محمد صخي العتابي: نص مسرحي بعنوان “قبر مؤجل” (مونودراما) من تأليف محمد صخي العتابي

محمد صخي العتابي
((كل صمت طويل هو صرخة مؤجلة تنتظر الولادة)) المؤلف
بيئـة العـرض…
(تفتح الستارة على رجل جالس في منتصف المسرح، داخل صندوق كبير، متآكل وله ثقوب تشبه العيون، في الظلام يصعب تمييزه) هو (بصوت منكسر):يا صندوقي المظلم… هل كنت دائماً بهذا القسوة؟ أم أنني أنا من جلبتك إلى هذا الحال؟ (ينظر حوله ببطء) كم يشبه عالمك هذا السواد الذي أعيش فيه… هل يعقل أني اخترتك مأوى لي؟ أم أن الحياة اختارت لك أن تكون قبري الحي؟(يمد يده ليلمس الجدار الداخلي للصندوق… بغضب):لماذا لم تكن دافئاً؟ لماذا لم تحتضنني كما يفعل المكان للإنسان؟ أم أنني صرت شيئاً لا يحتضن؟(يتوقف لحظة، ثم يتحدث لنفسه) أم ربما أنا السبب… ربما أنا الذي فقدت القدرة على أن أحتضن (ينظر حوله صارخاً):إلى متى سأبقى هنا؟ إلى متى ستحبسني هذه الجدران الصماء؟ إلى متى سأظل أهرب من أنياب الأيام هنا؟(يهدأ، يخاطب الصندوق بلطف) يا صندوقي… هل دخلت إليك طوعاً أم كرهاً؟ أهو الخوف من الخارج أم الرغبة في الراحة من كل شيء؟(بهدوء ثم بحدة) لا أعلم… لا أعلم (يصمت للحظات، يتأمل المكان من حوله، ثم يبتسم بسخرية):كم هو مضحك أن أكون هنا، داخل هذا الصندوق… أين ذهبت أحلامي؟ أين ذهبت تلك الأيام التي كنت فيها أغني؟(بمرارة) نعم، كنت أغني، لكن لم أغنِ خارج السرب… كنت أحلم، لكن لم أحلم بحياة خارج هذا الألم (يتوقف فجأة، يمد يده إلى جيبه ويخرج مرآة صغيرة، ينظر إلى انعكاسه فيها بصوت متألم):كم أصبحت غريباً حتى عن نفسي… كيف أصبحت سجين هذا المكان؟(يمسح وجهه بيده)آه… حتى وجهي تغير، كأن الزمن قد رسم خطوطه عليه، وكأن الألم نقش اسمي على جبيني (بهدوء):أصبحت بقايا لإنسان… بقايا لحلم كان يوماً وردياً… كل شيء أصبح خارج النطاق، إلا الموت… نعم، الموت الوحيد الذي ما زال يتربص بي (يضع المرآة جانباً وينظر إلى السقف متسائلاً):من الذي سيموت أولاً؟ هل أنا الذي حمل على عاتقه كل هذا الألم؟ أم أنت يا صندوقي، حينما تنهار جدرانك على نفسي؟(يضحك ضحكة مختنقة):أم أنك أيضاً لن تهتز، مثل كل شيء في هذا العالم؟(تتساقط قطرات وهمية من السقف، ربما دمع، ربما دم بهمس):حتى الدمع لا يعرف كيف يصلي على هذه الأرض… كم من صلاة قيلت على أرواح بلا عناوين؟ كم من حلم دهسته الأقدام قبل أن يبزغ؟(بصوت عالٍ)ما أصعب أن تصبح مجرد ظل… ظل يتدحرج بين الحياة والموت، بين الأمل واليأس (يصمت للحظات، ثم ينهض فجأة …بعزيمة):لكن لا… لن أكون هكذا للأبد. سأخرج من هذا الصندوق… سأواجه الضوء مرة أخرى، حتى لو كان مؤلماً… سأمزق هذه الجدران وأبحث عن الشمس، عن دفء لم أعرفه منذ زمن (يقترب من الصندوق، ويضع يده على الجدران المتهالكة بصوت قوي): سأقاتل حتى آخر رمق (يبدأ في الضرب على الجدران بعنف) كفى، كفى من الخوف! لقد عانيت بما يكفي، وأنا هنا، أواجه هذا الكابوس (يتوقف للحظة، يلتقط أنفاسه، ثم يتحدث بهدوء، لكن بجدية): لقد أغلقت على نفسي، وهذا ما يجب أن يتوقف. لا يمكنني البقاء سجيناً أكثر من ذلك (يستمر في الطرق على الجدران): لن أسمح لهذا الصندوق أن يكون قبري (تتساقط قطع من الخشب من الجدران مع كل ضربة، تنبعث من مكان ما أصوات شبحية تشبه همسات…بصوت مرتجف): هل تسمعوني؟! هل تسمعوني، أيها الأشباح المخبأة في الظلام؟ (يقترب من الثقوب ويضع أذنه عليها): ماذا تريدون مني؟ هل أنتم مرآتي التي أبتعدت عنها؟ أم أنتم الصدى لأحلامي المفقودة؟ (يستدير فجأة): لا! لا أريد أن أكون مجرد صدى (يتخيلهم حوله، بينما يعود الضوء تدريجياً إلى الصندوق يبتسم): آه، هناك… هناك أنتم! لم تتركوا لي، حتى في أحلك الأوقات. (يبدأ في الضحك، وهو يضع يده على قلبه): أنتم الأمل الذي لا يموت (يأخذ نفساً عميقاً، ثم ينظر إلى جدران الصندوق): سأخرج من هنا. سأنفتح على الحياة مرة أخرى. سأعيد بناء نفسي، حتى لو تطلب الأمر كل طاقتي (يبدأ في تحطيم الجدران بشغف، محاولاً الخروج): انكسروا، أيها القيود! انتهت تلك الأيام المظلمة.
