فؤاد شريف: الصراع مع إيران. التأمل في ما يتجاوز حدود العقل…

فؤاد شريف: الصراع مع إيران. التأمل في ما يتجاوز حدود العقل…

فؤاد شريف

 “مَن يعرف عدّوه ويعرف نفسه، يقود مئة معركة من دون خطر. ومَن لا يعرف عدوّه ولكنّه يعرف نفسه، فقد يحرز نصراً ويلقى هزيمة. ومَن لا يعرف عدوّه ولا يعرف نفسه، يكون في دائرة الخطر في كلّ معركة”.
القائد التّاريخيّ الصّيني سون تزو.
في مستهلّ النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، وصف القيصر الرّوسي نيقولاي الأوّل الدّولة العثمانية ب”رجل أوروبا المريض” واقترح على بريطانيا وفرنسا الإجهاز عليه، واقتسام تركته، وحين كان “رجل أوروبا المريض” يعيش آخر أيّامه، كتب دبلوماسيّ تركيّ في أوروبا إلى وزارة الخارجيّة في اسطنبول: “الأمم الأوروبيّة تستعدّ لوليمة كبرى، وما لم نتحرّك نحن سريعاً، لنكون على لائحة الضّيوف، سنصبح على لائحة الطعام”. أيامها (عام 1896)، نشرت مجلة “بنش” البريطانية السّاخرة كاريكاتيرا، يُظهر السّلطان عبد الحميد الثّاني، وهو يطالع ملصق على شكل دعوة للاكتتاب يقول:
دعوة للاكتتاب
إعادة تنظيم شركة
الدّولة العثمانية
رأس المال 5,000,000 جنيه استرليني
المديرون:
روسيا وفرنسا وإنجلترا
ثم يقول التّعليق أسفل الرسم:
تركيا المحدودة
السّلطان: “بسم الله” أيجعلونني شركة محدودة؟ ممّ – آه – أفترض أنهم سيسمحون لي أن أنضمّ لمجلس الإدارة بعد توزيع الحصص”!
وفيما انشغلت روسيا في حربها الأهليّة، بادر الإنجليز في تنفيذ المؤامرة، ونجحوا في توظيف عرب الجزيرة  تحت راية “العروبة” فيما أرّخوا له بعنوان “الثّورة العربيّة الكبرى” ونُشرَ غسيلُها المُقرف والقذر، في مذكّرات ضبّاط المخابرات الإنجليز، ولاحقا في الوثائق التي أفرجت عنها الخارجيّة البريطانيّة أواخر القرن الفائت…فلقد أجهزوا على الدّولة العثمانيّة مع الفرنسيّين، فسقطت المرجعيّة الإسلاميّة (الإسميّة)، التي جمعت شعوب الأمّة إلى ذلك الحين. ثم تقاسم الطّرفان التّركة (قسمين بينهما) وفق اتفاقيّة “سايكس – بيكو” وقسّموا القسمين إلى كيانات (ما دون سياديّة)، بعضها، لصغر أحجامها ومحدوديّة مواردها البشريّة أو الطبيعيّة، وأخرى لمحدوديّةِِِ فيهما الإثنتين، لا يُمكن أن تمتلك شَرطَي الاستقلال وهما القدرة الاقتصاديّة، والقدرة الأمنيّة كي تصير دوَلََا ولها سيادة. حتّى لو حلّت في أنفُسها أرواحُ عفاريت الجنّ. وأخرى امتلكت الموارد، ولم تمتلك المشروع المُوصل للدّولة والسّيادة والتحرّر… هذا فضلا عن حكّام عملاء “موثوقين” صنعهم المستعمر ونصّبهم وظلّ يدعمهم، فكانت كيانات “وطنيّة”، هي في حقيقتها، مسامير دقّونا بها على “حائط المبكى” مهّدت بها الصّهيونيّة العالميّة لقيام “إسرائيل” بالقرار 181 صدر لاحقا عن الجمعيّة العموميّة في الأمم المتحدة عام 1947، يقسّم أرض فلسطين، بين “دولة يهوديّة” (يهوديّة!) وأخرى عربية (وهمية!). وتظلّ “الدّولة العربيّة” وهميّة بالمطلق، ما دامت منزوعة الدّين!
وبعد الحرب العالميّة الثّانية، أصبحت أمريكا القوّة العالميّة الأعظم، تقود الغربَ شريكَ “إسرائيل” في العقيدة الصّهيونيّة، وضمّت تركيا وريثة الدّولة العثمانيّة إلى حلفهم العسكري “الناتو”، وظنّت تركيا بعضويّتها فيه، أنّها انضمّت إلى “مجلس الإدارة”  كما أومأ الكاريكاتير الإنجليزي من قبل!
