واشنطن وطهران: تنافس الإرادات في صميم المفاوضات

د. محمد حسن سعد
في عامه الأول من الولاية الثانية، يعود دونالد ترامب إلى طاولة الشرق الأوسط بأجندة أكثر صلابة تجاه إيران، محاولاً إعادة تشكيل النظام الإقليمي وفقاً لشروط القوة الأميركية، في ظل نفي علني لوجود مفاوضات مباشرة، تُعقد لقاءات حاسمة في عواصم مختارة، حيث تُدار الحوارات بصمت لافت، وبحسابات دقيقة تتجاوز ما يخرج للعلن. في مسقط وروما، تتقاطع وجهتا نظر شديدتا التباين، بين وفد أميركي يقوده ويتكوف صاحب الكلمة الحاسمة، ووفد إيراني يرأسه وزير الخارجية الجديد عباس عراقجي، المعروف بقدرته على إدارة الأزمات وتدوير الزوايا. هذه ليست مفاوضات لإحياء إتفاق قديم، بل معركة توازنات جديدة، تُخاض بوعي إستراتيجي لا يرحم.
في قلب هذه المفاوضات، تتصارع رؤيتان متضادتان لمستقبل المنطقة: رؤية أميركية تهدف إلى احتواء إيران وشلّ قدرتها على التأثير، ورؤية إيرانية ترى في التفاوض اختباراً لسيادتها ومكانتها كقوة إقليمية. ومن هنا تظهر الشروط الأميركية والثوابت الإيرانية كعناوين لمعادلة صعبة لم تُكتب نتيجتها بعد.
المطالب الأميركية: خارطة طريق للضغط والرقابة:
في كل جولات التفاوض التي انعقدت بين الجانبين، تسعى الولايات المتحدة إلى فرض مجموعة من الشروط التي تعكس رؤيتها لاحتواء الدور الإيراني وتقليص نفوذه، وتظهر هذه المطالب كمحاولة شاملة لإعادة صياغة سلوك إيران داخلياً وخارجياً، تحت رقابة صارمة وبتعهدات قابلة للمراجعة، وهي مطالب تُعبّر عن منطق الهيمنة أكثر مما تعبّر عن منطق الشراكة، وهذه المطالب هي:
1 ــــ الوقف الكامل لجميع مستويات تخصيب اليورانيوم، بمعنى أخر تصفير عمليات التخصيب.
2 ـــ تفكيك المنشآت النووية الحساسة، خصوصاً في نطنز، أراك، وفوردو.
3 ـــ فرض رقابة دولية صارمة وطويلة الأمد على كافة الأنشطة النووية، هذه الرقابة تتجاوز رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى رقابة أميركية مباشرة.
4 ـــ تجميد وتقييد برنامج إيران الصاروخي.
5 ــــ ربط رفع العقوبات بالكامل بسلوك إيران الإقليمي وتدخلاتها في المنطقة.
6 ـــ إعادة هيكلة الحرس الثوري الإيراني لناحية الدور الوظيفي، وتصفية نشاطه الخارجي.
7 ـــ فرض رقابة غير مباشرة على السياسة الخارجية، تشمل خطوط الدعم اللوجستي لحلفائها، وقد عبر عن ذلك ويتكوف في تصريح قال فيه: “أي إتفاق نهائي يجب أن يشمل التزاماً من إيران بوقف دعمها للجماعات المسلحة في المنطقة، مثل حزب الله والحوثيين، كجزء من جهودنا لتحقيق السلام والإستقرار في الشرق الأوسط.”.
8 ـــ مراقبة الخطاب الإعلامي والتعبوي الذي تعتبره واشنطن محرضاً على العنف والتطرف، وتحديداً تجاه “إسرائيل”.
9 ـــ إنشاء لجنة رقابة إقليمية مشتركة تُشرف على متابعة مدى التزام إيران ببنود الاتفاق، وتعمل كآلية دائمة للضغط السياسي والرقابي، بما يتيح للولايات المتحدة وحلفائها مراقبة السلوك الإيراني في الملفات النووية والإقليمية على نحو مستمر ومنسّق.
10 ـــ تضمين بند يسمح بإعادة فرض العقوبات تلقائياً عند أي خرق دون العودة إلى مجلس الأمن.
الثوابت الإيرانية: سيادة لا تقبل التفاوض
تتعامل إيران مع هذه المفاوضات باعتبارها معركة إثبات وجود، لا مجرد صفقة سياسية، وتتمسك طهران بثوابتها باعتبارها ركائز للسيادة الوطنية غير القابلة للمساومة، وهي تعتبر أن أي تنازل في هذه الملفات يمثل تهديداً مباشراً لهويتها الإستراتيجية ومكانتها في الإقليم. لذلك، يصرّ الوفد الإيراني على أن أي إتفاق لا يضمن هذه الثوابت التالية هو بمثابة فخ لا صفقة:
1 ـــ رفع شامل وفوري وغير مشروط لجميع العقوبات الإقتصادية.
2 ــــ الاعتراف بحق إيران الكامل في تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، والتأكيد على حق إيران في تطوير التكنولوجيا النووية المدنية.
