نور ملحم: السلطة والعنف: بين الشرعية والاستبداد.. سوريا مثالا

نور ملحم: السلطة والعنف: بين الشرعية والاستبداد.. سوريا مثالا

نور ملحم
منذ نشأة المجتمعات البشرية، كانت السلطة ضرورة لتنظيم العلاقات الاجتماعية وضمان الاستقرار. ولكن السلطة، كي تكون مقبولة، تحتاج إلى الشرعية، لأن استخدام القوة وحده لا يكفي لضمان استمراريتها. في النظم الديمقراطية، يكون للعنف الرسمي، مثل استخدام الشرطة والقوات الأمنية، حدودٌ واضحة تخضع لمساءلة القضاء والصحافة المستقلة. هذا الإطار القانوني يمنع السلطة من أن تتحول إلى أداة للقمع المستمر، ويحافظ على التوازن بين الأمن والحرية. لكن في الأنظمة الاستبدادية، يتم تجاوز هذا التوازن بشكل صارخ؛ حيث يصبح العنف أداة جوهرية لإنتاج السلطة السياسية وصونها، وليس مجرد وسيلة لضمان النظام العام.
في هذه الأنظمة، لا يُستخدم القانون لتحقيق العدالة، بل يتحول إلى أداة لإضفاء الشرعية على العنف وتبريره. تُرفع شعارات الأمن والاستقرار، ولكنها تخفي وراءها آليات قمع منظمة تهدف إلى إسكات أي صوت معارض.
 تتحكم السلطة في وسائل الإعلام والقضاء، ما يؤدي إلى تغييب أي رقابة حقيقية على أفعالها. هكذا يصبح القمع والعنف منهجيًا، ويتغلغل في مختلف جوانب الحياة اليومية، بحيث يُفرض على المواطنين عبر سياسات التخويف والإقصاء.
الدين، كظاهرة اجتماعية، يلعب دورًا بالغ الأهمية في تشكيل هوية المجتمعات وصياغة قيمها. الإسلام، مثل بقية الديانات، يدعو إلى التسامح واحترام الآخر، ويؤكد على حرية المعتقد. تاريخيًا، كان الإسلام منفتحًا على التعددية الدينية، ويظهر ذلك بوضوح في “وثيقة المدينة”، التي كتبها النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)، حيث نصت بوضوح على حقوق الأقليات وحرية ممارستهم لشعائرهم دون قيود.
لكن الواقع المعاصر يُظهر كيف يمكن أن يُوظَّف الدين كأداة سياسية واجتماعية للسيطرة وفرض الهيمنة، خصوصًا في المناطق التي تغيب عنها الأنظمة الديمقراطية أو التي تعاني من أزمات سياسية عميقة. الجماعات المتطرفة تستغل التفسيرات الخاطئة للنصوص الدينية لخلق تبريرات للعنف، وتحاول فرض رؤى سياسية تحت غطاء ديني. هذا لا يحدث فقط في الدول التي تعاني من صراعات أهلية، بل حتى في المجتمعات التي تبدو مستقرة ظاهريًا.
الأخطر من ذلك أن بعض الأنظمة السياسية تستغل هذه الجماعات، إمّا عبر دعمها بشكل غير مباشر، أو عبر توظيفها كأداة لقمع الأصوات المعارضة التي تهدد استمرار السلطة. وهنا يصبح الدين، الذي كان من المفترض أن يكون عنصرًا للسلام والتعايش، أداة لتبرير الصراعات وإضفاء المشروعية على الاستبداد.
التاريخ يخلق أوجه تشابه غير متوقعة بين مناطق مختلفة مثل سوريا، بنغلاديش، وبلوشستان، رغم اختلافاتهم الثقافية والعرقية. القاسم المشترك بينهم هو الاضطهاد المستمر، حيث تُستخدم المنظمات المتطرفة كأدوات للقمع، مدعومة ماليًا من جهات خارجية. التمويل الخارجي لهذه المنظمات يزيد الأمر تعقيدًا، إذ يوفر لها الموارد اللازمة لتعزيز نفوذها داخل المجتمعات، ما يؤدي إلى تأجيج النزاعات واستمرار حالة عدم الاستقرار.
سيناريو سوريا يعكس إلى حد كبير ما قامت به الدولة الباكستانية سرًا في بنغلاديش، مثل الاختفاء القسري والإعدام خارج نطاق القضاء، كوسيلة لقمع المعارضة بشكل منهجي. وعلى النقيض من بنغلاديش، لا يزال السعي إلى سيادة بلوشستان دون تحقيق. فقد اختفى آلاف النشطاء والصحفيين والمواطنين، ويحيط مصيرهم بالقبضة الحديدية لجهاز الدولة. وعلى الرغم من ثرواتها الطبيعية الهائلة – الذهب والغاز والمعادن – إلا أن بلوشستان غارقة في فقر مدقع، حيث تُستنزف مواردها لإثراء النخبة الباكستانية بينما يظل شعبها بلا مأوى.
لا يمكن للأنظمة الاستبدادية أن تستمر إلى الأبد، لأن الشعوب، مهما تعرضت للقمع، تظل قادرة على تطوير أساليب مقاومة جديدة. التاريخ مليء باللحظات التي تمكنت فيها المجتمعات من الإطاحة بأنظمة قمعية من خلال وسائل سلمية، وإن بدا ذلك مستحيلًا في البداية. المقاومة قد تأخذ أشكالًا متعددة، مثل العصيان المدني، التظاهرات السلمية، أو حتى الضغط الاقتصادي، كما رأينا في تركيا، حينما قرر المواطنون الامتناع عن عمليات البيع والشراء لمدة 24 ساعة، احتجاجًا على اعتقال عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن للأفعال الصغيرة أن تُحدث تأثيرًا سياسيًا حقيقيًا؟ عندما تُسد كل الطرق الأخرى، هل يمكن للمقاطعة الاقتصادية، أو الامتناع عن التعامل مع المؤسسات المرتبطة بالسلطة القمعية، أن تكون وسيلة فعالة لفرض الضغط والتغيير؟
المجتمعات التي تعاني من القمع تحتاج إلى تطوير أدوات احتجاج تتناسب مع واقعها السياسي والاجتماعي. نجاح المقاومة السلمية يعتمد على مدى تنظيمها، واتحاد القوى المختلفة التي تسعى إلى التغيير، وضمان استمرارها لفترة طويلة حتى تُحدث التأثير المطلوب.
في النهاية، الاستبداد ليس أبديًا، والشعوب دائمًا تمتلك القدرة على استعادة حقوقها، طالما أن هناك إصرارًا على رفض الظلم، والعمل على تحقيق العدالة.
كاتبة سورية