وبينما أصبحت في الحقيقة تركيا مع الكيانات العربية “قواعد”، في خدمة “إسرائيل”، تَحمي أمنَها وتغطّي توسّعها، وتخدمُها اليوم في عهد أردوغان، كما لم تخدمْها من قبل…
 فإنّ قراءة المنطقة جيوسياسيا وهي مكتوبة من قبْلُ بجذع نخلة، باتت أيسر وأوضح على ضوء ما يحدث الآن، فيما يعاد كتابتها بالحديد والنّار، وأشلاء أبنائها ودمائهم، عكس الأطروحة التي أشيعت في لحظة غفلة، ولا تزال بعض أوساط نخبنا تردّدها دون تمحيص، كوْن “إسرائيل” هي قاعدة أقامها الغرب في خاصرة الأمّة، لحماية مصالحه الاستعماريّة. فتؤكّد زيف تلك الأطروحة، وأنّها معكوسة بالتّمام. لتُقرأ على الوجه الصّحيح هكذا: إنّ تركيا وعموم كيانات الأمّة عربيّة وغيرَ عربيّة، “قواعد” أنشأها الغربُ (الصّهيونيّ) كي تحميَ “إسرائيل” مشروعَه الدّينيَّ الأقدس، ليهوده ومسيحيّيه (الصهاينة)، وتضمنَ أمنه وتَوَسُّعَه وهيمنتَه، من النّشأة حتّى الاندثار..!
وحين قامت الثّورة الإسلاميّة في إيران1979، واكب الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يوميّاتها (من الدّاخل الإيراني) فكتب: “إنّه خيار حاسم بالنّسبة إلى هذه الحركة التي توصّلت إلى نتيجة قلّ نظيرها في القرن العشرين: شعب دون أسلحة، يقف بكامله ويقْلب بيديه نظاما قويّا جدّا. إلاّ أنّ أهمّيتها التّاريخيّة ربّما لا تكمن في تماهيها مع نموذج ثوريّ معترف به، يجب أن تحصل عليها بالأحرى من الإمكانيّة الّتي لديها، لقلب المعطيات السّياسيّة للشّرق الأوسط، وبالتالي الاستراتيجيّة العالميّة. ولاحظَ: “ففرادتها الّتي شكّلت حتى الآن قوّتَها، يُخشى أن تصنع بعد ذلك قوّةَ انتشارها. إنّها قادرة بالفعل باعتبارها حركة إسلاميّة على إشعال المنطقة بأسرها، والإطاحة بأقلّ الأنظمة استقرارًا وتهديد أقواها. فالإسلام الذي ليس مجرّد دين فحسب، بل نمط حياة وانتماء لتاريخ معيّن وحضارة معيّنة، يُخشى أن يشكّل انفجارًا هائلا يُقاس بمئات الملايين من البشر. فمنذ الأمس، يمكن أن يثور كلُّ بلد مسلم من الدّاخل، انطلاقا من تقاليده الممتدّة على مدى قرون من الزّمن”. ووصل إلى القول: “وبالفعل يجب الإعتراف بأنّ المطالبة بالحقوق العادلة للشّعب الفِلسطني، لم تُثِرْ أبدََا الشّعوب العربيّة. فماذا ستكون الحال لو حصلت تلك القضيّة على ديناميكيّةِ حرَكةِِِ إسلاميّةِِِ، أقوى من أيّة مرجعيّة أخرى؟! وبالمقابل: ما هي القوّة التي ستحصل عليها حركة الخميني الإسلاميّة، إذا ما حدّدت لنفسها هدفًا هو تحرير فلسطين؟ فلن يجريَ نهر الأردنْ أبدا بعيدا عن إيران”. (1)
ورأينا – بالفعل – كيف كانت “إسرائيل” تتوسّع، قبل الثّورة الإسلاميّة في إيران، وكيف أصبحت بعد الثّورة، تتراجع القهقرى، وتبني حولها الجدران..!
أمّا اليوم… فإنّ “الوليمة الكبرى” الجديدة التي يُمنّي الصهاينة بها أنفسَهم، ويُغْرونَ بها ترامب (وبالتأكيد بوتين للمساعدة!)، ويدفعون نحوها دفعََا، باعتبارها “الجائزة الكبرى”، وأين منها جائزة نوبل للسّلام الّتي يسعى إليها ترامب ؟!… هي الجمهوريّة الاسلاميّة الإيرانيّة!

