د. خالد فتحي: علال الفاسي يكتب إلى طه حسين… رؤية براغماتية وإدراك مناضل استراتيجي

د. خالد فتحي: علال الفاسي يكتب إلى طه حسين… رؤية براغماتية وإدراك مناضل استراتيجي

د. خالد فتحي
سعدتُ أيَّما سعادة وأنا أضع يدي على رسالة للزعيم الوطني النادر علال الفاسي، كان قد وجّهها سنة 1950 إلى عميد الأدب العربي طه حسين، وقد نُشرت ضمن الكتاب الذي أصدرته مؤسسة علال الفاسي بعنوان: “رسائل تشهد على التاريخ”، المحقَّق من طرف الباحث المُجدّ الأستاذ المختار باقة. والحقيقة أن مصدر سعادتي لا يقتصر على العثور على الوثيقة، بل يكمن في أنها أثبتت حدسًا كان يراودني، بأن علال، الذي أقام في القاهرة بين سنتي 1946 و1952، لا بد، وهو العلّامة الفقيه، والمفكر الموسوعي، والتنويري الأصيل، أن يكون قد تواصل مع طه حسين، أحد أعلام الأدب والفكر العربيين في مصر.
غبطتي كانت مضاعفة أيضًا، كون هذين المفكرين الألمعيين يسامراني بشكل شبه يومي، إذ يستوليان مناصفة ولوحدهما على أكثر من نصف خزانتي الأدبية، وبالتالي فإن صورتيهما المطبوعتين على أغلفة أغلب كتبهما ترافقاني ليل نهار، لأني أضع مؤلفاتهما بالذات على مرمى يدي وناظري على الدوام.
الرسالة مؤرخة بتاريخ 18 أكتوبر 1950، وقد أُفرج عنها بمصر ضمن كتاب من 1081 صفحة بعنوان: طه حسين.. الوثائق السرية، حققه الدكتور عبد الحميد إبراهيم. تقع هذه الرسالة في ثلاث صفحات وتحمل التوقيع التالي: المخلص محمد علال الفاسي، وهي تهمّ تأسيس مدرسة عربية (مصرية) بطنجة.
رسالة مقتضبة، مركزة، مكثفة، تعتمد أسلوب كتابة مباشر، لا تشكو من أي إطناب أو تكلّف أو تزيد، كما قد يُغري ذلك أديبًا من غير علال الفاسي إذا كتب لهرمٍ في الآداب العربية كطه حسين. وهذا مما قد ندلل به على أمرين اثنين:
أولهما، أن علال الفاسي كان يحبذ الكتابة السهلة الممتنعة التي تصل إلى العقول دونما مشقة أو جهد مضنٍ، وهي نفس الخاصية التي كانت تميز كذلك الأسلوب الفريد لطه حسين.
وثانيهما، أنك تحس أن علال الفاسي كتب هذه الرسالة دون أي تهيب من أديب كان يملأ الدنيا ويشغل الناس بإنتاجه الغزير وكتاباته المثيرة للجدل، مما يعكس في نظري توازيًا في المقامات العلمية بين طه حسين وعلال الفاسي، على اختلاف في سِمَتِهما وطبيعة إنتاجهما الفكري. مع واجب التذكير أيضًا بأن علال، على عكس طه حسين، كان يستغرق منه النضال ضد الاستعمار معظم وقته وجهده. ولربما لو لم يكن الأمر كذلك، وقيّض له ما قُيّض لعميد الأدب العربي من سعة الوقت وظروف البحث المواتية منذ غادر الأزهر والتحق بالجامعة المصرية، ومنها إلى الجامعات الفرنسية، وكان قد قعد مثله للتأليف كما قد قعد، لكان إنتاج هذا المفكر الفذ قد ضاعف عدة مرات إنتاج طه حسين، ولكان قد طرق ألوانًا أخرى من فنون الكتابة كالرواية والقصة والبحث في تاريخ الآداب شرقيها وغربيها، كما قد فعل صاحب الأيام.
