حميد عقبي: ناريمان علوش في مشهدٍ سردي ـ شعري يُلامس حدود الحلم والكوابيس

حميد عقبي: ناريمان علوش في مشهدٍ سردي ـ شعري يُلامس حدود الحلم والكوابيس

حميد عقبي

تكتب الشاعرة اللبنانية ناريمان علوش بلغة تسعى  إلى  نسج نوع من المشهدية  والتكثيف الشعري. والنص الذي سنتأمّله هنا هو أقرب إلى البوح والهمس، مشهدٌ سردي ـ شعري يتسلّل إلى قمم الأحلام وغياهب الكوابيس، ويشكّل تجربةً نفسية مشحونة بالانفعالات والظلال.
هو همسٌ داخليّ يُروى من عمق لحظة اضطرابٍ عاطفي وفكري، حيث تتداخل الذاكرة بالمخيّلة، واللغة الباحثة عن النجاة بالواقع المرتجف.
لنتوقّف عند هذا النص بتأنٍّ وموضوعية، وقبل أن نشرع في التحليل، نترككم مع النصّ كما هو:
لم تكن ليلة عادية، كان العتم كثيفًا كجفن متورّم بالبكاء، يمتدّ حولي كنداء طويل خائف ومرتعش…
َكابوسٌ تسلّل من شقوق ذاكرتي كدخان أسود…
كانت أنفاسُه حارّة كأنفاس وحشٍ مختبئ في زاوية مخيّلتي، يمشي على أطراف حماقتي،
ويلبس وجوهًا أعرفها، لكنّها مشوّهة، مشروخة،
كأنّ الحياة أعادت تشكيلها من رماد.
لم يكن يطاردني، بل يتقدّمني بخطوة،
يفتح لي أبوابًا لا تؤدّي إلى مكان، ويهمس لي بكلمات أعرف أنّها كاذبة، لكنّني تأمّلت أنها بابٌ للنجاة فتبعتها…كان الوقتُ مائعًا،
والأرض تميل بي كلّما حاولت الوقوف، كأنّني أسير داخل قصيدة مكسورة، يتكرّر فيها البيت ذاته، لكنّ المعنى يزداد ألمًا كلّ مرة.
كان المشهد يشبه يديّ حين ترتجفان،
يشبه صوتي حين يُحبس في حنجرتي،
ويشبهني… حين لا أكون أنا.
لكنني نجوت… لا بسيف، ولا بصرخة، بل بحرف صغير خبّأته تحت لساني، نطقته خفيةً، فانشقّ الحلم وتسلّل منه الضوء.
نهضتُ من فراشي كأنّني خرجت من معركة،
مرتجفة، لكنّني أتنفّس.
سكبتُ على قلقي ماءً بارداً، وكتبت…
كتبت كأنني أخيّط روحي بحبر دافئ.
نجوتُ لأنني شاعرة، وأعرف كيف أروي الحكاية حتى في عزّ الفزع والخوف.
أعرف كيف أجد بابًا في الجدار، ونجمةً في السواد… وبيتًا من الشعر يحميني من الهلاك.
ناريمان علوش

بوحٌ على الحافة

لا يسرد هذا النص “حكاية” بالمعنى التقليدي، ولا يتبع أسلوب ما بعد الدراما، لكنه يُشكّل مشهدًا داخليًا متصدّعًا تتحرّك فيه الذات بين الكابوس والبحث عن النجاة؛ يخنق اللغة ثم يحرّرها، ليعيد بعثها من رمادها. نحن أمام تجربة شعريّة سرديّة تتسم بالبساطة وتحاول بجدية أن تنسج ثيماتها في جسد الارتجاف، دون أن ترهق نفسها بوصف مباشر أو انغماسٍ حلميّ. سعت الشاعرة إلى بناء المعنى من شظايا متكرّرة، صور تتماوج وتتشظى، بعضها يتلاشى، وبعضها يظل يبحث عن بابٍ للهروب، دون تطوّر خطّي حكائي. وهذه ـ في رأيي ـ طريقة شعرية تتفوّق أحيانًا على “الحكاية المؤثرة”.
ناريمان علوش كأنها تتفادى عمدًا أن تكتب “حدثًا”. إنها ترسم توترًا داخليًا، هذيانات نفسية ناعمة، لا تهرب من الذات، بل تشتبك معها، تُعرّيها وتحاول إعادة رسمها بلغة مشهديّة تميل إلى التكثيف والتوتر. السردية هنا لا تتقدّم عبر أفعال أو شخوص أو أمكنة أو عناصر درامية، بل من خلال تحوّل في الوعي، حيث تتحوّل الكتابة إلى حبل نجاة، والحرف إلى مقاومة خافتة في وجه الاضطراب. ثمة من يطاردها، وأبواب تُفتح ولا تقود إلى مكان.
الصور ليست زخرفة قد تتلاشى أو تنكسر، بل أدوات انفعالية تنحت أثرها في الجسد والروح، في الصوت والرؤية. اللغة هنا ترتجف، كما ترتجف اليدان، ويتكرّر البيت كما تتكرّر الصدمة في لحظة شلل النوم. النهاية لا تقود إلى انفراج أو تحقيق رغبات بسيطة، بل إلى ارتجافة نجاة، لا خلاصًا جسديًا واضحًا. يظل الحرف المكتوم، رغم هشاشته، هو سلاح النجاة، ووسيلة إنقاذ الذات من التدحرج نحو اليأس، بالكتابة التي “تخيط الروح بحبر دافئ”.
نصّ كهذا قد يُختلف على تصنيفه: أهو سردٌ أم شعرٌ؟ لكنه ـ في حقيقته ـ أسلوبٌ وشكلٌ خلقته اهتزازات داخلية تسائل العلاقة بين الكابوس والقصيدة، وتؤكد أن النجاة ممكنة فقط حين تُستعاد “الهوية الشاعرة”.
خاتمة
نحن أمام نصّ لا يدّعي التعقيد، ولا يُربك نفسه بلعبة اللغة أو زحام الرموز،اختارت الشاعرة طريق البوح البسيط والعفوي، حيث تتجلّى الأنا بوضوح دون مواربة وخوف. تكتب ناريمان علوش من الداخل، بلغة لا تفخم ذاتها، وإنما تسعى لاحتواء قلقها الأنثوي بصوت هادئ، مشحون بما يكفي ليصل إلى المتلقي.
الثيمات هنا ليست غامضة أو متداخلة، بل واضحة: الكابوس، النجاة، الحرف، الذات.
لكن البساطة ليست سطحية، والعفوية ليست فقرًا فنيًا، بل اختيارات أسلوبية تناسب واقعنا المضطرب بالحروب والنكبات والفجائع، تؤسس ناريمان، لنصّ يعرف كيف يقدّم الوجدان في صورة نقيّة وموحية، وتُخيط ألمها بحبر دافئ.
إنه نصّ من النصوص التي يمكن وصفها بأنها تعيد الاعتبار للقوة الكامنة في اللغة والأنثى والروح الإنسانية حين تخرج لتنتصر، نص يحمل كلمات من القلب مباشرة، دون زخرفة زائدة، ودون أن تتخلى الشاعرة عن لمستها وهويتها الشاعرية.