وعدا فوارق أساسيّة وحاسمة لصالح إيران لسنا الآن بصددها، فقد بدا التّشابه بين إيران في أوضاعها الدّاخليّة وظروفها الجيوسياسيّة، وبين الأيّام الأولى لنهاية الدّولة العثمانيّة. تشابه، يشمل المعادلة الدُّوَلية الرّاهنة، مع تلك الّتي سبقت الحرب العالميّة الأولى.

وأعترف أنّي في هذه المقاربة المتواضعة، أدلف إلى المتاهة الإيرانيّة، ضمن هذا السّياق المتفجّر، كأنّ على رأسي الطّير، أو كمنْ يعبُر على حدّ السّكين. ذلك، لأنّ أيّ تصويب، ولو مُلَطَّف، يمكن أن يتساوى في نظر مؤيّدي المقاومة (وإيران)، مع الحملات الظّالمة والمُغرِضة التي تتعرّض لها حركات المقاومة (وإيران)، كما عبّر الكاتب السّياسي أسعد أبو خليل، وضرب مثلا على النّزوع نحو التستّر والاعتذاريّة والدّفاع المطلق عن الذّات بياسر عرفات، في مقال له في جريدة الأخبار اللبنانيّة قال: “عرفات (المسؤول أكثر من أيّ قائد فلسطيني في القرن العشرين عن الحالة المزرية التي بلغتها حركة المقاومة الفلسطينيّة) كان يساوي بين المراجعة والنّقد الذّاتي، وبين التّشكيك والتّخوين”. (2) ولأنّ زخرف القول والغرور، وحفلة التّكاذب البيني، أو الكذب على الذّات، لا تروق إلّا لصغار العقول، يلتمسون فيها السّلوى، وعاقبتها دائما لا تسرّ. ولأنّ مشروع الأمّة في التّحرير والنّهوض، ولتكون كلمة الله هي العليا يستدعي البصيرة، ولا يستقيم إلّا على الوجه الذي أراده الله: “قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ… الآية”(3). ولقد أعلى النّبيّ الأكرمُ من قيمة وقامة الإنسان “الاستراتيجي”، المحيطِ بما حوله، البعيدِ النّظر والواسعِ الأفق، والبارعِ بالنّتيجة في رسم الطّريق والطّريقة المثلى، قال: “طوبى لمن عرف زمانه، واستقامت طريقته”. ولأنّ الذي جرى ويجري في المنطقة، يتطلب كما ورد في بيان “اللقاء الديمقراطي” في لبنان. بتاريخ 25 آذار 2025. (4) “يتطلّب فتح نقاش ومراجعة عميقين للبرامج والأدوار والعلاقات والممارسات… وخصوصاً منذ مرحلة «طوفان الأقصى»، وفي أثنائها، وحتّى المرحلة الرّاهنة. لا شكّ أنّه قد حصلت مبالغات، وتكشّفت سلبيّات وثغرات واختراقات… أسهمت، إلى سوء تقدير في ما يتعلّق بردّ العدوّ وداعميه وخططهم، في تعظيم الخسائر أو في عدم الحدّ منها: سواء في المواقف أو في التّدابير والإجراءات”… قلت أقرع الجرس، أو ألقي حجرا في البِركةِ وأرى…
تجرّعنا الغصّة، ورأينا (بعيون شاخصة) كم كان “محور المقاومة” مهلهلا في بنيته التّنظيميّة. وبلا استراتيجيا واضحة، تجمع الفصائل تحت قيادةِِِ واضحة وموحَّدة، المفترض أن تكونَ إيرانيّة. باعتبار إيران، الدّولة والثّورة، هي الرّاعي الرّسمي للمقاومة. والمصْدر الوحيد (الثّابت والمؤكّد) للتّسليح والتّدريب والتّمويل. وإنّها – هي وليس الفصائل – القادرة على وضع الخطط التّكتيكيّة والاستراتيجيّة. ومراجعتها وتطويرها (بمساعدة الفصائل)، وهي بالضّرورة والمنطق، مَن تجيز إنفاذ الخطّة في وقتها المحدّد. أو تجمّدها وترجئها لوقت لاحق. أو تسحبها وتصرف النّظر عنها… لأنّها هي الدّولة، ولها مؤسّسات أُلحِقت بها مراكز دراسات استراتيجيّة. تتابع الأحداث التي وقعت بالدّراسة والبحث. وتستقرئ الّتي لم تقع بعد. وتقدّم النّصح وترفع التّوصيّات. والدّولة بمؤسّساتها، هي الأقدر على جمع المعلومات بأنواعها، المطلوبة والضّروريّة، عبر مصادرها السّياسيّة والدّبلوماسّية، والأمنيّة والعسكريّة، البشريّة والتّقنيّة (شبكة جواسيسها، وأقمار تجسّسها، وعمليّاتها السّيبرانيّة)، ولها موارد وقدرات محدّدة. مضمونة بيدها، وأخرى متوقَّعة، ضمن دائرة تحالفاتها، وعلاقاتها الإقليميّة والدّولية، وهي أدرى بها…
