فايز عبد الله الماضي: الغوص في رمال المعلومات

فايز عبد الله الماضي: الغوص في رمال المعلومات

 

فايز عبد الله الماضي

 

في كتابه “ضباب البيانات” المنشور عام 1997م، يتحدث الكاتب “ديفيد شينك” عن أفكاره حول كيفية تشكيل ثورة تكنولوجيا المعلومات للعالم، وعن ضرورة الانتباه للخطورة المتصاعدة من كثرة البيانات المتاحة عبر الإنترنت في إضعاف قدرتنا نحن البشر على غربلة الحقيقة والواقع وفصلهما عن الخيال.

ووفقًا للإحصاءات التي قدمها في كتابه، فقد كان المواطن الأمريكي العادي عام 1971م مستهدفًا بما لا يقل عن 560 رسالة إعلانية يوميا، وبعد عشرين عامًا تقريبا ارتفع هذا العدد ستة أضعاف، ليصل إلى حوالي 3000 رسالة يوميًا.

ورغم عدم وجود دراسات رسمية جديدة حول التغير في هذه الأرقام في وقتنا الحالي، إلا أن تقريرا نشرته جامعة جنوب كاليفورنيا عبر موقعها الإلكتروني في السابع عشر من تشرين الثاني عام 2023م، يؤكد أن المواطن الأمريكي العادي يشاهد عددًا ضخما من الإعلانات التجارية عبر مختلف الوسائط، وهذا يشمل كلا الراديو والتلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات المطبوعة وغيرها. كما أضاف التقرير بأنه يتم عرض ما يقدر بـ 5.3 تريليون إعلان عبر الإنترنت سنويًا، في حين يشاهد الأطفال حوالي 20 ألف إعلان مدته ثلاثون ثانية سنويًا في المتوسط، ويشاهد البالغون ما معدله حوالي 2 مليون إعلان سنويًا.

ووفقا لورقة علمية منشورة عبر الموقع الإلكتروني لأرشيف “arXiv” في الثالث من أيلول لعام 2020م تحت عنوان: “الكارثة المعلوماتية”، فإن العالم كان يصنع يوميا حوالي 25 مليار جيجا بايت من البيانات في عام 2020م، وبافتراض معدل نمو سنوي قدره 20% في معدل إنتاج البيانات، فبعد 350 عامًا من الآن، سيتجاوز عدد “البتاتBits/” المنتجة عدد الذرات على الأرض، أي سيصبح حوالي 10 “بتاتBits/” مرفوعة للأس 50، كما ستتجاوز الطاقة اللازمة لاستدامة هذا الإنتاج الرقمي بعد 250 عاما من الآن حوالي 18.5 تيراواط، وهو إجمالي استهلاك الطاقة الكوكبي في عصرنا الحالي، أما خلال 500 عام من الآن، سيشكل المحتوى الرقمي أكثر من نصف كتلة الأرض، وذلك وفقًا لمبدأ تكافؤ الطاقة المعلوماتية.

وعليه فإنه إلى جانب التحديات العالمية الحالية، مثل المناخ والبيئة والسكان والغذاء والصحة والطاقة والأمن، تشير التقديرات وفقا للورقة العلمية هنا إلى ظهور معضلة أخرى لكوكبنا تُسمى كارثة المعلومات.

وتعقيبا على ذلك، أود الإشارة هنا إلى أن كاتب الورقة البحثية سالفة الذكر قد افترض في ورقته معدل نمو ثابت يقدر بنحو 20%، وهو افتراض يمكن وصفه بالرومانسي، والواقع  أننا أقرب بكثير من الكارثة المتوقعة بعد 500 عام حسب وصفه، فمعدل إنتاج البيانات حول العالم يتزايد بمعدل أسي بحيث يمكن أن يتضاعف لأكثر من ضعفين إلى ثلاثة أضعاف خلال عامين فقط، ووفقا لتقديرات نشرتها مؤسسة البيانات الدولية (IDC)، فإنه من المتوقع أن يصل الحجم العالمي للبيانات التي يتم إنشاؤها والتقاطها ونسخها واستهلاكها إلى حوالي 175 زيتابايت هذا العام (2025م)، أي بمعدل يقارب 479 مليار جيجا بايت يوميا.