هذه الرسالة، بالشكل والانسيابية والتدفق والجرأة ورفع الكلفة الذين كُتبت بهم، رغم محافظتها على الطابع الرسمي، تُفيد كذلك أن علال الفاسي لم يكن غريبًا عن النخبتين الفكرية والسياسية المصريتين، بل كان منغمسًا في الوسط الثقافي بالقاهرة، ومتابعًا جيدًا للأحداث، ومنخرطًا عضوياً في النهضة الأدبية والإعلامية التي كانت تشهدها مصر وسوريا آنذاك.
بدورها، تدفعني هذه الملاحظة إلى تقرير شيء آخر، والإجابة عن التساؤل التالي: كيف تمكن علال الفاسي، في ظرف ساعة بعد نفي الاستعمار الفرنسي الغاشم للسلطان محمد بن يوسف والعائلة الملكية، أن يوجه بسلاسة وفورية نداء القاهرة من إذاعة صوت العرب الشهيرة؟ المؤكد، وهذا هو الإقرار أو الاستنتاج، أنه كان لعلال تراكم شرعية للحديث باسم المغرب والمغاربة بمصر والشرق العربي والعالم برمته، والمُؤكّد كذلك أن مصر، دولةً وشعبًا، كانت تُقر له بهذه المكانة النضالية المميزة.
وهذه الرسالة التي وجّهها لطه حسين الوزير ليست سوى نزر قليل من هذا التاريخ البراق الوضاء لعلال الفاسي بمصر، ودليل على مدى اتساع علاقاته بأرض الكنانة خصوصًا، وبالمشرق العربي عمومًا.. تلك العلاقات التي كان يضعها بأريحية في خدمة بلده المغرب الرازح آنذاك تحت نير الاستعمارين الفرنسي والإسباني والدولي بطنجة.
في هذه الرسالة، يحضّ علال الفاسي طه حسين باشا، كوزير للمعارف العمومية بحكومة النقراشي باشا الثانية، وعن طريق وزير الخارجية الدكتور صلاح الدين باشا، على ضرورة ضمان مضي الحكومة المصرية قدمًا في مشروعها لتأسيس معهد عربي بطنجة، داعيًا إياه إلى عدم التأثر أو الالتفات لمناورات البلدان الغربية المتنفذة آنذاك بهذه المدينة المغربية ذات النظام الدولي. تلك المناورات التي يُبيّن علال أنها تروم مسخ اللسان القومي للبلاد المغربية وفصلها عن البلاد العربية.
الرسالة، على قصرها وإيجازها، تفصح عن وعي علال الفاسي بالمخططات المُبيَّتة للاستعمار، الذي يسعى، حسب ما ذكره في رسالته، وبكل الوسائل، إلى اعتبار المغرب ضمن المنطقة الأوروبية، مستهدفًا هويته وثقافته من خلال معارضة كل عمل من شأنه تقوية الروح العربية للمغاربة.
شرح علال الفاسي، بتركيز واقتضاب، كيف تفعل الدسائس الفرنسية والأوروبية فعلها لأجل عرقلة مشروع المدرسة المصرية بطنجة، موضحًا أنها مجرد تمويهات يمكن للحكومة المصرية تجاوزها وتنفيذ مشروعها القومي هذا، داعيًا إياها للإسراع في تنزيله قبل أن تبادر السلطات الاستعمارية بوضع تشريعات جديدة للتعليم الحر تضيق بها الخناق على كل مغربي أو مواطن أو حكومة من دولة غير موقعة على معاهدة الجزيرة الخضراء، يريدون فتح مؤسسة تعليمية، لتثبيطه بشروط تعجيزية.