وهي – بالضّرورة – مَن يجب أن تضبط الخطّة العملانيّة، وفق ما لديها من معطيات، وحسب طاقتها، بمواجهة التّداعيات والاحتمالات المتوَقّعة بحدودها الدّنيا والقصوى، لكلّ عمليّة من عمليّات فصائل “محور المقاومة” على طريق التحرّر الطّويل، وضمن الرّؤيا الاستراتيجيّة الّتي تملك. ولأنّها وحدها امتلكت مشروع الثّورة والدّولة، دونا عن حركة “الإخوان” التي تفرّعت حماس عنها وعن عموم العرب، كفيلة  بترقية المقاومة من الحالة الانفعاليّة، والممارسة الارتجاليّة، إلى الفعل الاستراتيجي، إذا أرادت. ومن ضيق الدّائرة الوطنيّة المتوهَّمة، وسراب الدّولة الفلسطينيّة، إلى أفق الأمّة بحدودها الأوسع.
وإذا كان السّياق هكذا، فهل يكون مبرّرََا أن تكتفي إيرانُ بالدّعم، تمويلا وتسليحا وتدريبا، وتعفي نفسَها ممّا زاد على ذلك؟ وتترك الفصائل “سائبة” هي من تقرّر، فتخطّط وحدها وتنفّذ… وأنْ تفعلَها “حماس” ثلاث مرّات:
– الأولى: خروجها من دمشق عام 2011 تغليبا لموقف حركة “الإخوان” والتزاما به، أملاه انتسابها التّنظيمي إليها. خلال ما أُسْمِيَ زورا “الثّورة السّوريّة” ضمن ما دُبّر وقُدّم بعنوان “الرّبيع العربي”. وللمفارقة الّتي  يدركها كلّ من امتلك وعيا سياسيّا حقيقيّا بعمقه التّاريخي، واستأنس بقواعد حركة التّاريخ والمجتمعات، فقرأ الأحداث وترابُطَها في أفقها، (وفي ما آلت إليه من نتائج) أنّ “ثورات الرّبيع العربي” السّفيهة والمخزية، الّتي ورّط فيها الصّهاينة الأمريكانُ العربَ والأتراكَ، واستخدموا فيها تنظيمات ما أسماه سيّد قطب “الإسلام الأمريكي” الذي اندرجت “الإخوان” ضمنه، فصارت أبرزَ عناوينه بعد استشهاده ولجوء أغلب قياداتها إلى السّعوديّة ومشيخات الخليج… ليست سوى الموجةَ الأخيرةَ من موجات الثّورة المضادّة، للثّورة الاسلاميّة الّتي بادر  الإيرانيّون إليها سنة 1979، وجعلت من إيران الحصن الحصين لفصائل المقاومة. وتأتي هذه الموجة بعد الحصار المطبق الذي فُرِض عليها، ودُفِع بعراق صدّامِِِ ومِن خَلفِه العربُ لحربٍ عدوانيّةٍ ضدّها، لثمانية أعوام. كانت خلالها تقاوم بيد، وتبني باليد الأخرى. فصمدت، وراكمت الإنجازات على كلّ الأصعدة، ومن أعظم إنجازاتها، فيض التّمويل والتّسليح والتّدريب لفصائل”محور المقاومة”، الّتي أصبحت حزاما ناريّا يطوّق كيان العدوّ الإسرائيلي. فكان انسحاب حماس من دمشق إلى الدّوحة في قطر، الّتي تستضيف مقرّ القيادة العسكريّة الوسطى للجيش الأمريكي، واعترفت لاحقا، أنّها استضافت قيادة حماس، استجابة لطلب أمريكي.(ونعفّ عن ذكر ما زاد عليه مما بدر من حماس في حقّ سوريا). ذلك لخطورته، أضعفَ أساسات النّظام السّوريّ، الّذي كان حلْقةَ الوصل بين إيران وفصائل المقاومة، وجسرَ عبورِِِ لجلّ أنواع الدّعم. وأفقده ورقة ذهبيّة للصّمود. وأسهم مضافا إلى فساد النّظام المطلق، وعدم قابليّته – بداهة – للبقاء، وسلبيّة الدّور الإيراني الذي واجه بما أسماه “الصبر الاستراتيجي” القصف الإسرائيلي الذي استمرّ بلا هوادة، لقواها، وللقوى الرّديفة بالتّنسيق مع الرّوس. وسلبيّة الموقف إزاء ارتهان النّظام بالكامل لدى روسيا، التي تتنافس مع عرب الجزيرة في تقديم الخدمة لكيان العدوّ. والّتي ما كان تدخّلها في سوريا إلّا كي تمسك بها ورقة للمساومة. ولعبتها حين أتاحت لها عمليّة “الطوفان” المناسَبة. فسقطت سوريا تحت أقدام العدوّ الصّهيونيّ، وأدواته والمرتزقة. فيما تحتفظ روسيا بقاعدتيها الجويّة والبحريّة في سوريا حتّى الآن. وإنّها باقية هناك ما بقيت تخدم “إسرائيل”.
