أ. خالد الضيف شبلي: صراع الرموز: منظور جديد من داود إلى جدعون

أ. خالد الضيف شبلي
إن “عربات جدعون” ليست فقط جرافات ودبابات، بل رواية مغلّفة بالإيهام التاريخي، بينما “حجارة داود” ليست فقط سلاح الفقير، بل سردية أمة تقاوم كي تبقى. وبين هذين الرمزين، تمتد المعركة الأكثر خطورة: معركة على الذاكرة، والحق، وامتلاك المعنى.
فمن لم يكتب رمزه، كُتب عليه أن يُؤوَّل برمز عدوه. أ. خالد شبلي
تمهيد:
ليست الحرب مجرد هدير مدرعات ودويّ قذائف وتكتيكات ميدانية؛ إنها، في جانبها الأعمق، صراع بين تأويلات، ومعركة على الرموز، واشتباكٌ لا يقلّ ضراوةً يدور في ميدان اللغة والذاكرة والدلالة.
ولعلّ أكثر الحروب المعاصرة امتلاءً بهذه الأبعاد الرمزية، هي الحرب المفتوحة والمستمرة في فلسطين، حيث تتواجه القوّة المسلحة مع الحق التاريخي، وتتصادم التقنيات الحديثة مع الإرادة الشعبية، ويُعاد رسم المعاني في كل معركة على نحو لا يخلو من الدهاء والتأويل والأسطرة.
في هذا السياق، لا تبدو التسميات العسكرية مجرد تفصيل بلاغي أو إجراء تعبوي، بل أداة سياسية ودينية وثقافية؛ إنّ اختيار اسم العملية العسكرية، أو تسمية فعل المقاومة، يتحوّل إلى لحظة تأويل عميقة، يشتبك فيها الحاضر مع الماضي، ويُستدعى النص المقدّس لتبرير الدم المسفوك في زمن القصف الذكي !!.
ومن هذا الباب تحديدًا، تكتسب مفردتان (ظاهرُهما عسكري وباطنهما دلاليّ) مكانة مفصلية: “عربات جدعون” و”حجارة داود” ؛ إنهما اختزال لصراعٍ على الرواية، على الشرعية، على الحق في كتابة القصة.
أولًا: “عربات جدعون”: أسطرة القتل بقداسة زائفة
في عمليته الأخيرة ضد قطاع غزة، أطلق الجيش الصهيوني اسم “عربات جدعون” على حملته، مستدعيًا بذلك شخصية جدعون التوراتية، الواردة في سفر القضاة، بوصفه أحد قادة بني إسرائيل الذين خاضوا معارك فاصلة ضد من وُصفوا بأعداء الرب، منتصرًا بقلة من الرجال على كثرة مدجّجة.
من الناحية الرمزية، لا يُعد هذا الاختيار بريئًا أو اعتباطيًا، بل هو جزء من منظومة فكرية تسعى لخلق تماهي متخيل بين آلة الحرب الصهيونية وبين ما تعتبره “مشروعًا توراتيًا أصيلاً”، مكلّفًا بإتمام الإرادة الإلهية؛ هو تبرير ضمنيٌّ يقول: نحن لا نرتكب عدوانًا بل نُحيي تاريخًا مقدّسًا، ونجسّد إرادة الرب في أرضٍ وُعدنا بها.
لكن هذه القراءة الزائفة، تنهار أمام مشهد الواقع؛ فـ”جدعون” الذي خاض معركة الإيمان بجيشٍ صغير، يتحوّل اليوم إلى طائرات “إف-35” مسنودة بالأقمار الصناعية، تخترق البيوت وتقتل الأطفال في نومهم، وتُحاول إخضاع شعبًا محاصرًا منذ أكثر من عقدين إلى آلة قمع محكمة؛ الفارق شاسع بين رمزية القائد التوراتي المتقشّف، وبين القائد العسكري المعاصر الذي يختبئ وراء شاشات الرصد.
هكذا، يُستعمل الرمز لتبرير الفعل، ويُستدعى التاريخ لتجميل الجريمة؛ لكن هذا التجميل لا يُقنع سوى من يعتقد أن الدم الفلسطيني مجرد مشهد جانبي في سردية كتبها الغالبون.
ثانيًا: “حجارة داود”: حين يُقاوم البسيط الغطرسة
في وجه “عربات جدون”، لم تأتِ المقاومة بردّ تقني أو مصطلحي مماثل، بل اختارت اسمًا بسيطًا، لكنه مزلزل في رمزيته: “حجارة داود”؛ هنا تتكرّر الحكاية، لكن من ضفتها الأخرى؛ النبي داود، الفتى الصغير الذي خرج لمواجهة جالوت، لم يكن يملك جيشًا ولا عربة، بل حجرًا ومقلاعًا وإيمانًا صافياً بأن العدل لا يُقاس بعدد الجنود بل بنقاء القضية.