لم تكن هذه الرسالة، إذن، لتبقى مجرد تواصل شخصي بين مفكرين كبيرين يتم بمبادرة من علال الفاسي، في إطار رسمي نظرا لسياق الموضوع وطابعه المؤسساتي. إذ ها هي الآن قد ارتقت لتكون وثيقة سياسية وثقافية تعكس الأواصر القوية التي تجمع بين مشرق العالم العربي ومغربه، ووعي الآباء والرواد في تلك الحقبة بوحدة التاريخ والمصير. هذا الوعي الذي ضيعناه نحن الأجيال اللاحقة عليهم.
إنها رسالة تفصح أيضًا عن جوانب عديدة من شخصية علال الفاسي السياسية والفكرية والإنسانية، وفي طليعتها براغماتيته العميقة، ونظرته الواضحة والحاسمة للنضال الوطني من أجل توفير ظروف التحرر من ربقة الاستعمار.
فقد وجّه هذا الزعيم الوطني المكافح من أجل استقلال بلاده، رسالته إلى طه حسين، ليس فقط كمفكر وأديب، بل أساسًا لصفته كوزير للمعارف العمومية في الحكومة المصرية، مخاطبًا إياه بصفته الرسمية من أجل التأثير في القرار السياسي لصالح استمرار مصر في خطتها لبناء هذه المدرسة العربية بالمغرب، طنجة تحديدًا، والحيلولة دون تراجعها بسبب العقبات والعراقيل التي كانت تضعها أمامها الدول الغربية التي تضع يدها على المدينة، والتي لا تنثني عن تقديم أعذار زائفة وأراجيف باطلة.
إنه حين نفكك سطور هذه الرسالة، نكتشف أن علال الفاسي لم يضمخها بشعارات القومية العربية والإسلامية التي تُستدعى في المنابر لاستنهاض الهمم، وتقوية عزائم الجماهير على مناهضة المحتل، ونهج درب النضال والكفاح، ولم يركن فيها إلى خطاب عاطفي، بل قدّم لطه حسين عرضًا موضوعيًا، قانونيًا، ودقيقًا، يُلخّص الوضع بأمانة في مدينة طنجة الدولية، مبرزًا القيود التي تفرضها الإدارة الدولية على التعليم العربي، وخططها المبيتة لأجل تنفيذ فصل ثقافي ولغوي لغرب العالم العربي عن محيطه الإقليمي الطبيعي.
لقد كُتبت الرسالة بلغة رسمية رزينة، تحترم البروتوكول، ومرت عبر القنوات الدبلوماسية، إذ وُجّهت إلى طه حسين عبر وزير الخارجية المصري آنذاك الدكتور صلاح الدين باشا. ولا نعرف بالضبط هل كان علال الفاسي من وضعها بمبنى وزارة الخارجية المصرية أو أنه أوصلها بطريقة أخرى، وإن كنت أرجح أنه استقل الطريقة الأولى، فهي آمن وأسلم وأضمن، خصوصًا وأن الرسالة تثبت تشوّف علال إلى عدم تفويت بناء هذه المدرسة العربية، زد على ذلك أنه كان في تلك المرحلة من مسيرته النضالية يختلف باستمرار بين القاهرة وطنجة.
لقد تحدث الفاسي في رسالته تلك باسم البلاد المغربية، أي باسم دول المغرب العربي، رغم أن الأمر يهم مدينة طنجة وحدها، واضعًا نفسه بذلك في موقع المتحدث باسم الفضاء المغاربي ككل، في لحظة تاريخية كانت فيها المعركة الثقافية جزءًا من معركة التحرر الوطني. مما يؤكد أن رؤية هذا المناضل الفذ والمفكر الموسوعي كانت تتجاوز بلاده المغرب، بل إنه كان في نضاله ملهمًا وموجهًا لكل الأقطار المغاربية، ومعها أيضًا الأمصار العربية الأخرى.