– الثّانية: دعمها لتحالف العدوان على اليمن، الذي تزعّمته السّعوديّة بتدبيرٍ وقيادةٍ أمريكيّةٍ من خلف، لإعاقة الثّورة الشعبيّة الأصيلة، الّتي قادتها حركة أنصار الله. تصدّيا للثّورة “الملوّنة”/الزّائفة، الّتي دبّرتها أمريكا في اليمن، ضمن ما أسْميَ “الرّبيع العربي” لمزيد إضعاف اليمن وتقسيمه، وإحكام الهيمنة على اليمنيين أكثر، وتدوير ورسكلة النّظام العميل تحت الوصاية السّعودية والإماراتيّة. وفق ما أسمَوه “المبادرة الخليجيّة” على قاعدة ما أوصى به الملك عبد العزيز بنيه، حين جمعهم قبل وفاته فأوصاهم شرّا باليمن قال: “عزّكم في ذلّ اليمن، وقوّتكم في ضعفه!”. (5) والنّظام الذي خلعوا عليه صفة “الشرعيّة” حارب نيابة عن أمريكا و”إسرائيل” ستّ مرّاتٍ حركةَ أنصار الله، بسبب شعارها/”الصرخة” الذي دلّ على رسوخها في هويّة يمن الإيمان والحكمة، وظهّر عداءها السّياسي المبدئي والواعي، لمشروع الهيمنة الصّهيوني، بقيادتيه الإقليميّة (إسرائيل) والدُّوليّة (أمريكا). حيث أصدرت حركة حماس، بعد ثلاثة أيّام من بدء “عاصفة الحزم” في آذار 2015، بياناً يؤكّد وقوفها مع “الشّرعيّة اليمنيّة” كما قالت!
– والثّالثة: عمليّة “طوفان الأقصى” ، الّتي استغرق الإعداد لها سنين، كما ورد في بيانات الحركة(!) قد تكشف الأيّام لاحقا، أنّ العدوّ لم يكن غافلا عنها، (ويمارس الآن التّعمية). فلربّما كان ينتظرها تقع، ليبني عليها ردّه كما رأينا ونرى. فكانت عمليّة عارية من أيّ اعتبارات استراتيجيّة، لناحية حجمها وتوقيتها، ضمن تلك الظّروف الإقليميّة والدّوليّة الفارقة، أذكر منها ثلاثة أساسيّة:
1- سقوط النُّخب السّياسية العربيّة بالكامل، وفقدان مصداقيّتها أمام شعوبها بالمطلق، وفي المقدّمة منهم “الإخوان” بسبب دورهم في “ثورات الرّبيع العربي” المزعومة، الّتي استنزفت محور المقاومة، وأرهقت روح الأمّة، وكَوَت “وعيها” بالثّورة، وأفضت إلى الكثير من الانسحاق والخراب والعجز العربيّ، والمزيد من التّطبيع مع العدوّ. فأفقدتها القدرة على تعبئة الجماهير وتحريكها في أيّ استحقاق، كهذا الذي نحن – الآن – فيه.
2- الاستقطاب السّياسي الحادّ، داخل كيان العدوّ. حيث حشدت المعارضةُ الشّارعَ لإسقاط نتنياهو، بسبب خطّته لــ”اصلاح القضاء”. وكانت فعلا على وشك إسقاطه.
3- الحرب الرّوسية /الأطلسيّة في أوكرانيا).
