ما بين الرواة اتعاد                       لها من ضميري جدول شايع النبأ
أدلاها لساني والقصيد اعتاد                      ويقول الشيخ محمد بن راشد المكتوم:
أحبر بيوت الشعر وأنقي ثمرها                   وطيعني طوع المدور صاها
وطيعني واصهر قوافي حجرها
صهر الحديد اللي يذوب حصاها                 نظم القوافي مزملي ما عسرها
وأرسم بيوت تطرب اللي قراها                    مثل النحت في الصافية من صخرها
يفنى الزمان ورسمها في بقاها
ويقول علي بن رحمة الشامسي:
أبدي الشعر وأقطن له                           وأتنقّى من غُزر
عند حصل مزمله                                والغالي يُنذكر
نرى أن أغراض الشعر النبطي تُشكّلها الحياة المعاشة، حيث تلعب البيئة دورًا كبيرًا في تشكيل الشاعر وتطريبه، ولذا تتجدد الصور والأساليب والرؤى والمعالجة لأحداث البيئة المتغيرة.
حيث يتجه بعض الشعراء إلى تناول حدث معين بالمدح، في حين يتجه الآخرون إلى الهجاء، وهكذا بحسب ما تمليه الرغبات الدفينة، وتظهره بصورة تنفيسية.
ومن هذا المنطلق، نجد أن أغراض الشعر النبطي تأخذ أشكالًا متعددة عن طريق المدح، والهجاء، والغزل، والغوص، والأشعار الدينية، والرثاء، والشكوى، والعتاب، والمساجلات، وغيرها من الأغراض.
والملاحظ أن الشعر النبطي في الإمارات، قديمه وحديثه، يُركّز بصورة ملفتة للنظر على ألوان الطبيعة، حيث نجد كمًا هائلًا من القصائد تناولت الظواهر الطبيعية، كالريح الهادئة أو نسمات الهواء الرقيقة، والمطر، والبرق، والرعد، التي تمثل الخير والعطاء.
فدائمًا تكون نسمات الهواء العليلة وهبوب الريح الهادئة رسولًا بين المحبين.
يقول محمد بن علي الكوس:
شرتا النسيم الطايف                     سر بلغ لي وصاة
وأنهي جداهم لايف                      سر للغالي عساه
يرحم غريم عايف                       قوت وشرب وحياة
ويقول عبدالله إبراهيم الكعبي:
يا نسيم البر قصادي                     شل هذا الخط وعنابه
وصله بوعقص ورادي                    واشرح الموضوع وأسبابه
يتغنى الشاعر النبطي القديم دائمًا بقوة الإبل وسرعتها في إيصال رسالته إلى من يحب، كما يتغنى بالسفينة إذا كان من شعراء الساحل، والتي كانت تمثل وسيلة مواصلات متقدمة وسريعة، خاصة بعد إدخال المحرك إليها.
نجد الشاعر القديم علي بن محمد بن قمبر يقول:
قم نديبي هات لي لنجٍ عجيب            قوته سبعين يمشي بالتمام
خل سيرك في قطر جانك ندب           نزلنيه هناك واقربك السلام
من بعد بادن لك عيّلت خبيب            من نسل طبيان نابيه السنام
إن عدّت شبه لعتاب اللي أمسيب        أو جما نتار طيّار الرهام

أما الآن، وفي ظل التطور السريع الذي يشهده العالم، فقد تغيّرت المعايير القديمة، حيث أعطت وسائل الاتصالات الحديثة الإنسان مفاتيح الدنيا بلمسة واحدة، وغدت السبل سهلة للوصول إلى ما يصبو إليه الإنسان.
يقول الشاعر مطر بن غدير:
عالم الأصداف بيّن لي                  اللي يبى الرحلة تسمحون له
هل بتسمح لي أنا وخلي؟                بنعبر في وسط كبسولة
والقمر لي عازل الظل                   عازمين نخفّ منحوله
كلنا في الوزن مختل                     ما نحس بثقل وحموله
فوق سطح القمر متعلّي                  نستعد وياك لنزوله
نترك الكبسولة تولّي                     كل من يمشي على رجوله
وهكذا تتغيّر الرؤية بتغيّر مظاهر الحياة وتعدّد الأفكار والموضوعات، ولكن نقولها صريحة:
إن التغيّر الذي طرأ على القصيدة النبطية طفيف، حيث تأتي معالجة الشعراء للموضوعات ضعيفة، وتكرارًا للقصيدة القديمة.
فلا توجد هناك رؤية جديدة واضحة تأخذ بيد القصيدة النبطية لتتخطّى التكرار، فأغلب الموضوعات والصور طُرقت بشكل أو بآخر، وكأن شعراء النبط يدورون في حلقة مغلقة.
إن الشعر النبطي، بما يحمله من عمق شعبي وجمال لغوي، يظل أحد أبرز ملامح الهوية الثقافية في منطقة الخليج العربي، ورافدًا حيًا للتراث العربي الأصيل. فهو ليس مجرد نظم شعري باللهجة العامية، بل هو سجل حيّ للأحداث، والمشاعر، والقيم التي شكّلت الوعي الجمعي للقبائل والمجتمعات البدوية.
ورغم التطورات الحديثة والتغيرات الاجتماعية والتقنية، لم يفقد الشعر النبطي مكانته، بل استطاع أن يتكيف مع متغيرات العصر، محافظًا على جوهره وملامحه الفنية. وفي ظل الاهتمام المتزايد من المؤسسات الثقافية والمهرجانات الأدبية، يظل الشعر النبطي مرشحًا للاستمرار، لا كفنٍ تراثي فقط، بل كمسار تعبيري متجدد، يجمع بين الأصالة والإبداع، ويعبّر عن الإنسان الخليجي في كل زمان.