فخلال مقامه بالقاهرة، كان علال الفاسي عضوًا نشيطًا بمكتب المغرب العربي، منخرطًا بفعالية في العمل الوطني العربي إلى جانب عبد الكريم الخطابي، وزعماء من الجزائر وتونس. هي مرحلة هامة وأساسية في مساره، مارس خلالها النضال من الخارج، ووثّق الصلات بين الحركات التحررية في المغرب العربي والعالم العربي الأوسع، وضمنه مصر، التي انخرط فيها في العمل السياسي والفكري على أكثر من صعيد، وكانت له فيها علاقات وصداقات ومواقف سجّلها له التاريخ، وشكّلت جزءًا مهمًا من تجربته القوية والملهمة.

ما يزيد الرسالة قوة أنها تكشف، على إيجازها، عن هذا الفهم العميق لعلال الفاسي للحياة السياسية والفكرية المصرية. فالرسالة توضح للحكومة المصرية، ومنذ الفقرة الثانية، صدى هذا العمل في البلاد المغربية (المراكشية)، حيث سيكون، كما وصفه، مبعثًا للآمال والرجاء ويفتح الآفاق الكبيرة للاتصال بين أجزاء المغرب والمشرق العربيين.
ومع ذلك، وبعد تعديد منافع هذا العمل التربوي، لم ينسق علال وراء المشاعر التي تفيض في مثل هذه الكتابات، ولم يجعل من رسالته مجرد نداء وجداني يضرب على وتر العروبة والدين، بل كان عمليًّا إجرائيًّا، واستند في كتابه هذا إلى مرجعيات قانونية وتشريعية واضحة، خصوصًا معاهدة الجزيرة الخضراء، التي شرح أنها لم تتضمن أي بند يمنع إنشاء مدرسة عربية. وهذا ما بيّنه علال الفاسي بسلاسة لوزير المعارف المصري طه حسين. بل إنه، بعد العرض القانوني المبتسر، كتب له بالحرف ملخصًا أكثر:
“والوضعية الحالية الآن في طنجة هي: ليس في التشريع المحلي، ولا في المعاهدات ما يفرض أي أعمال من استئذان أو إشعار، أو ما أشبه، عند فتح أية مؤسسة ثقافية أو عالية”.
في هذه الفقرة تبدو منهجية علال الفذة، كأنه “يستبد” بمخاطبه الاستبداد النافع، فيكاد يتخذ القرار نيابة عن طه حسين لأجل خلق هذه المدرسة الطنجاوية. إنه يشجعه على المبادرة من دون أن يُلقي بالًا للمستعمرين. كان علال، لوحده، شبه وزارة متنقلة للخارجية المغربية، يعرف ما هو البروتوكول، ويعرف، بالخصوص، أنه عليه أن يُلخص في عرض مثل هذه القضايا الملحة والمستعجلة، وأن يُعنى بالهدف مباشرة للوصول إلى النتائج المرجوة بسلاسة ويُسر.
لقد كان، من فرط ما أنه يرى الاستقلال ممكنًا وقريب التحقق، يحكم كتاباته ومبادراته ويستعجلها لتسريع الحصول على الاستقلال والبدء في بناء الدولة الوطنية القوية، كما نظر في كتابه “النقد الذاتي” الذي كان قد كتبه سنة قبل هذه الرسالة، ووضع فيه ضمن موضعها رؤيته للتعليم الذي ينبغي أن يكون.
لقد دعا علال الفاسي، إذن، وزارة المعارف المصرية لوضع الإدارة الدولية إزاء الأمر الواقع، بل دفع بأن هذا الأمر صار واجبًا عليها، ما دام قد تم تقرير الاعتماد ضمن الميزانية، كأنما يُنهي أي تردد لديها ويقطع عليها طريق العودة عن تنفيذ المشروع.
هكذا تحدّث علال للوزير طه حسين عن تمويه المستعمرين، الذين يريدون تحميل معاهدة الجزيرة الخضراء غير ما فيها، طالبًا من الحكومة المصرية أن تنهي تلكؤها، وتتمّ المشروع، كأن لسان حاله في هذه الرسالة يتأسّى بقول الشاعر:
“ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا – كنقص القادرين على التمام.”
