شوقية عروق منصور: في زمن غزة “الجوع عدو” واليد ترفع الأمل

شوقية عروق منصور
عندما كنا أطفالاً ونرجع من أزقة الحارة بعد اللعب إلى البيت ونجد أن ” الطبخة ” ما زالت على النار نبدأ بالصراخ والتأفف، فتنهرنا أمي بغضب، ولكن أبي يقول لها بصوته الأبوي ” الجوع كافر ” ..!!
لم أكن أعرف تفاصيل تلك العبارة ” الجوع كافر” القصيرة جداً الطويلة التي تطرد إنسانية الانسان وتضعه في قالب التوحش، لأن همس ” المعدة” حين تعلن جوعها سرعان ما يُلبى، فالطعام يكون جاهزاً ، متواجداً للغني والفقير مهما كانت مكوناته، ولكن حين يتم حصار المعدة نتيجة تطريز السياسيين لشراشف موائد الطعام، تصبح الأطعمة جزءاً من قهر الانسان وتركيعه وإيصال رأسه المرفوع إلى أقدام الحاكم .
قالها النبي صلى الله عليه وسلم ” اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيج “
وقد قالها أيضاً الإمام علي بن أبي طالب ” الجوع كافر لا يرحم أحداً ” .
وعلى مر تاريخ الحروب وحصار المدن والقرى كانت هناك صوراً لحصار التجويع ولكن كانت تمر كركض في مساحات تحاول تبرير هذا التجويع العقابي .
ولكن الحصار الغزي أو ” التجويع الغزي ” بوسعه الدخول إلى الموسوعات التاريخية مهما حاول المؤرخون فرش نفاقهم وإضاءة الصفحات بالتحليلات السياسية ودفن العناوين العسكرية في تربة المباهاة ، تبقى صورة ” المجاعة ” وركض الناس في الطرقات وحمل الطناجر والانتظار في طوابير الجوع ورؤية مدى تغلغل الجوع لدرجة رؤية وعد عظام أجسام الأطفال .
هذه التجمعات الإنسانية التي وقفت تنتظر المساعدات وتصاعد الصراخ والغبار ، هذه الوجوه التي كانت تركض حتى تحصل على القليل من الطعام ، هذه الأيدي التي تمتد بين الفراغ والفراغ وتسقط بحالة يائسة ، هذه الأقدام التي تزحف أو تركض وتلهث تضع رؤوس السياسيين في أكبر بئر للمجاري التاريخية .
” الجوع كافر ” نعم ومن يحاول الاستهزاء بهذه المقولة يعيش في معدة متخمة لم يذق طعم الجوع ، والأسوأ أن العالم أصبح يعزف على قيثارة الضجر من رؤية وجوه الأطفال وهرولة النسوة للحصول على أقل من القليل من الخبز .
كان الجوع من أسباب الثورات الإنسانية ، وقد تعلمنا في المدرسة أن الملكة ” ماري أنطوانيت” قطعوا رأسها على المقصلة لأنها استهزأت بجوع الفقراء عندما قالت ببراءة المعدة المتخمة للمعد الفارغة ” إذا لم يكن هناك الخبز فيأكلوا الكعك ” .
” الجوع كافر ” ومن هذا المنطلق يحاولون تغطية المقولة أيضاً بالذل والخضوع حيث تكون المساعدات على الطريقة الامريكية الإسرائيلية، حين يحاولون التمتع برؤية هذه الجموع الجائعة وهرولتها المثقلة بالخضوع للرغيف .
أتساءل ماذا سيكتبون في المستقبل عن هذا ” التجويع الغزي ” كيف ستبرر الشعوب – التي تدعي التحضر – هذا التجويع المحاط بالقسوة وحرائق ما تبقى من ضمير الانسان ؟؟ لن اقترب من الأنظمة العربية الحاكمة لأنها لا تملك مفاتيح دولها.
عندما قال الشاعر العراقي ” مظفر النواب ” في ديوانه ” وتريات ليلية”
” لا تلم الكافر في هذا الزمن الكافر
فالجوع أبو الكفار
مولاي !
أنا في صف الجوع الكافر
ما دام الصف الآخر يسجد من ثقل الأوزار .
لم أكن أعلم أنني سأستعين بما قاله الكاتب الفرنسي ” فيكتور هيجو ” عندما سألوه: ما الشيء الرخيص اليوم ؟ فقال : كل شيء غال ، ليس من شيء رخيص اليوم ، غير آلام الناس ، إن آلام الناس مجانية .
أتساءل هذه العيون التي تطل عبر نشرات الأخبار والتقارير الصحفية معانقة الجوع و تطوي الأيام على تثاؤب السياسيين وهم يبتلعون أقراص فتح الشهية ، ماذا ستحمل صناديق صدورها مستقبلاً ؟
اليد التي تلوح
في غزة كل الصور متاحة ، كل علامات التعجب والدهشة موجودة ، كل مخلفات الوجع الإنساني ، كل الأحزان ، كل الأرقام ، كل الأكفان ، كل الدموع ، كل الصراخ
كل الحرائق ، كل الخيام ، كل الأحلام ، كل الركض ، كل بقايا البيوت ، كل الجثث المتفحة ، كل الأمهات نسخة مكررة من الأم ” آلاء النجار ” ، كل سيارات الاسعاف المسرعة ، كل الطرق الترابية ، كل اختفاء الشوارع المزفتة ، كل القطط والكلاب السائبة ، كل البحر الهائج أو الصامت ، كل الملامح المتعبة ، كل تقاسيم الوجوه الوقورة التي لا تعترف بالفقر ، كل العباءات السوداء التي تخفي تحتها انوثة النساء الضائعة، كل الحمير والخيول والعربات المجرورة التي أصبحت تنافس أغلى السيارات العالمية ، كل المياه المفقودة ، وكل البراميل بجميع أشكالها والوانها وأحجمها تحولت إلى هدف رؤيتها ممتلئة …الخ
كل الصور متاحة إلا صورة واحدة خرجت من تحت الركام ، أراد الرجل أن يمسك باليد الطالعة من تحت الركام وهي تلوح ، أمسك بها لعله ينقذ الانسان المطمور بالتراب وإذ اليد تقفز لوحدها، لا وجه ، لا جسم .. اليد تلوح لوحدها .
انتظار الموت
لست ثملة بالفضول ، ولكن السؤال الذي يتردد ، كيف يقرأ أهالي غزة أصوات الصواريخ والقذائف وأصوات الطائرات المحلقة كل لحظة ؟
كيف ينتظرون القذائف وهم يقفون بين السماء والأرض ؟ بين جنون الكثبان الرملية وأبجدية الدمار الواسع محتضناً الصمت ؟
كيف يكون شكل الموت وهو يحمل أجنحة السقوط على خيمة أو جسد عابر ؟
كيف يكون انتظار الموت قبل أن يصل إلى الأرض ؟