ذلك، ما فرض على فصائل “محور المقاومة” خوض حرب الإسناد، في بيئة محليّة وإقليميّة ودوليّة معادية على الأرض. وفي انكشاف تامّ من السّماء ثلاث مرّات، عسكريّة وأمنيّة وإعلاميّة… تماما كما حصل في الحرب التي سقطت فيها سوريا.
والحاصل حتّى الآن، من حملة التّوحّش والإبادة المتواصلة للفلسطينيين في غزّة، والتّدمير المنهجي التّصاعدي والمتواصل – في شهور – لمنجزات فصائل المقاومة، التي بُنيَت بتضحيّات جسام خلال أربعة عقود. يساوي أو يفوق النّكسة الّتي مُنيَت بها الأمّة عام 67، ويمهّد لنكبة جديدة وأكبر، ما لم يطرأ تحوّل ثوريّ (إعجازي)، يوقف المعادلة المتدحرجة عند آخر حدودها، أو يعكس مسارها، ويقلب مآلاتها رأسا على عقب.
 ذلك دلّ على أمر جلل، تعانيه الأمّةُ  وطليعتُها المقاوِمةُ على السّواء: فراغ في القيادة وغياب للرؤيا وخلل بنيويّ دراماتيكيّ في هيكليّة “محور المقاومة”. لا بدّ أن تتحمّل القيادة الإيرانيّة مسؤوليّته، ومسؤوليّة كلّ ما أعقب عمليّة “طوفان الأقصى” الّتي فاجأت “حماسُ” بها الجميع، بما في ذلك إيران. وأوقعت الكلّ في دهشة أو صدمة، بوزن تلك التي أحدثتها عمليّة تنظيم القاعدة في نيويورك عام2001. وقبلها، غزو العراق للكويت عام 1990. وأنعشت ثلاثتها “نظريّة المؤامرة”، للفرص الاستثنائيّة والتّاريخيّة الّتي أتاحتها، أمام مشاريع الهيمنة والتوّسع الإمبرياليّة والصّهيونيّة. حتّى لقد رأى البعض عمليّة “الطّوفان” وحيا موساديّا لحماس، المخترَقة إسرائيليّا عبر قطر! (6).
ولئن كانت عمليّة القاعدة إرهابا، وغزو العراق للكويت عدوانا على بلد عضو في الأمم المتحدة. لا يملكان أيّ غطاء شرعيّ، فإنّ عمليّة “الطوفان” لا ينازع أحد في شرعيّتها من حيث هي مقاومة. إلّا أنّ قداسة العمل المقاوم تستدعي جرءة طرح السّؤال: هل المقاومة لا توجب مطالعة معادلة الصّراع، ومقايسة القدرات، وتقدير الرّدود والمآلات، قبل الإقدام على أيّ عمليّة مهما كانت عاديّة وصغيرة، فكيف إذا كانت هي الأقسى على العدوّ منذ بدء الصراع؟ وهل كان لعمليّة “طوفان الأقصى” أن تكون، لو كان “محور المقاومة” مُهَيكلا كما يجب أن يكون (بقيادة إيرانيّة)، و سبَق العمليّةَ قراءةٌ صحيحةٌ للسّياق الاستراتيجي، وللتّداعيات المتوقّعة..؟
إنّ الخطرَ الوجوديّ الذي وَضعت العمليّة “إسرائيلَ” فيه كما تحسّست قيادتها، سرعان ما انقلب بوضوح، فوضعت القضيّة الفلسطينيّة وفصائل محور المقاومة، والجمهوريّة الإسلاميّة فيه. وصولا إلى مجيء ترامب، الذي – بصفاقته وصلافته، وبجماع الصّهيونيّة والصّليبيّة الجديدة – خاطب القيادة الإيرانيّة بغرور واستكبار، فركَزَها بين السِّلة والذّلة. ممهلا إيّاها شهرين، إمّا أن تأتيه صاغرة ذليلة، منزوعة السّلاح، عارية من الثّورة والسّيادة، ومن شرف المقاومة. أو يأتيها بحرب لا تبقي ولا تذر.