(تنهار أجزاء من الصندوق، ويسقط بعض الخشب على الأرض. يتسلل خيط ضوء خافت من أحد الشقوق، يعكس على وجهه المتعب… ينظر
اليه… بهمس متردد): هذا… هذا ضوء؟ (يقترب ببطء من مصدر الضوء، يمد يده إليه كما لو يختبر حقيقته، يلامسه، يرتجف، يتراجع قليلًا)
(بصوت متشكك): هل هذا خلاص… أم وهم جديد؟ (يتقدم خطوة، ثم يتراجع أخرى، ثم يقف جامدًا):
كم مرة حلمت بالخروج… وكم مرة خفت منه؟ الخارج… مجهول. الخارج… قد يبتلعني كما ابتلع من قبلي. لكني… (ينظر إلى يده المرتجفة): لكني لم أعد أحتمل هذا الركود… هذا الصمت الذي يعلقني بين الحياة والموت.
(يسمع صوت خافت كأن أحدًا يناديه من الخارج، صوت غير واضح، مشوش):
أنا… هنا. هل تسمعني؟ (يصمت، يقترب أكثر من الضوء) هل حقًا يوجد أحد هناك؟ أم أنني… أتوهم من شدة الحنين؟
(يجثو على ركبتيه، يضع رأسه قرب الفتحة، يهمس):
ماذا لو خرجت ولم أجد شيئًا؟ ماذا لو خرجت… وفقدت آخر وهم آمنت به؟ (يتنفس ببطء، كأنه يوازن القرار): لكن، ماذا لو… وجدت نفسي؟
(ينهض بهدوء، يحمل قطعة من الخشب سقطت من الجدار، يتأملها، ثم يرميها خارج الفتحة)
(بهدوء): هذا جزء مني… خرج. (ينظر بخوف إلى الفتحة) هل أتبعه؟
(يصمت، ثم يتحرك نحو الجدار المتآكل، يضع يده عليه، يهمس):
يا صندوقي… كنت مأواي، وها أنا أهجرك. (لحظة صمت، ثم يبتسم) لكنني لا أتركك كرهًا… بل شكرًا.
(يأخذ نفسًا عميقًا، ثم يبدأ بتمزيق الجدار أكثر، فتتسع الفتحة تدريجيًا، حتى تتسلل منها أشعة ضوء أقوى، تكشف جزءًا من وجهه، وجه مليء بالتجاعيد)
(يقف عند الفتحة، يتردد، ثم ينظر للجمهور
بصوت شبه خافت، متردد): سأخرج… (لحظة صمت) أو ربما… سأبقى. (يضحك ضحكة خفيفة) من يدري؟
(ينظر إلى الضوء، ثم يعود بنظره إلى الداخل، حيث الظل يلف الركن الذي اعتاد الجلوس فيه)
(بصوت عميق، ساخر لكنه مؤلم): ربما لا أحد يخرج حقًا… وربما لا أحد يبقى فعلاً…
(ينظر إلى الفتحة من جديد، ثم يتقدم خطوة واحدة فقط نحو الضوء…
يتحدث إلى نفسه): الخطوة الأولى… يا لها من كلمة ثقيلة… أخطر من كل الضربات التي تحملتها هنا، أثقل من الصمت… من الظلام… من المرآة التي نسيت وجهي الحقيقي خلفها.
