د. خالد فتحي: ترامب وكوفيد 19 الطويل؟

د. خالد فتحي
في ظل شخصية مثيرة للجدل ومعقدة مثل شخصية ترامب، يصبح من الصعب جداً على التحليل السياسي تفسير دوافعه وقراراته غير المتوقعة. واذا كان هذا التحليل السياسي يواجه صعوبة في فك رموز سلوكياته، فالتحليل النفسي قد يكون المفتاح لفهم هذه الظواهرلديه . إن تركيبة شخصية ترامب، التي تتسم بالغموض والتناقضات، تجعل من الضروري التطرق إلى مزيج من العوامل النفسية والجسدية لفهم دوافع قراراته على النحو الصحيح .
ترامب في ولايته الثانية ليس هو نفسه في ولايته الأولى. أصبح أكثر حماسة، وأشد تصميماً على تنفيذ وعوده للناخبين. ويظهر هذا بشكل خاص في عدوانيته التي لا تقتصر على خصومه التقليديين مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية، بل تمتد لتشمل كل أنحاء العالم. هذه العدوانية ليست انعكاساً لسياسة خارجية تقليدية، بل هي تعبيرا عن حالة نفسية داخلية تتحكم في سلوكياته السياسية.
من أبرز سمات الأشهر الأولى من ولايته الثانية هو سعيه لعزل أمريكا عن العالم. بالطبع، لا يصرح بذلك بشكل علني، لكن قراراته تكشف عن هذه الرغبة العميقة التي تسكنه. ومن هنا يبرز سؤال نفسي مهم: ما هي الدوافع العميقة التي تدفعه لاتخاذ هذا الاتجاه المعادي للعالم؟ هل هي فقط المصالح السياسية من تحركه أم ان الأمر يتعلق بانعكاسات لصراع داخلي لا شعوري؟
إذا حاولنا تحليل ترامب كما يفعل الطبيب النفسي مع مريضه، يمكننا أن نضعه “افتراضيا ” على “سرير الاعتراف”، ونغوص في أعماق لاشعوره، ونبحث في ذكرياته و في الأزمات التي مر بها، لعلنا نكتشف العقدة التي تفسر سلوكه السياسي. إن تحليل ترامب كظاهرة نفسية يمكن أن يفتح لنا آفاقاً جديدة لفهم السلوكيات السياسية التي تبدو في ظاهرها غير منطقية أو متناقضة.
قصة ترامب التي تهمنا تبدأ منذ دخوله الأول للبيت الأبيض في 20 يناير 2017. بالطبع، عاش العديد من الأحداث واللحظات المثيرة، لكن أصعبها كانت تلك اللحظة التي اضطر فيها إلى إغلاق أمريكا بسبب جائحة كوفيد-19. لم يكن هذا الإغلاق مجرد تقويض لنجاحاته الاقتصادية، بل كان سبباً رئيسياً في خسارته للانتخابات الرئاسية. كانت تلك اللحظة بمثابة اختبار حقيقي لقدرته على التعامل مع الأزمات، وقد فشل في تفعيل استجابة فعالة لها، مما خلق إحساساً بالفشل الشخصي الذي أثر على ثقته بنفسه بشكل عميق.
يتذكر الجميع كيف تأخر ترامب في اتخاذ إجراءات حاسمة لمكافحة المرض، وكيف تصاعدت أرقام الوفيات في الولايات المتحدة بشكل كارثي، بل وكيف اضطر للهروب إلى الأمام موجها اتهاماته إلى الصين بتصنيع الفيروس ناعتا إياه “بالفيروس الصيني”. كانت ردود فعله عاطفية وغير مدروسة، وهو ما يعكس تأثير هذه الأزمة إلى الآن على نفسيته. و هذا قد يشرح لماذا ، بدأ ترامب بمرور الوقت يتبنى مواقف أكثر انغلاقاً وشكوكاً، حيث بدأ يشك في جدوى التعاون الدولي ويعزز سياسة الانعزالية التي لا تقتصر على المجال الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى العلاقات الدبلوماسية والعسكرية.
مرت أزمة كوفيد، وغادر ترامب البيت الأبيض، لكنه عاد بعد ذلك إلى الساحة السياسية، إلا أن كل المؤشرات تدل على أنه لم يتعافَ من آثار تلك الأزمة. ربما يكون قد أصيب بما يُعرف بـ “كوفيد الطويل”، إلا أن أعراضه لديه تختلف عن تلك التي يشير إليها الأطباء . ليس الأمر في حالته مرتبطاً بفقدان مستمر لحاسة الشم أو صداع مزمن أو آلام متفرقة بالجسم ، فهو يبدو في كامل لياقته البدنية ، بل يكمن في خوف داخلي يشده…. خوف من أن تتكرر تلك الأزمة مرة أخرى او تحل به ازمة شبيهة لها . هذا التوجس يعصف به دائماً، ويجعله يعتقد أن هناك مؤامرة جديدة قد تكون من الصين مرة أخرى أو حتى من أوروبا. هذا الهاجس يعشش في عقله الباطن، ما يجعله غير قادر على استبعاد فكرة حدوث “حجر صحي” جديد.
من طرق الدفاع النفسية في مثل هذه الحالات، قد يُصاب الشخص بحالة من الهلع التي تجعله يسارع في تحقيق هذا الخوف بشكل غير إرادي. في حالة ترامب، يتجسد هذا الهلع في رغبة شديدة في السيطرة على المستقبل. وهذا ما يفسر اتخاذه لقرارات متسرعة، مثل فرض الحواجز الجمركية العالية على الصين وعلى كل العالم ، أو الانسحاب من التزامات أمريكا الدولية. إن هذه الإجراءات، وإن بدت في ظاهرها جزءاً من سياسة اقتصادية أو استراتيجية، إلا أنها في جوهرها تمثل محاولة للتخفيف من القلق العميق الذي يشعر به ترامب تجاه المستقبل.
لم ينتظر ترامب أن تفرض الأزمة نفسها مجدداً. بل قرر أن يفرض “الحصار” على أمريكا بنفسه، عبر رفع الرسوم الجمركية، وقبل ذلك قام بتقليص التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف الناتو لدرجة أن هناك من يعتقد أن أمريكا قد تنسحب من هذا التحالف العسكري. في هذا السياق، يمكن النظر إلى سياساته على أنها محاولة للبحث عن أمان نفسي من خلال عزل أمريكا عن العوامل الخارجية التي قد تهدد استقرارها، ولكن دون النظر إلى الآثار طويلة المدى لهذه السياسات على الصورة العالمية للولايات المتحدة.
تبقى ذكريات ترامب عن أزمة كوفيد حية في ذهنه. ترامب قبل كوفيد ليس هو ترامب بعده. وما نراه اليوم هو في جوهره تداعيات كوفيد-19. صحيح أن الزمن قد مر قليلاً عن تلك الأزمة، لكن الصين، التي انطلقت منها الجائحة، هي المسؤولة عن كثير من الاضطرابات والأزمات التي أصابت السلم والاقتصاد العالميين. ورغم أن ترامب هو من يتحمل المسؤولية ظاهرياً، إلا أن الحقيقة تكمن في أن كوفيد كان العامل الحاسم في تشكيل مواقفه السياسية وعلاقاته الدولية. إن استمرار ترامب في التصدي للمخاوف الداخلية والخارجية يشير إلى أن جائحة كوفيد قد تركت أثراً عميقاً في شخصيته، وأن الشفاء من هذا “الكوفيد الطويل” لا يتعلق فقط بالجسد، بل بالعقل والروح أيضاً.