هذا التوظيف الرمزي يُعيد قلب المعادلة، فالمقاومة لا تدّعي أنها صاحبة تفوّق عسكري، لكنها تقول إن التفوّق الأخلاقي أقوى من كل ترسانة؛ إنها ليست معنية بانتصار ميداني عاجل، بقدر ما تؤمن أن رمزية المقاومة (حين تتجذّر في الوعي) هي الباقية.
“حجارة داود” هنا ليست مجرد حجارة مادية؛ إنها كل فعل صغير يربك منظومة كبرى، كل صمود يضع الحقيقة في وجه آلة التضليل، كل نفس مقاوم يبثّ الحياة في فكرة الحق؛ هي اختزال لمعادلة لم يعد كثيرون يؤمنون بها في زمن التفوّق الرقمي: أن الإنسان المؤمن بقضيته، ولو كان أعزل، يستطيع أن يصنع فرقًا.
ثالثًا: معركة السردية: من يملك الحق في رواية القصة؟
في الحروب الحديثة، لم يعد الميدان وحده هو الحاسم؛ بل إن السردية (أي القصة التي تُروى عن الحرب) أصبحت جزءًا من المعركة ذاتها؛ ومن يربح معركة الرواية، يربح جزءًا مهمًا من الشرعية الدولية، والتعاطف الجماهيري، وربما حتى دعم الحلفاء.
الاحتلال الصهيوني يدرك ذلك تمامًا؛ لذلك لا يُطلق أسماء عملياته عشوائيًا، بل يستند إلى سردية توراتية عميقة الجذور في المخيال الغربي، يُلبسها ثوب الدفاع عن النفس، ويُغلفها بقيم “الأمن” و”الحق التاريخي”؛ إنه يستحضر صورة “القلة الصالحة” المحاطة بالأعداء، ليُخفي حقيقة “الدولة المدججة” التي تمارس الحصار والتجويع والقتل في أبشع صوره.
في المقابل، تدرك المقاومة (رغم إمكانياتها المحدودة) أهمية الرمز والسرد؛ لذلك لا ترد على “عربة جدون” بـ”صاروخ سليمان” أو “سيف موسى”، بل تختار الحجر، أي الوسيلة الأكثر بدائية، لكنها الأكثر صدقًا في التعبير عن غياب العدالة وعمق الفجوة بين طرفي النزاع.
إنه اشتباكٌ على من يحقّ له أن يكتب القصة؛ من هو صاحب الرواية الشرعية؟ من يمثّل الخير ومن يُمثّل الطغيان؟ وهي أسئلة لا تُجيب عنها الدبابات، بل يجيب عنها التاريخ، والضمير، وذاكرة الشعوب.
رابعًا: الرمز كفعل مقاومة
في زمن العولمة، حيث تم اختزال الصراعات إلى عناوين إخبارية، تظلّ الرموز قادرة على خرق الوعي العام، وتثبيت المعاني في الذاكرة، ولهذا السبب، فإن “عربات جدون” لا تعني شيئًا عند القارئ الغربي العادي إلا إذا رافقها تبرير ديني، بينما “حجارة داود” تلامس وجدانًا عالميًا أوسع، لأنها تُحيل إلى حكاية يعرفها الجميع: مقاومة الظلم، ولو بالحجر.
الرمز ليس ترفًا لغويًا، بل جزء من المعركة؛ حين تختار المقاومة اسمًا، فإنها تحدد موقعها الأخلاقي والتاريخي؛ وحين يختار الاحتلال اسمًا، فإنه يكشف عن هشاشة مبرراته، وعن حاجته الدائمة لاختراع غطاء معنوي لممارسات فقدت كل معنى.
وإذا كان الحجر قد هزم العربة في الأسطورة، فإن الرمز قد يهزم السردية أيضًا، خصوصًا إذا كان مشحونًا بالحق، ومؤسسًا في التجربة الحيّة للناس.
خامسًا: الصورة الباقية: حجر في وجه المدرعة
لا شيء يلخّص هذا الاشتباك الرمزي أكثر من الصورة المتكررة في الذاكرة الفلسطينية: طفل يواجه جنديًا مدجّجًا، بحجر صغير ويد مرتجفة؛ إنها ليست مجرد لحظة توثيقية، بل لحظة رمزية تختزل كل شيء؛ إنك لا تحتاج إلى شرح طويل لتفهم ما تعنيه؛ إنك ترى في تلك الصورة تلخيصًا لصراع الوجود، لصراع الذاكرة، لصراع الإنسان حين يُجرَّد من كل شيء، ولا يبقى له إلا إيمانه وكرامته.