كان لرسالته لهجة حازمة، وكان فيها تحفيز بيّن وجرأة نادرة. لقد حثّ علال الفاسي وزارة المعارف المصرية على مواجهة الإدارة الدولية بوضعها أمام الأمر الواقع، مؤمنًا بأن القرار الحاسم هو الذي يُحرج القوى المتربصة ويُنتج الفعل الميداني.
ما يُميز خطاب الفاسي إلى طه حسين هو إدراكه العميق للعلاقة بين الثقافة والسيادة. لم يُقدِّم مشروع المدرسة كخطوة تعليمية فحسب، بل اعتبرها رافعة للحفاظ على الهوية العربية الإسلامية في وجه التغريب والاستعمار. وأكد أن التعاون الثقافي بين المغرب ومصر مقدمة ضرورية للتعاون الاقتصادي والاجتماعي، ما يكشف عن تصوره الشمولي للبناء الوطني، وجعل المدرسة جزءًا من مشروع تحرري متكامل.
تتميز هذه الرسالة أيضًا بدهائها الاستراتيجي، كونها تؤشر على نضال علال القانوني لا العاطفي، الذي كان يستدعيه في ظروف أخرى حين كان يلتحم بالجماهير، حيث ابتعد بها عن إثارة العواطف القومية أكثر من اللازم، مكتفيًا منها بالقدر الذي يُترجم انتماء علال للمرجعيتين العروبية والإسلامية، وهو أمر ينمّ عن ذكاء خارق، وعن تغليب لمصلحة الوطن المغربي، وتركيز على الأهداف المرسومة، وينبع بالخصوص من فهم علال الفاسي العميق لميول طه حسين الفكرية واتجاهاته.
كان الفاسي يعرف جيدًا أن طه حسين، في مؤلفه الشهير “مستقبل الثقافة في مصر”، وضع استراتيجية تعليمية شاملة تهدف إلى دمج مصر ضمن الحضارة الغربية الحديثة وفصلها نهائيًّا عن الشرق، حيث كان قد قال في نفس الكتاب: “إن مصر جزء من الحضارة الغربية بحكم تاريخها وثقافتها، ولا بد أن تلتحق بأوروبا في نظامها التعليمي والاجتماعي والسياسي”، واعتبر التعليم كالماء والهواء، ضروريًا لأي نهضة.
من المؤكد أن علال الفاسي، وهو القارئ النهم، والمؤلف غير المُقِل، قد قرأ أدب طه حسين واطلع على فكره، وعرف عنه هذا التوجه والافتتان بالحداثة الغربية، وتصرف على أساس ما انتهى إليه.
لذلك جاء خطابه إليه عقلانيًا ومنطقيًا، يُوثّق الطلب المغربي في تأسيس مدرسة عربية بمدينة طنجة كخطوة ضرورية للحفاظ على الهوية، ولكنه في الوقت نفسه يحترم رؤية طه حسين التحديثية، محاولًا بناء جسر فكري بين المشروعين، بعيدًا عن التصادم أو الخطاب الانفعالي.
وفي نظري، إن علال الفاسي، لا بد، وهو الباحث النبيه، أنه قد رصد لدى طه حسين مراجعة لمواقفه تلك، والتي لم تكن بطبيعة الحال تراجعًا كليًّا عن الحداثة، بل إعادة توازن بين الأصالة والحداثة والاعتراف بقيمة التراث العربي والإسلامي.
يشير الدارسون لسيرة طه حسين الفكرية إلى أنه عندما تولّى وزارة المعارف في حكومة الوفد بين 1950 و1952، كان مستمرًا في دعم التحديث والاقتباس من الغرب، ولكنه لم يُكرّر بشكل صريح فكرة أن مصر جزء من أوروبا، بل راعى في سياساته الثقافية التعليمية البعد القومي والوطني، لا سيّما في ظل تصاعد الحركة القومية العربية بعد نكبة فلسطين (1948). كما أنه أظهر احترامًا أكبر للهوية الإسلامية والعربية في بعض مناهج الأدب والدين، وهو ما اعتُبر توازنًا جديدًا في فكره.