(ينظر خلفه إلى داخل الصندوق، يتقدم نحوه بخطوة صغيرة، يلمس الجدار المنخور)
(بصوت حنين): كم مر يوم هنا، لا يشبه اليوم؟ كم صرخة ابتلعتها هذه الجدران دون أن ترد؟ كم مرة صدقت أنني خلقت لهذا المكان؟ (يتنهد): وهل يمكن للعادة أن تصبح قدرًا؟
(ينظر إلى الخارج من جديد، يضع يده على الحافة)
(بحزم ): ليس الخوف ما يمنعني الآن… بل أني لم أعد أعرف من أكون خارجه… أنا ابن هذا الصندوق… صنيعة هذا القيد… لكني أيضًا… أنا الذي ضربت الجدران.
(صمت ثقيل… ثم يتردد صوت، كأنه صدى من داخله، غير واضح، لكنه يشبه صوته في الطفولة):
الصوت (هامسًا): كن أنت… مهما كان الخارج.
(يرتجف، يتلفت، يتقدم خطوة أخرى نحو الفتحة، يمد رأسه قليلًا كمن يرى شيئًا)
(بهمسٍ مذهول): ضوء… وأصوات… ضحكات أطفال؟ هواء… مختلف… يحمل شيئًا من الحياة.
(يعود خطوة إلى الخلف، كما لو أنه خائف من السعادة، من المفاجأة)
(بصوت عميق): هل هذا هو الأمل؟ أم أنه خدعة جديدة… وربما… لا فرق بين الأمل والخداع، إلا بالخطوة.
(يتقدم ببطء، يخرج قدمه الأولى خارج الصندوق، يقف عند الحافة، يتردد)
سأجرب… حتى لو عدت محطمًا… على الأقل سأكون قد خرجت.
(تتسع الفتحة، يفيض الضوء منها أكثر، يغمر نصف المسرح تقريبًا، ثم…
يتوقف عند الحافة، يدير وجهه نحو الجمهور، يهمس):
وإن لم أعد… تذكروا: أن داخل كل صندوق هناك روح تنادي.
(ثم يخرج خطوة كاملة خارج الصندوق، في الضوء… لكن جسده يظل نصفه في الظل، ونصفه في النور…
(الضوء يتلاشى تدريجياً عن الصندوق، ويتركز عليه… نصفه في النور، نصفه في العتمة… وجهه تارة هادئ، وتارة مضطرب، كأنه على وشك اتخاذ قرار مصيري)
(بصوت داخلي كأنه حديث النفس): خرجت؟ لا… لم أخرج بعد. الجسد قد يغادر، لكن الروح… الروح لا زالت هناك، جالسة في ركن ما من ذلك الصندوق، تحمل المرآة الصغيرة وتنظر… تبحث عن وجه يشبهني.
(يخطو خطوة أخرى، ببطء… الضوء يتسع أكثر، لكن فجأة يسمع صوت خشخشة خلفه… يلتفت، الصندوق يصدر أنيناً خافتاً، كأنه يحتضر
…يرتجف قليلاً، يهمس): هل… هل تحزن لغيابي؟ أم أنك فقط لا تحتمل الفراغ؟ (صمت):كنت سجني… لكنك كنت أيضاً شاهدي. من دونك، من يشهد على الألم؟ من يحفظ آثار الندم؟
(ينظر إلى يده، كأنها ترتجف، ثم يفتح كفه ويرفعها إلى السماء)
(بصوت، فيه ارتباك):
ما الذي ينتظرني هناك؟ ضوء؟ حرية؟ أم صندوق جديد… فقط أكبر؟!
(يسمع صوت ضحكة طفل بعيدة… يلتفت بسرعة… يبتسم)
(بهمس):كان هناك طفل… في أحلامي القديمة… كان يقول لي: الظلمة ليست بيتك… بل عبورك.
(يتقدم خطوة ثالثة، الضوء يكاد يبتلعه… لكنه يقف فجأة)
(يصرخ):لكنني لم أتعلم كيف أعيش بلا جدران.
(يصمت، ثم يضحك كأن شيئاً قد خطر بباله)
(بمرارة): هل عليّ أن أبني صندوقاً جديداً في الخارج… فقط كي أشعر بالأمان؟ (ينظر للجمهور) أخبروني أنتم… من منكم لا يعيش في صندوق؟ من منكم لا يحتمي بجدار صنعه بنفسه؟ الفرق الوحيد أن جدراني كانت مرئية.
(يأخذ نفساً عميقاً… يتقدم نحو حافة الضوء، لكن قبل أن يخرج تماماً… يتوقف)
(صمت مطبق، لا موسيقى، لا حركة… فقط وقوفه هناك… متردداً)
(بهمس أخير): هل أخرج؟ أم أعود؟ أم أبقى هنا… بين بين؟ (ينظر إلى يده، ثم إلى الصندوق، ثم إلى النور) ربما… لا أحد يخرج تماماً. وربما… لا أحد يعود كما كان.
(ينظر إلى الجمهور نظرة طويلة…
تطفأ الأضواء وتغلق الستارة)
أنتهــــــــت