3 ـــ رفض إدراج البرنامج الصاروخي ضمن أي إتفاق، فهذا البرنامج هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الإيراني.
4 ــــ الحفاظ على دعم الحلفاء الإقليميين باعتباره جزءاً من منظومة الردع القومي.
5 ـــ رفض الحديث عن أية قيود على نشاط الحرس الثوري ودوره في إيران أو خارجها.
6 ــــ المطالبة بضمانات قانونية تمنع الانسحاب الأحادي من الاتفاق، فإيران لا تريد إتفاقاً على شاكلة إتفاق عام 2015 يسهل الانسحاب منه وتمزيقه، إنما إتفاقاً بضمانات من نواب الشعب الأميركي، أي من الكونغرس بحيث يكون من شبه المستحيل على أي رئيس أو إدارة قائمة أو مقبلة أن تلغيه بجرة قلم.
الموقف الإسرائيلي
في خلفية هذه المحادثات، يتنامى القلق الإسرائيلي من أي تقارب أميركي إيراني لا يضمن شلّ البنية التحتية النووية الإيرانية، وفي هذا السياق تبرز مؤشرات عدة على تصعيد في التحركات العسكرية الإسرائيلية، شملت مناورات جوية في قبرص وتدريبيات في النقب حاكت استهداف المنشأت النووية الإيرانية، وسط أنباء عن نية إسرائيل تنفيذ ضربة وقائية تستهدف منشآت التخصيب الرئيسية في نطنز وأراك وفوردو. الهدف المعلن هو تقويض قدرة إيران على التفاوض من موقع قوة، ودفع واشنطن إلى حسم خياراتها إما بالتصعيد أو الانسحاب.
جغرافيا المفاوضات: رمزية المكان وحدّة المواقف
اختيار مسقط وروما لم يكن عشوائياً، فالأولى تمثل أرضية حيادية تقليدية ذات بعد رمزي للإيرانيين، والثانية غطاء أوروبي يوازن التصلب الأميركي بمرونة سياسية ناعمة. في هاتين العاصمتين، تُدار المفاوضات بهدوء الظلال وخشونة التفاصيل، فالمبعوث الأميركي لا يتحدث بمنطق تفاوضي تقليدي، بل بصيغة تشبه إنذاراً مشروطاً، مؤطراً برؤية شاملة لإعادة ضبط الإقليم وفقاً لمصالح واشنطن الإستراتيجية. أما عراقجي، فيعتمد على لغة مزدوجة: حزم في الثوابت، ومرونة في التفاصيل التي لا تمس الجوهر، وهو يدرك أن الوقت سلاح لا يقل فاعلية عن الصواريخ.
مفاوضات على إيقاع الانفجار
ما يجري في هذه المفاوضات لا يشبه أي عملية دبلوماسية سابقة، إنها مفاوضات بمنطق ما بعد القوة، حيث تُختبر الإرادات ويُعاد تعريف النفوذ، فإدارة ترامب تتعامل مع إيران باعتبارها العقدة المركزية التي تمنع إستقرار النموذج الأميركي في المنطقة، ولذلك فهي تفاوضها كمن يُخضع خصمه، لا كشريك متكافئ.
إيران، في المقابل، ترى أن أي تنازل في هذه المرحلة لن يؤدي إلى الأمن، بل إلى إستباحة المشروع الوطني برمّته، ولهذا السبب، تتصرف وفق إستراتيجية “الصبر المتوتر”: ترفض الانهيار تحت الضغط، لكنها لا تُغلق الأبواب، لذا تسارع في تطوير قدراتها النووية، وتُبقي أوراقها الإقليمية حيّة، وتلوّح بأن لها مفاتيح اشتعال غير متوقعة في أكثر من ساحة.
في خلفية هذه المحادثات، يجري تحليل عميق وقراءة هادئة في دوائر القرار المعنية في كلا الدولتين لمعادلات الردع والتحوّلات الإستراتيجية الكبرى، فالأطراف تعرف أن أي اختلال في التوازن داخل أروقة التفاوض قد يترجم إلى انفجار خارجها، ومن هنا لا يجري التفاوض فقط بالأوراق، بل بالتصعيد والتلويح بإجراءات أحادية على الأرض، سواء في مضيق هرمز أو في ساحات اشتباك أخرى.
لحظة الحقيقة… صفقة أم صدام؟
وسط هذا المناخ المشحون، تبقى جميع السيناريوهات مفتوحة، إما تفاهم مرحلي تحفظ فيه كل جهة ماء وجهها، أو انفجار مُدار يُستخدم كأداة تفاوض بحد ذاته، ولا يبدو أن أياً من الطرفين مستعد للتنازل الكامل، كما لا يبدو أن أحدهما قادر على فرض شروطه دون كلفة باهظة، فالمفاوضات إذاً ليست نهاية أزمة، بل مقدمة لصراع طويل تتغير فيه الأدوات وتتشكل فيه التوازنات.
إنها لحظة إعادة ترسيم النفوذ، لا مجرد توقيع إتفاق، وإن الشرق الأوسط، كما كان دوماً، لا يُحكم بالبيانات، بل بالمواقف التي تُصاغ تحت الضغط وتُختبر في ميادين النار.
كاتب فلسطيني