ولعلي مصيب إذا قلت إن حدس علال في طه حسين صدق، ولو بعد حين من توجيه هذه الرسالة له. إذ ستظهر أوبة طه حسين واعترافه بقيمة الفكر العربي والإسلامي واضحة في كتاباته المتأخرة، مثل: “مرآة الإسلام” (1959)، حيث أبدى اهتمامًا أوضح بالتراث الإسلامي، و”الفتنة الكبرى” (جزآن: عثمان وعلي)، حيث كتب بأسلوب يتسم بالاحترام للرموز الإسلامية وتقدير كبير للتاريخ الإسلامي. ثم كتابات صحفية متأخرة له، كان يوازن فيها بين الدعوة للانفتاح والتجذر في الهوية.
في النهاية، قد حقق طه حسين مصالحة حقيقية مع الذات الثقافية والتاريخية المصرية والعربية، واقترب بذلك عدة خطوات من المشروع الفكري النهضوي لعلال.
أعتقد أن علال الفاسي قد أحسّ منه كل هذا، فالرجل كان خبيرًا بمعادن الناس، كونه مفكرًا وقائدًا وزعيمًا جماهيريًّا، وهذا ما قد يكون شجعه على أن يُكاتبه بشأن مدرسة مصرية يراهن عليها علال أن تساهم في تحصين اللغة العربية. ولعل علال قد شعر أيضًا من الكتابات الجديدة لطه حسين تحوّلًا يقربه من المعين الفكري العلالي، فخاطبه في ختام الرسالة قائلًا:
“ولي اليقين التام أن روح معاليه العربية، وعزيمته القوية، وإرادته الوثّابة، ستجتاز كل الاعتبارات وتجعل المشروع حقيقة واقعة، وذلك لخير مراكش (المغرب) ومصر والثقافة العربية. وتفضلوا يا صاحب المعالي بقبول فائق احترامي وتقديري”.
وبما أن المناسبة شرط، فإني أرى لزامًا عليّ أن أسجل أن علال الفاسي وطه حسين، وإن كانا من أبرز مفكري العالم العربي في القرن العشرين، إلا أنهما اختلفا في المرجعية الفكرية والمنهج. علال الفاسي كان مفكرًا إسلاميًّا قوميًّا، يرى في الإسلام مرجعية شاملة للإصلاح السياسي والاجتماعي، ودافع عن الهوية المغربية والعربية في وجه الاستعمار. أما طه حسين، فكان مفكرًا ليبراليًا عقلانيًا، دعا إلى التنوير الثقافي وفصل الدين عن التعليم، مؤمنًا بأن النهضة لا تتم إلا بالاعتماد على العقل والانفتاح على الغرب.
إلا أنه، ورغم هذا التباين، يلتقي الاثنان في نقاط مهمة؛ فقد آمن كلاهما بدور التعليم في التحرر، ودافعا عن الحرية والكرامة الإنسانية، وانتقدا التخلف والجمود في الثقافة العربية، وسعيا كل منهما، بطريقته، إلى تجديد الفكر وبناء مجتمع عربي متقدم. فبين فكر إسلامي إصلاحي وفكر ليبرالي عقلاني، اجتمعا في الغاية: النهوض بالإنسان العربي وتحريره.