كما نشرت شركة “أوكسفورد إنسايتس” عبر موقعها الإلكتروني في شهر أيار عام 2020م، تقريرا بحثيا تحت عنوان “الجغرافيا السياسية لحوكمة البيانات” يسلط الضوء على اعتقاد مفاده أن قضية حوكمة البيانات تُعَدُّ قضيةً جيوسياسيةً رئيسة تسهم في تشكيل الكيفية التي تتعاطى عبرها الدول على المستويين الاقتصادي والسياسي معا؛ وذلك من خلال مواجهة تحديات توطين البيانات (بحصر تواجدها “فيزيائيا” داخل حدود الدولة)، وإدارة التدفقات البياناتية العابرة للحدود، والتعامل مع الاختلافات التنظيمية للمعلومات، بحيث يصبح من الممكن لهذه الدول تعزيز التعاون بينها وتجنب النزاعات والحفاظ على بيئة رقمية عالمية مستقرة.

ويحذر التقرير من أن الولايات المتحدة التي تعد من أشدّ المؤيدين لامتيازات الشركات على حقوق البيانات الفردية للمستخدمين، وبما تجنيه من ثروة من هذه الشركات التي تقوم بتعدين البيانات الشخصية وتُحوّلها إلى أموال، تخالف بذلك التوجهات الدولية في خضم مشهد جيوسياسي متغير، وتؤكد أن نظام التجارة العالمي لا يزال بطيئا في التحرّك بشأن مسائل مهمة كمسألة نقل البيانات الدولية، وهو في الوقت الراهن غير مجهز جيدًا للتعامل مع النزاعات المتعلقة بالبيانات التي قد تنشأ بين هذه البلدان.

إن ما نقدم عليه في عصرنا الحالي من فائض في البيانات قد يعيق الوصول إلى المعلومات الصحيحة، ما سينتج عنه استحالة القدرة على اتخاذ قرارات مدروسة وواقعية، كما سيدفعنا هذا التدفق العارم إلى العجز عن توفير معالجة وتدقيق مناسبين للوقائع خصوصا في الظروف الصعبة والحرجة التي قد تمر بها أمتنا مستقبلا، كما أن هذه الموجات المتتابعة والمتصاعدة من البيانات والمعلومات تعني بالضرورة زيادة في مخاطر الاختراقات والمراقبة والتجسس على المستويين الفردي والمجتمعي، خصوصا في عصرنا الحالي الذي أصبح التعنت السياسي فيه للدول وحكوماتها صفة ظاهرة وملموسة.

وفي الختام لا بد من التأكيد على أن التكليف الملكي السامي للحكومة الحالية بضرورة تشكيل المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل هو خطوة جوهرية نحو تعزيز مكانة الأردن كدولة متقدمة تكنولوجيا، ومن المهم أيضا أن تنعكس أعمال هذا المجلس على مشاريع الحكومات الأردنية مستقبلا، مثل التحول الرقمي وإدارة البيانات، وتنمية الموارد البشرية التقنية، والتوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي.

كما أن إشارة سمو ولي العهد إلى ضرورة اتخاذ اللجنة لقرارات “جريئة” ضمن خطط استراتيجية واضحة والسعي للوصول إلى نتائج ملموسة وقابلة للقياس، هي أساس مهم لابد أن نعتمده في بناء الأردن لاستراتيجية أصيلة وواضحة للتعامل مع التضخم المتسارع في حجم البيانات والمعلومات، بما ينعكس على تنظيمها وتوجيهها وتطوريها، وتحسين نوعيتها وجودتها، ورفع كفاءتها بما يتوافق مع مصالح الدولة في الداخل والخارج.

 

كاتب أردني