تداعيات النموذج: غزة من مخيمات الإغاثة إلى الفوضى والانكشاف

تداعيات النموذج: غزة من مخيمات الإغاثة إلى الفوضى والانكشاف

د. أميرة فؤاد النحال

لم تكن رفح في اليومين السابقين ساحة توزيع للمساعدات، بل ساحة انهيار سياسي كامل، ففي لحظة واحدة تداعت أعمدة المشروع الإغاثي الأمريكي–الصهيوني، لا لأن الناس تمرّدوا، بل لأن الجوعى ببساطتهم وصراخهم واندفاعهم العفوي، فعلوا ما لم تفعله السياسة: فضحوا الكذبة حيث أنّ عشرات الآلاف اندفعوا تلقائياً نحو نقاط التوزيع، لا بحثاً عن الطحين والعدس والزيت، بل فراراً من الجوع والخذلان، وما إن رأى المنسقون حجم الحقيقة على الأرض، حتى هربوا حرفياً، تاركين خلفهم مشهداً يُعرّي كل الادعاءات الإنسانية التي غلّفوا بها معسكرات الاعتقال الناعمة.
ما حدث لم يكن مجرد فشل لوجستي في السيطرة على الجموع، بل كان انهياراً مفاجئاً لنموذج كامل بُني على الفرضية الخاطئة بأن الشعب يمكن احتواؤه بالمساعدات، وترويضه بالطوابير، فإذا بهذا الشعب يُفشل المعسكر قبل أن يُغلق، ويدمّر بالتلقائية الشعبية ما خُطط له في الغرف الدولية المغلقة، فهذه ليست فوضى خبز، بل لحظة “فوضى الانكشاف”، حيث سقط القناع، وانكشفت نوايا “الهندسة الإغاثية”، وهرب أصحاب المسرحية من على خشبتها، تاركين الوعي الجمعي يعلن فشلهم جهاراً.
في سياقات الحرب المعاصرة، لا يُقاس الفشل فقط بعدد الضحايا أو العجز اللوجستي، بل بلحظة الانكشاف: اللحظة التي تسقط فيها الرواية لا الخطة، وهذا ما حدث بالضبط في رفح، عندما لم يعد ممثلو المشروع الإغاثي الأمريكي قادرين على البقاء في ميدانٍ صمموه بأنفسهم، فاختاروا الهروب.
ذلك الهروب ليس حادثاً عابراً، بل هو لحظة سياسية بامتياز، تكشف عن تصدع في العمق الاستراتيجي للمشروع، فحين فرّ المنسقون من أمام الحشود، سقط معهم كل ما حاولوا ترسيخه من رمزية إنسانية لخطتهم، والهروب هنا هو تعبير عن فقدان السيطرة، نعم.. لكنه أيضاً إعلان غير مباشر بأن الجماهير أفشلت النموذج.
لقد أرادت الإدارة الأمريكية، بالتنسيق مع الاحتلال، أن تُصدّر نموذجاً جديداً من الإغاثة المُدارة، حيث يتم التحكم بالجوع لا القضاء عليه، وتوجيه الحشود لا خدمتها، وخلق مسار نزوح مغلّف بالكراتين لا يُرى فيه السلاح، ولكنّ تدافع الناس لم يكن فقط لطلب الطعام، بل كان احتجاجاً جسدياً على الكذب، وتجلياً للوعي الغريزي بأن هذه ليست إغاثة، بل هندسة ناعمة للتهجير.
والأخطر أن هروب الطواقم لم يُعرِّ فقط إخفاق النظام الإغاثي، بل أسقط القشرة الأخيرة من التواطؤ الدولي، وأثبت أن ما يجري في غزة ليس عجزاً إنسانياً، بل مشروعاً سياسياً يتهاوى حين يتفاعل مع الشارع الحقيقي، وهنا لا يصبح المنسق مجرد موظف هرب من الفوضى، بل رمزاً لمشروع ينهار أمام عين الحقيقة، وانكشاف هذا المشروع في لحظة الارتباك، يُعيد ترتيب موازين الفعل السياسي والشعبي، ويفتح باباً جديداً للوعي المقاوم: أن سلاح الجماهير ليس فقط في البندقية، بل في قدرتها الفطرية على كشف الزيف، وإفشال أكبر عمليات الخداع المُنسّقة.

 

المساعدات تحت الركام: كيف دهس الوعي الشعبي المسرحية الأمريكية؟

 