بهذه الرسالة، يؤكد علال الفاسي أنه لم يكن زعيمًا سياسيًا فقط، بل كان مناضلًا عضويًا على علم بكل ما يحيكه الاستعمار، صوتًا حضاريًا يحمل مشروعًا نهضويًا متكاملًا، يُدافع عن الهوية بتحصين اللسان والتعليم، ويعيد تعريف النضال بأساليب عقلانية وعملية. وتُبرز الوثيقة أيضًا عمق العلاقات الثقافية والسياسية بين المشرق والمغرب، وتجسّد كيف كانت النخب الفكرية العربية خلال النصف الأول من القرن الماضي تتقاطع في الهمّ القومي، وتُراهن على المدرسة، واللغة، والثقافة كأدواتٍ للتحرر.
وأخيرًا، لقد شاءت الأقدار، كما جمعت بينهما هذه الرسالة اليتيمة، أن تجمع بينهما سنة الرحيل، إذ سيُسدل الستار على حياة هذين العلَمين من أعلام الفكر العربي في العام نفسه، 1973، ليرحل طه حسين في مصر، وعلال الفاسي في المغرب، بعدما خلّف كلٌّ منهما تراثًا فكريًا غنيًا ومسيرة حافلة بالكفاح من أجل النهضة والحرية.
واليوم، إذ نحتفي بخمسينية رحيلهما، نستحضر تلك اللحظة النادرة التي جمعت بينهما في هذه المراسلة الرسمية الراقية، التي عبّرت عن الاحترام المتبادل رغم تباين المواقف، خصوصًا من طرف علال الفاسي كاتبها، وعن الأمل المشترك في مستقبل عربي أكثر وعيًا وانفتاحًا وقوة.
إن العودة إلى هذه الرسالة، بعد خمسين عامًا من رحيلهما، وخمسة وسبعين عامًا على كتابتها، ليست مجرد تذكّر لماضٍ مضى، بل دعوة إلى إعادة إحياء زخم وروح تلك النهضة التي حلما بها، ولعلهما كانا قد بدآ في تحقيقها، مثلهما مثل روّاد عظام آخرين، لولا أنها توقفت في منتصف الطريق، ولربما قد أُجهِضت.
ولعل إعادة نشر هذه الرسالة اليوم، والتمعن في تفاصيلها، هو شكلٌ من أشكال الوفاء للمشروع الذي حملاه، ونافذة نطلّ منها على ما يمكن أن يكون عليه الفعل الثقافي العربي حين يكون مؤسَّسًا على العقل، والكرامة، والوحدة.
وهكذا، لا تبدو هذه الرسالة التي كتبها علال الفاسي إلى طه حسين مجرد خطاب عابر بين مفكرين عربيين كبيرين، بل تكتسي طابعًا رمزيًا وتاريخيًا بالغ الأهمية، إذ تكشف عن لحظة استثنائية من التلاقي الفكري والبراغماتي بين مشرق العالم العربي ومغربه. لقد خاطب الفاسي طه حسين لا بصفته رمزًا أدبيًا فقط، بل بوصفه مسؤولًا حكوميًا يمكن التأثير عليه لاتخاذ قرار حاسم يخدم قضية وطنية كبرى، هي الدفاع عن الهوية العربية للمغرب، في مدينة طنجة الواقعة حينها تحت وطأة النظام الدولي.
ما يلفت في هذه الرسالة أنها لم تكن عاطفية أو إنشائية، بل بُنيت بحرفية قانونية واستراتيجية، تُراعي السياق السياسي والدبلوماسي، وتدل على وعي عميق بمكانة المتلقي الفكرية، وبتركيبته النفسية والثقافية. لقد قرأ علال الفاسي طه حسين بدقة: عرف انفتاحه على الغرب، وتوجهه نحو التحديث، بل وميله لفكرة “التحاق مصر بأوروبا حضاريًا”، ومع ذلك لم يُجافِه، بل خاطبه من داخل منطقه، بلغة عقلانية، عملية، وقانونية.
كان ذلك تجسيدًا لنضالٍ من نوع مختلف، نضال لا يُشهِر العواطف في وجه الاستعمار، بل يُشهِر الحجة، والبرهان، والمعرفة الدقيقة بالتشريعات والمعاهدات.