في سنة 2015، وتحت عنوان “الحرب ضدّ الصّين. التّفكّر في ما لا يتقبّله العقل” (7) صدرت دراسة في 117 صفحة. عن مؤسسة راند RAND البحثيّة، رعاها مكتب وكيل وزارة الجيش الأمريكي ضمن برنامج الاستراتيجيا والعقيدة العسكريّة والموارد الخاصّة، تناولت الحرب الصّينية الأمريكيّة (على سبيل التّوقّع) من خلال تدارس المسارات البديلة التي يمكن اتخاذها، والتأثيرات في كلا البلدين من كلّ مسار، ضمن أربع حالات تحليليّة، من خلال متغيرين: الشدّة: من معتدلة إلى ضروس. والمدّة: من بضعة أيّام إلى سنة أو أكثر. ومن ثمّ، أربع حالات: مقتضبة وضروسًا، وطويلة وضروسًا، ومقتضبة ومعتدلة، وطويلة ومعتدلة. والاستعدادات التي تنبغي للولايات المتّحدة، وطرق موازنة أهداف الحرب الأمريكيّة والتّكاليف في حالة حدوث حرب. وهي لا تنظر في العوامل العسكريّة فحسب، بل أيضا الاقتصاديّة، والسّياسية المحليّة والدّوليّة، على امتداد الإطار الزّمني من عام 2015 إلى عام 2025. (ليت حماس أنجزت مثلها قبل أن تقرّر عمليّة “طوفان الأقصى”!).
وإذ ترى الدّراسة أنّ حربا أمريكيّة ضد الصّين غير مرجّحة، وذلك جزئيّا بسبب معرفة الجانبين أن التّكاليف من شأنها أن تفوق المكاسب حتّى بالنّسبة إلى الفائز، إذا كان هناك فائز حقّا. علاوة على أنّ تكاليف الاستعداد الكامل وازعة، بالنّظر لكونها أكبر من تكاليف حرب عندما تنخفض بسبب ضعف احتماليّتها. فإنّ الدّراسة تُولي أهمّية كبرى، لردّة فعل كلٍّ من روسيا وإيران. وتلحظ أنّ الصّراع بين الصّين والولايات المتّحدة، قد يعكّر صفو الشّرق الأوسط الكبير، عبر فتح الطّريق أمام الجماعات الإسلاميّة المعادية لــ” إسرائيل” والمدعومة من إيران، “ما يفرض مطالب إضافيّة على القوّات البحريّة والجويّة الأمريكيّة، في الوقت الذي يلزم فيه المزيد منها في غرب المحيط الهادئ. وفي المقابل، فإنّ تحويلَ قدَرٍ كبير من القوّات الأمريكيّة من القيادة المركزيّة الأمريكية إلى القيادة الأمريكيّة في المحيط الهادئ، قد يضيف إلى احتماليّة انعدام الاستقرار في الشّرق الأوسط”. وتوصي الدّراسة بالتّشاور مع منظّمة حلف شمال الأطلسي، بخصوص حالات الطّوارئ المشتمِلة على صراع مع الصّين، بما يتضمّن ردود الفعل الرّوسيّة والإيرانيّة الممكنة.
وإذ استطاعت أمريكا توريط روسيا، في حرب استنزاف في أوكرانيا منذ شباط 2022، وكفّلت أمرها مؤخّرا للأوروبيين، ولا تني في ابتزازها بخصوص علاقاتها مع الصّين ومع إيران… فإنّها وبالنّظر إلى موازين القوى المتحوّلة لصالح الصّين، بوتيرة أسرع مما كانت تتوّقع، فإنّ أمريكا، قد تتّجه نحو حرب ضدّ إيران غير ذات الشّوكة، إذا ما قيست قوّتها مع قوّة الصّين.
إنّ الحرب ضدّ إيران، قد يراها البعض بعيدة، وهي في كلّ الأحوال ليست موضوع سؤال أتقع أم لا تقع، بل مسألة وقت. هل تنجح المفاوضات الجارية الآن في تأخيرها وكم من الوقت؟
وبرغم أنّ السّيد الخامنئي هاجم مجرّد الدّخول في المفاوضات مع إدارة ترامب، ووصفها بأنّها “عبث وعمل غير مشرِّف”، إلّا أنّه جنح بعد ذلك إلى القبول بالدّخول فيها، واكتفى بدعوة الإيرانيّين إلى عدم تعليق الآمال عليها.
فهل تنجح ديبلوماسيّة حائك السّجّاد، في الفصل بين الثّنائي الأشدّ عداء للجمهوريّة الإسلاميّة الّذَيْن  يتبادلان الأدوارَ بينهما في لعبة مكشوفة، يجتهد إعلام “الإبراهيميّة” لتمريرها؟ ففيما نتنياهو المصاب بمتلازمة الدّم، يضغط باتجاه الخيار العسكري، فإنّ ترامب المصابُ بمتلازمة المال – على حدّ وصف المعلّق الأمريكي من أصل هندي فؤاد زكرياء – تلقّف وبشراهة شايلوك  للمال العرضَ الإيرانيَّ، بفتح إيران أمام الشّركات الأمريكيّة، لقاء الاتّفاق ورفع العقوبات. ولا يفوته الثّناء عن سير المفاوضات إثر كلّ جولة من جولاتها الخمس حتى الآن.