في اللحظة التي اندفع فيها الآلاف من أبناء غزة نحو نقاط التوزيع، لم يكونوا يتحركون فقط بدافع الجوع، بل بقوة أعظم: وعي متراكم بالمهزلة، حيث كانت الجموع تعرف ولو بغريزة الكرامة أن ما يُعرض عليهم ليس غذاءً، بل إذلالاً مموهاً، وأنّ ما جرى لم يكن تدافعًا عشوائياً، بل دهساً جماهيرياً لمسرحية أمريكية بائسة، كُتبت فصولها في واشنطن و”تل أبيب”، وأُخرجت بديكور من شاحنات الإغاثة وشعارات الرحمة، ثم تحطمت على صخرة الشارع الفلسطيني.
المساعدات لم تسقط من الشاحنات فقط، بل انهارت رمزياً تحت رُكام الوعي الشعبي، فكان المشهد أكبر من كيس دقيق أو عبوة زيت؛ بل كان صداماً مباشراً بين مخطط يريد إخضاع الناس عبر المعسكر الإغاثي، وشعب قرر رفض هذا المعسكر من أول دخوله.
رفح، التي خُطط لها أن تكون الكانتون النهائي، تحولت في تلك اللحظة إلى ساحة رفض مكشوفة، فالمعسكر لم ينهَر بفعل فوضى التنظيم، بل لأن الشعب رفض أن يكون جزءً من هذا العرض المُهين، وكرتونة الخداع التي أرادوا بها تسويق النموذج الأمريكي الناعم للاحتلال، تحوّلت إلى رمز انكشاف كامل.
ما حدث هو انقلاب شعبي على لغة المعونات المشروطة، وفضح لمنطق الخبز مقابل الموقع الجغرافي، حيث لم يُطلب من الناس توقيع وثيقة، لكن طوابير الإغاثة كانت في ذاتها وثائق تهجير ناعم، أرادوا أن يمرروا عبرها خرائط إعادة التوزيع السكاني بهدوء وصمت، لكن الصمت لم يأتِ، بل جاء الصراخ، وجاءت الفوضى التي لم يُديرها الاحتلال، بل أدارها الشعب كرفض عارم، ولو بلا لافتة، وانكشفت أمام الكاميرات حقيقة أن الهندسة الإغاثية هي مجرد قشرة رقيقة فوق جرح الاحتلال العميق.
ولذلك، فإن ما جرى ليس فشلًا في توزيع المساعدات، بل فشل في تمرير الخداع السياسي عبر الإغاثة، فرفح لم تأكل الطحين بل مزّقت الورقة السياسية التي كُتب عليها، وأعلنت دون أن تتحدث: لن نكون معسكراً، ولن نبيع الأرض بكرتونة مغلفة بالشعارات.
كان من المفترض أن تُدار الأمور بدقة، حيث مراكز توزيع مرسومة على الخارطة، مسارات محددة، طوابير إنسانية خاضعة للرقابة، كاميرات جاهزة لتصدير مشهد النظام والاحتواء، كل شيء بدا مرتبا على الورق؛ لكن الورق لا يقف أمام زلزال الواقع، الناس لم تنتظم؛ بل انفجرت، والنظام لم يُنفّذ، بل تمزّق، والمنسق لم يسيطر، بل هرب.
إنها لحظة نادرة في الحروب المعاصرة، حيث تنتقل اليد التي صممت الخريطة من غرفة العمليات إلى أبواب الهروب، فلقد صُمم النموذج الأمريكي للإغاثة في غزة على أساس السيطرة الناعمة: إدارة الجوع كأداة سياسية، وإعادة تشكيل الجغرافيا السكانية عبر الخبز لا عبر الرصاص، ولكنه سقط لأن الفرضية التي بُني عليها كانت خاطئة: أن الفلسطيني الجائع سينسى كرامته، ويتنازل عن أرضه مقابل كرتونة.
رفح، بكل فوضاها، بكل حشودها الخارجة عن النص، قالت: هذه ليست إغاثة، بل خطة إخضاع، وهذه ليست فوضى طحين، بل انتفاضة وعي. ولهذا تحديدًا، لم يكن مشهد الهروب مجرد إجراء أمني منسق، بل كان لحظة فضيحة سياسية مكتملة، كشفت عجزاً  أمريكياً صريحاً عن احتواء الوعي الفلسطيني، حتى حين جُوّع.
الولايات المتحدة، التي أرادت أن تلبس قناع الراعي الإنساني، سقط عنها القناع أمام الكاميرات، ليس لأن مساعداتها لم تصل، بل لأن الحقيقة وصلت قبلها: أن المساعدات كانت وسيلة اختراق، لا دعماً بريئاً، وأن المسرحية انكشفت عند أول اختبار حقيقي مع شعب يعرف كيف يُسقِط السيناريوهات ولو بلا بيانات ولا بيانات مضادة.
بين هذا الوعي وذلك الهروب وُلدَ السقوط، فما جرى في رفح لم يكن مشهداً فوضويًا طارئاً، بل لحظة مفصلية في فهم أدوات الاحتلال الجديدة، حين يُجرب عدوك أن يحتلك بالمعونات، ويُقسم الجغرافيا بكرتونة، ويُمرر التهجير عبر الطوابير، فأنت أمام نموذج استعماري متطور، ولكنه سقط وسقوطه لم يكن بصاروخ، بل بالوعي الشعبي الفطري الذي رفض الدور، وأسقط المسرح بمن عليه.
الهندسة الإغاثية، والمعسكرات الناعمة، والرفحنة الممنهجة، كلّها أدوات حرب غير معلنة، ولكن ما لا يفهمه المحتل ولا من يقف وراءه، أن الفلسطيني حين يجوع، لا يركع؛ بل يُفكك مشروع الاحتلال بكيس دقيق، ويفضح الخداع بكومة طين.
رفح اليوم ليست فقط منطقة حدودية، بل جبهة مقاومة جديدة، جبهة الوعي، والهاربون من مشهدهم المفضوح لن يكتبوا النهاية، لأن الشعب الذي كشف اللعبة، قادر على إعادة كتابة قواعد الاشتباك من تحت الركام، وبتوقيع الوعي، لا العجز.
كاتبة في الشأن السياسي