بهذه الطريقة، يُثبت علال الفاسي أنه لم يكن مجرد زعيم وطني يناضل في الميدان، بل كان أيضًا مفكرًا استراتيجيًا، يُدرك أن المعركة الحقيقية لا تُخاض فقط بالسلاح أو الهتاف، بل بالتعليم، وبالسياسة، وبحماية اللغة، وبفهم موازين القوى واختراق المؤسسات من داخلها. لقد آمن بأن بناء مدرسة عربية في طنجة هو فعل مقاومة لا يقل شأنًا عن أي مواجهة مسلحة، لأنه يصون اللسان، ويحفظ الهوية، ويربط المغرب بمحيطه العربي في مواجهة مشاريع التغريب والاقتلاع الثقافي.
وإذا كانت الرسالة تكشف عن عبقرية علال الفاسي وعمق بصيرته، فإنها تُظهر أيضًا مقدار الاحترام الذي كان يُكنّه لطه حسين، رغم الاختلاف المرجعي بينهما. خطاب الاحترام هذا لم يكن خضوعًا، بل كان تعبيرًا عن وعي ناضج بالاختلاف، ورغبة صادقة في بناء قواسم فكرية مشتركة، لأن المعركة الكبرى – كما فهمها علال – لم تكن بين التحديث والأصالة، بل بين الاستقلال والتبعية، بين الوعي والاغتراب.
إن هذه الرسالة، التي نُشرت بعد عقود من كتابتها، تظل شاهدًا ناطقًا على تلاحم النخب العربية في لحظة فارقة، حين كانت المدرسة أداة مقاومة، وكان الفكر حليفًا للسيادة، وكانت اللغة درعًا في وجه الاستعمار. واليوم، ونحن نستعيدها بعد مرور خمسين عامًا على رحيل هذين العلمين الكبيرين، وطيلة خمسة وسبعين عامًا على تاريخ كتابتها، لا نستحضرها بوصفها أثرًا من ماضٍ مضى، بل كنبراس يدلّنا على ما كان ممكنًا، وعلى ما يمكن أن يكون، إذا وُجد القادة الذين يحملون فكرًا، والرؤى التي تبني، والعزائم التي لا تنكسر.
رحل علال الفاسي في المغرب، وطه حسين في مصر، في العام نفسه – 1973 – وكأن الأقدار أرادت أن تجمع بين مسارين مختلفين، تفرّقا في المنهج، لكن التقيا في الغاية: تحرير الإنسان العربي وبناؤه. تلك الرسالة لم تكن مجرد مراسلة رسمية، بل كانت مشروعًا نهضويًا مُضمّنًا في ثلاث صفحات. وهي اليوم، بعد عقود، لا تزال تنبض بالحكمة والبصيرة، وتدعونا إلى أن نواصل ما بدأه هؤلاء الكبار، قبل أن تُجهض الأحلام أو تُختطف من مسارها.
لقد كشفت هذه الرسالة أن علال الفاسي لم يكن مجرد زعيم وطني يرفع الشعارات، بل كان مفكرًا استراتيجيًا يُحسن استخدام أدوات الدولة والقانون والدبلوماسية لخدمة مشروع تحرري متكامل. كان يدرك أن المعركة الحقيقية لا تُخاض فقط في الشارع أو ساحة المعركة، بل أيضًا في قاعات الدرس، وبين سطور المراسلات، ومن داخل مؤسسات القرار. لقد كان مشروعًا نهضويًا يمشي على قدمين، يجمع بين الفكرة والمبادرة، بين الرؤية والعمل. براغماتيته الذكية، وقدرته على مخاطبة طه حسين بمنطقه دون مجاملات أو افتعال صدام، تؤكد أنه كان رجل دولة بفكر مثقف، ومثقفًا بسلوك رجل دولة، يرى في التعليم والهوية والثقافة أدوات نضال لا تقل أهمية عن السياسة والسلاح.
كاتب مغربي