الدكتور سيداتي أحمد الهيبة ماء العينين: تحليل نفسي لظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي

الدكتور سيداتي أحمد الهيبة ماءالعينين
تروم العديد من الابحاث والدراسات الجديدة، التي تقارب الإشكاليات الراهنة، والمتعلقة بمنظورات سيكولوجيا عالم التواصل الاجتماعي، وقابلياتها في فهم الديناميكيات النفسية والعصبية الاجتماعية المتسقة مع الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، الكشف عن مجمل التأثيرات وعلاقتها بوضعيات المستعملين المتنامية بشكل كبير على مستوى الاضطرابات والسلوكيات من مخاطر بروز هذا النوع من الطفرات التخصصية، في مجال حديث الولادة والظهور، المحاولات الاقتدارية لعلماء النفس، في البحث عن مظاهر وخلفيات الافتتان والتحجج بالخطابات المستنتجة من احتياجات التفاعل البشري مع المنصات الرقمية، في درجات تأسيسها البنيوي الداخلي ليوتوبيات (حالة مثالية) الانتماء والتواصل والتقدير وعلو الأنا المخاطبة، ما يكرس حدودا مطلقة تعكس تصادمات سلوكية باطنية، تتجذر في الوعي اللاإرادي، لتصبح أداة طيعة لإفرازات تؤدي إلى القلق والشك والإدمان والاكتئاب والترفع عن الواقع…
قد لا يستعصي على المهتمين بالأسئلة المطروحة، إيجاد روافد سوسيولوجية وثقافية محضة، لهذا النوع المثير من تأثيرات الرقمي على واقع الحال البشري. فالإدمان عليه، يوفر هامشا من التحول البين لاستهداف الهوية مباشرة دون عناء إذ إن مصاحبة آليات الجذب الثقافية والترويجية، واغمارها بمرموزات وعلامات استراتيجية، تخلق بالتتابع معرفة بحياة أخرى “مثالية وطوباوبة ربما”، تنأى بالذوات المبخرة في أعالي الفضاء الازرق، وتستثير قدراته النفسية والاجتماعية، للانخراط فيها دون وعي أو احتمال عواقب.
ويثير السوسيولوجي الإيرلندي سياران ماهون في مؤلفه “سيكولوجية وسائل التواصل الاجتماعي”، جزءا من العقيدة السيكولوجية لتبدلات الأفراد والجماعات ضمن سياقات توتر بين الحقيقي والافتراضي، مضمنا قيم العزلة والإلهاء وقتل الوقت، كعناصر مشتتة للوعي ومحاصرة لمقدرات الذات وقدرتها على الصمود .
ويبارز ماهون عيوب ونقائص الانقلاب على الطبيعة الإنسانية، الواعية بالزمان وموجوداته وأنماطه وتوتراته، مؤسسا جانبا من حدود ثاوية من خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، القائمة على تحفيز وتشجيع الممارسات الإدمانية من خلال تقديم محتوى يتوافق مع توقعات المستخدمين.
إن روابط تلك الممارسات المنفلتة تعمل على محاصرة المبحرين داخل فقاعات المعلومات، معرضة إياهم لمزيد من التشويش والإغراق الذهني، مصحوب بكم هائل من المعلومات المضللة.
وفي السياق، يمكن التدليل أيضا بإسهامات شبكات التواصل الاجتماعي في استقطاب ما يمكن توجيهه على اعتباره آراء ووجهات نظر حرة؛ بيد أنها تشكل فقاعات تشجع الانقسامات، وتؤدي إلى الرفض والخوف من الآخرين.
إن المواقف الدقيقة أو المعتدلة ليست شائعة. كما أن الاعتبارات القريبة من بناء التفكير واستقصاء التأملات، بكيفية التعامل مع الكائنات الافتراضية، يكاد يكون منعدما ورافضا لمبدئية التعميم القيمي وأخلاق القيمة.
ومن المخاطر الأخرى التي تفرضها وسائل التواصل الاجتماعي هو التماهي مع معايير لا يمكن بلوغها: يقول المحلل النفسي الفرنسي المتخصص في الإدمان والتكنولوجيا الرقمية إنه “في السنوات الخمس أو الست الماضية، كان الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاما هم الأكثر لجوءا إلى الجراحة التجميلية لكي يشبهوا مرشحات “إنستغرام” أو صورهم الرمزية الرقمية. فما هي المرايا التي تحملها هذه المنصات؟ ما هي الصورة الذاتية التي يعكسونها؟” يتساءل الباحث، مبديا غرابته المشروعة، تجاه بروز مظاهر اجتماعية أخطر في المجتمع، ترتقي لتكون الأكثر شذوذا في الدورة الزمنية السيكولوجية ويضيف متفاعلا ومنفعلا: “أنا مقتنع أيضًا بأننا يجب أن نعالج ذكاء المراهقين، بدلًا من محاولة السيطرة على عاداتهم. ومن خلال التساؤل معهم حول مثالية المجتمع، وعبادة الأداء، والاستهلاك، والأمر بالتقيد بالمعايير التي تنقلها الشبكات، فإننا نساعدهم على تطوير منظور نقدي. يتعين علينا أن نكون حذرين حتى لا نجعل الشاشات هي المتهم المثالي إذ يمكن للتكنولوجيا الرقمية أيضا أن تكون حليفا تعليميا وفكريا هائلا”.
يمكن كخلاصة القول ان “مفارقة التقدّم” وهي التقنية التي وعدتنا بالتقارب والتحرر أصبحت أداة للقلق والعزلة، وفرضت يوتوبيات رقمية تضعف واقعنا الإنساني. بل كيف حوّلت الخوارزميات الإنسان إلى مستهلك يسعى وراء إعجابات لحظية، وكيف يفقد الشباب رضاهم عن ذواتهم وهم يلاحقون مثاليات رقمية زائفة. ورغم ادعاء المنصات تعزيز الحريات فهي تخلق أقفاصًا فكرية وتزيد العزلة رغم التواصل.
إننا أمام تحدٍ مزدوج: كيف نوازن بين الاستفادة من التقنية وحماية إنسانيتنا من الاستلاب الرقمي؟ فالتقدّم الحقيقي لا يُقاس بعدد المتابعين أو سرعة الاتصال بل بقدرتنا على بناء علاقات أصيلة، وتطوير وعي نقدي يحصّن الأفراد من سطوة الخوارزميات. فالحل في نظرنا يكمن في إعادة تعريف علاقتنا بهذه الوسائل، واستخدامها كأدوات للتعلم والتلاقي الحقيقي، لا كبدائل عن الواقع.
التحدي ليس في رفض التقدّم، بل في إعادة تشكيله كتثقيف الذات رقمياً، وتعزيز الوعي النقدي، حتى يصبح التقدّم خادمًا للإنسان لا العكس. إنه بجب الدعوة لوعي جماعي وأخلاقيات رقمية جديدة،