غزة… الوباء الذي تردد كامو في تصويره

غيدا أبو طير
في زمنٍ ما، جلس ألبير كامو يكتب روايته “الطاعون”. كان يحاول أن يفهم كيف يواجه الإنسان الكارثة بصمت، وكيف يتماسك وهو يرى الموت يزحف بين الأزقّة، فيبتكر له رموزًا واستعارات، ويغمس الخوف بالحبر، بدلًا من أن يصرخ. كان يظنّ أنه اخترق جوهر الشر، أنه عرّى الوباء الأخلاقي من قناعه، حين صوّر مدينة “وهران” تحترق صامتة، خائفة، بينما الطاعون ينهشها.
في “وهران”، كان الطاعون كائنًا فلسفيًا، ضبابيًا، يمكن التفاوض معه عبر السطور. في غزة، الطاعون له أصفاد، له دبّابات، له فمٌ يضحك على CNN، له صوت يشبه صرير أبواب المقابر.
كامو اعتقد أن الإنسان يواجه الشرّ بالفكر، بالصبر، بالمقاومة الهادئة. لكن غزة ليست كتابًا، ليست رمزًا، ليست ورقة في جيب فيلسوف.
في غزة لحمٌ يُمزَّق أمام الكاميرا. في غزة صوت يُسجَّل ثم يُنسى. في غزة طفلة تمشي فوق شقيقها المشطور نصفين وتصرخ: “بَدّي ماما!”. أين الفلسفة يا ألبير؟ أين العدالة؟ أين الإنسان؟
في “الطاعون”، يموت الناس على مهل، وفي النهاية، يُنتصر على المرض. كامو ظنّ أنه كتب عن الشرّ. لكن شرك، يا ألبير،كان ناعمًا، يمكن تلخيصه في ندوة جامعية. أما الشرّ في غزة، فهو مبلول بالدم، وله شهية لا تشبع: يأكل بيتًا، ثم طفلًا، ثم مدرسة، ثم مستشفى، ثم نَفَس امرأة عجوز تطهّر خوفها بتلاوة القرآن. هذا ليس أدبًا. هذا شقّ في النسيج الأخلاقي للكون.
يا كامو، لو سمعت دويّ القنابل يشقّ صدر الليل، لو شاهدت الأمهات يحفرن بأظافرهنّ في الركام بحثًا عن طفل، لو وقفت دقيقة واحدة في رائحة الخبز المختلطة بالبارود. لو كنت حيًّا، يا كامو، لربما صمتّ أمام غزة تقاوم الطاعون، وتقاتله، وتبصق في وجهه كل صباح. لاننا لسنا في زمن المجاز.
لربما قلتَ: “غزة أفسدت عليّ استعاراتي”، أو كتبت، ثم مزّقت ما كتبت، ثم بكيت في مرحاض باريس العتيق، ثم خرجت تمشي في الليل كمن يرى وحشا… لأنك رأيت الحقيقة.
لكننا اليوم نكتب عن غزة، لا لنحاكي أدبك المعقّم، الفاقد للدم والرائحة، بل لندفنه. غزة لا تطلب أدبًا. غزة تطلب ضميرًا، والضمير لم يعد يُطبع في دور النشر.
كاتبة من الاردن