وقد تكون هذه الصورة، رغم بساطتها، أقوى من آلاف الصفحات العسكرية والإستراتيجية، لأنها ببساطة، تُجيب عن السؤال الأهم: من الضحية؟ ومن الجلاد؟ ومن الطرف الذي يحتاج إلى اختراع أسطورة ليبرر فعله، ومن الطرف الذي يملك الحكاية الأصلية؟
سادسًا : حين يتحوّل المعنى إلى سلاح
من عمق الأحداث والمآسي والنكبات، نحن إزاء مشهد لا يمكن فهمه فقط عبر عدد الضحايا أو الخرائط العسكرية، إن ما يجري هو صراع على تفسير العالم، على من يُعرِّف العدالة، وعلى من يُسمع صوته في قاعة التاريخ.
“عربات جدون” و”حجارة داود” ليستا فقط اسميْن لعمليات متقابلة، بل رؤيتان للعالم؛ واحدة تستحضر العنف من الماضي لتبرير الحاضر، وأخرى تستحضر الإيمان لمقاومة الحاضر وبناء المستقبل.
وفي زمن يميل فيه الميزان المادي لصالح الأقوياء، يبقى للمعنى سلطة لا تُقهر؛ المعنى حين يُبنى على الحق، يتحوّل إلى مقاومة، إلى حجر يُربك العربة، إلى كلمة تُخيف مدفعًا، إلى طفلٍ يواجه تاريخًا مزيفًا بكل ما بقي له: اسمه، ودمه، وحكايته.
خاتمة وتوصيات:
إن معركة الرموز في سياق الصراع الفلسطيني الصهيوني تكشف لنا أن الحرب لم تعد تدار فقط بالسلاح، بل تُخاض أيضًا في حقل المعنى، وتُصاغ في سطور الرواية قبل أن تُطلق في فوهات البنادق؛ فالتسمية لم تعد تفصيلاً لغويًا، بل أداة حربية تُعبّئ، وتُوجه، وتُقنّع الفعل بالقيمة.
في ظل هذا، تبرز الحاجة الملحة إلى مساءلة السردية لا فقط من خلال المواجهة العسكرية، بل عبر أدوات الثقافة والإعلام والوعي؛ وهنا تبرز مجموعة من التوصيات التي يمكن أن تُسهم في موازنة ميزان المعنى، وتعزيز قدرة الشعوب على إنتاج رموزها ومقاومتها الرمزية:
تعزيز الوعي بالسرديات الرمزية:
ضرورة تطوير خطابات ثقافية وإعلامية عربية تُفكّك الرموز الصهيونية، وتُعرّي استخدامها للتاريخ والدين بوصفه غطاء أيديولوجيًا للعدوان.
الاهتمام بالمضامين الرمزية في التغطية الإعلامية، وعدم الاكتفاء بالأرقام والضحايا.
دعم الإنتاج الثقافي المقاوم:
تشجيع الرواية، والمسرح، والسينما، والشعر، والفنون البصرية التي تُعيد صياغة الرموز من منظور المقهور لا الغازي.
الاستثمار في منصات ثقافية رقمية تقدّم رواية مقاومة بلغة حديثة وجذابة عالميًا.
تبني “لغة الحق” في مقابل “بلاغة القوة”:
تكريس خطاب يركّز على الشرعية الأخلاقية والإنسانية لمطالب الشعوب المستضعفة، بدل الوقوع في فخ التبرير والدفاع الدائم.
استخدام رموز موحية (كداود، والحجر، والصمود) بما تحمله من بعد روحي وتاريخي جامع.
إعادة الاعتبار للثقافة كجبهة نضال:
النظر إلى المثقف ليس كراوٍ متأخر عن الميدان، بل كفاعل مباشر في توجيه الوعي، وتثبيت الرواية، وفضح التزييف.
دعوة الكتّاب والفنانين والناشرين العرب إلى الانخراط الواعي في هذه المعركة الرمزية طويلة الأمد.
تدويل المعركة الرمزية:
نقل رمزية “الحجر في وجه العربة” إلى السياق العالمي، وربطها بالعدالة الكونية، ومقارنتها بمقاومات الشعوب الأخرى عبر التاريخ.
تطوير حملات ثقافية وإعلامية متعددة اللغات تُبرز المعاني الرمزية للصراع وتُفكك خطاب الاحتلال في العالم.
ولنؤكد مجددًا، إن “عربات جدعون” ليست فقط جرافات ودبابات، بل رواية مغلّفة بالإيهام التاريخي، بينما “حجارة داود” ليست فقط سلاح الفقير، بل سردية أمة تقاوم كي تبقى؛ وبين هذين الرمزين، تمتد المعركة الأكثر خطورة: معركة على الذاكرة، والحق، وامتلاك المعنى.
فمن لم يكتب رمزه، كُتب عليه أن يُؤوَّل برمز عدوه.
الجزائر العاصمة
باحث في القانون العام والنظم السياسية المقارنة – جامعة عنابة
عضو مخبر القانون والعمران والبيئة
الايميل: [email protected]