الصهاينة فاوضوا هتلر… والعرب يتساءلون من خان أولاً!

ا. د. هاني الضمور
بين صفحات كتاب “بين الأمم” للمؤرخ الأمريكي ليني برينر، تتكشّف وقائع مذهلة، ليس لأنها تسرد تحالفًا صادمًا بين الصهاينة والنظام النازي فقط، بل لأنها تفضح كيف يمكن لمشروع أن يتقدّم، حتى وهو يفاوض جلّاده، إذا ما توفرت له الرؤية والإرادة. في ثلاثينيات القرن العشرين، بينما كانت ألمانيا تغرق في أجواء الفاشية والعنصرية، كان قادة من الحركة الصهيونية يفتحون قنوات مع النظام النازي من أجل تسهيل تهجير اليهود إلى فلسطين، في ما عُرف بـ”اتفاقية هافارا”.
لم يكن ذلك خيانةً من وجهة نظرهم. بل كان ما يلزم فعله من أجل هدف أكبر. فعلوا ذلك بدم بارد، تجاوزوا العواطف، قرأوا المتغيرات، واستخدموا العدو كوسيلة لبناء الحلم. نعم، تفاوضوا مع القَتَلة، ولكنهم حصلوا على ما أرادوا. والأهم: لم يعتذروا لأحد.
وفي الطرف المقابل… ماذا فعل العرب؟ لا شيء يُذكر على مستوى الفعل الاستراتيجي. ظلوا غارقين في صراعاتهم الداخلية، يتقاذفون التهم، يتجادلون حول من خان القضية أولًا، ومن أضاع البوصلة، ومن فرّط ومن باع، بينما الخصم يبني مؤسساته، يخترق مراكز القرار في الغرب، ويُعيد تشكيل المنطقة كما يريد.
الصهاينة أدركوا مبكرًا أن العواطف لا تبني دولًا، وأن من لا يملك مشروعًا سيتحول إلى تابع. فتحوا أبوابًا خلفية مع الاستعمار البريطاني، ثم الأمريكي، وواصلوا الاستثمار في النفوذ، حتى أصبحت واشنطن مظلة سياسية وعسكرية واقتصادية لكيانهم. مليارات من المساعدات تُقدّم سنويًا، صفقات تسليح متقدمة، فيتو أمريكي يُستخدم في كل محفل دولي لحمايتهم من الإدانة أو المحاسبة، إعلام ناطق باسمهم في كل لغة… وكل ذلك لأنهم عرفوا كيف يُحسنون إدارة أوراقهم.
لكن، في المعسكر العربي، لا تزال الحسابات قصيرة الأمد، مرتبطة بكرسي الحكم لا بمصير الأمة. تارة تُختزل فلسطين في بند هامشي على جدول القمم، وتارة تتحوّل إلى مادة إعلامية موسمية، وتارة تُستخدم كذريعة لتبرير الفشل الداخلي. لا مشروع موحد، لا رؤية بعيدة، لا مؤسسات تملك عمقًا استراتيجيًا، ولا لوبي عربي يضغط في دوائر القرار العالمية.
حتى الرأي العام العربي، رغم غضبه النبيل، ظل سجين ردود الفعل، أسر العاطفة، دون أن يُترجم ذلك إلى أدوات ضغط فاعلة. نبكي على غزة، ونتضامن مع القدس، ونلعن الاحتلال ألف مرة، ثم نعود إلى حياتنا كأن شيئًا لم يكن. أما الخصم، فلا يتوقف لحظة. يخطط، يفاوض، يتقدم، يُقنع، ويستثمر كل لحظة فراغ نعيشها.
كتاب “بين الأمم” لا يُقرأ فقط كوثيقة تاريخية، بل يجب أن يُقرأ كصفعة سياسية. إنه يقول لنا ببساطة: من لا يفكر بجرأة، من لا يملك خطة، من لا يُتقن فن التحالف والمواجهة والمراوغة، لن يكون له مكان على طاولة التاريخ.
العدو تفاوض مع قاتله وخرج بدولة. ونحن، أصحاب الأرض والقضية والحق، ما زلنا نراوح مكاننا، نبحث في دفاتر الخيانة عن المتهم الأول. بينما تُقصف غزة، ويُحاصر الأقصى، ويُقتل الحلم أمام أعيننا، نبقى نحن مشغولين في سرد المآسي لا في صناعة الحلول.
فهل نُفيق؟
هل ندرك أن العالم لا يحترم إلا القوي؟ أن الخطابات لا تُهزم جيوشًا؟ أن التمنيات لا توقف الاستيطان؟
أم أننا سنظل نردد شعارات الأمس، بينما العدو يكتب سيناريو المستقبل، سطرًا بعد سطر؟
لقد فاوضوا هتلر…
فمتى نفاوض نحن الواقع بشجاعة ووضوح قبل أن يُغلق الباب إلى الأبد؟
كاتب اردني