ترامب الذي لم يتردّد في سؤال جوزف ستيغليتز الحائز نوبل في الاقتصاد، عن الكلفة المحتملة للحرب ضد إيران. كان الجواب “حتّى تخرج من هناك تحت جنح الظّلام، فإنّ المسألة تحتاج الى 10 تريليونات دولار”.
ثمّ أليس هو (ترامب) مَن وصَف السّعوديّة الّتي طَوْعَ أمْرِ أمريكا، وحلّت أمريكا عندها محلّ القضاء والقدر، (ومحلّ الحرمين). تخدمها كما يخدم العبدُ السّيّد. وأرادها هو  أن تخدم أمريكا، كما تخدم البهيمةُ الإنسان. فوصفها  بـ”البقرة الحلوب”. وقال نحلبها ثمّ نذبحها… فكيف إيران؟
ومن يأمن أن يغلب سندروم الدّمِ، سندروم المال، فيرجِّحَ رغبة نتنياهو في اغتنام الّتي يراها فرصة، فيذهب للحرب عساه يحسم معركة “إسرائيل” الوجوديّة لعقود أخرى قادمة، وهو الذي اقترحت ميريام أدلسون، أرملة الملياردير النيويوركي شلدون أدلسون، (إحدى أهمّ مصادر تمويل حملته الانتخابيّة)، إضافةَ فصل جديد الى التّوراة، يحمل اسم “سفر ترامب”؟
وهل يتقبّل العقلُ أنّ أمريكا الّتي أخرجها الإيرانيّون من إيران، بثورة هي الأعظم في التّاريخ الحديث بقيادة الإمام الخميني قبل نحو نصف  قرن، تدخل إيرانَ في عهد خلفه الخامنئي (بسلام آمنة)؟ من باب الاتّفاق في الملفّ النّووي ورفع العقوبات، (وكفى الله المؤمنين  القتال!)، بعد أن توعّد بإخراجها من غرب آسيا، عقب اغتيالها أيقونة الحرس الثّوري، قائد فيلق القدس الشّهيد الكبير قاسم سليماني… وإذا دخلتها، فهل يبقى أثر لتلك الثّورة؟

يقول الجنرال دوغلاس ماك آرثر رئيس أركان الجيش الأمريكي في مطلع الحرب العالميّة الثّانية، والذي قاد عمليّة الإنزال في النورماندي:
“يمكن تلخيصُ تاريخ الإخفاق في الحرب بكلمتَي «فوات الأوان».فوات الأوان على استيعاب الغاية المميتة لعدوّ قويّ، وفوات الأوان على التأكّد من الخطر المميت، وفوات الأوان على الاستعداد، وفوات الأوان على توحيد كافّة القوى الممكنة من أجل المقاومة، وفوات الأوان على الوقوف مع الصّديق”.
إيران… كم الثّورة الآن؟

____________________________
(1) فوكو صحافيا. أقوال وكتابات. ترجمة البكاي ولد عبد المالك. دار جداول للنشر.
(2) مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله الــسّياسيّة والعسكريّة. أسعد أبو خليل. ج الأخبار اللبنانية السبت 26 نيسان 2025
(3) الآية 108.سورة يوسف.
(4) ج. الأخبار اللبنانية الثلاثاء 25 آذار 2025بيان | «اللقاء الوطني الديمقراطي».
(5) محمد حسنين هيكل.المقالات اليابانية . دار الشروق.
(6) هل القتال بين غزة وإسرائيل “علم كاذب” لمسح غزة من الخريطة”؟ – ميشال شوسودوفسكي globalresearch.ca
(7) “الحرب ضدّ الصّين. التّفكّر في ما لا يتقبّله العقل” دراسة صدرت عن مؤسسة راند RAND البحثيّة الأمريكية. أضعها بين يدي القارئ على الرابط: https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&opi=89978449&url=https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/research_reports/RR1100/RR1140/RAND_RR1140z2.arabic.pdf&ved=2ahUKEwjfjLqXmMiNAxXrWUEAHfCUGkQQFnoECB4QAQ&usg=AOvVaw3ZH6TFSGCzfNYdrx1VryuGش