د. جمال الهاشمي: العلاقة بين تحول المعرفة وانهيار التنمية في المؤسسات الأكاديمية

د. جمال الهاشمي
ليس من نافلة القول أن نبدأ بسؤال يبدو بسيطا في مظهره شديد التعقيد في جوهره: هل لا تزال المؤسسة الأكاديمية في العالم العربي أو ما يعرف ببلاد ما بعد الكولونيالية تقوم بوظيفتها الطبيعية في إنتاج المعرفة وتوجيه المجتمع نحو آفاق التقدم والتحرر؟ أم أنها انزلقت إلى وظيفة تجميل النظام القائم وتبرير ركوده حتى أصبحت جزءا من الأزمة إن لم تكن هي قلبها النابض بالصمت والموالاة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال يتطلب الخروج من أوهام التعريفات التقنية للجامعة والعلم والدخول في الحيز الرمزي الذي تنتج فيه المعرفة وتستهلك؛ حيث تتداخل السياسة بالثقافة وتتحول الشهادة إلى سلعة والمكان الأكاديمي إلى فضاء لتدوير النخب لا لتفكيك البنى المعرفية المنتِجة للتخلف.
كما أشار العروي في تحليله لوظيفة المثقف داخل الدولة الحديثة فإن المؤسسة التعليمية في السياق العربي لم تخرج فعليا من عباءة المخزن القديم، حتى حين ارتدت لباس الحداثة الشكلية؛ إنها مؤسسة وإنْ ادعت الحياد تعيد إنتاج التصورات السلطوية للعالم وتمنحها مسوغات عقلانية ومنهجي، بذلك تصبح الجامعة جهازا أيديولوجيا كما أشار ألتوسير؛ لكنها جهاز أيديولوجي ممزق بين محاكاة الغرب وخدمة البيروقراطية المحلية.
والمثير أن الأستاذ الجامعي وهو الوريث الحديث للشيخ التقليدي صار في كثير من الأحيان حارسا للنصوص الميتة لا ناقدا لها وأن الباحث لا يبحث إلا عن الترقية لا عن الحقيقة وفي هذا السياق لا تصبح الشهادة ليست خاتمة لمسار علمي مفعم بالقيم والحيادية والموضوعية والمعرفة الكاملة، بل بوابة للتماهي مع السلطة وتنظيف فتاتها بأمعاء المعرفة الأكاديمية كما أن المكان الأكاديمي ليس فضاء للحوار، بل سوقا لعرض الولاءات تحت مظلة الشهادة الأكاديمية “شهاد الزور المقننة.
لعل عبارة شهادة الزور تبدو قاسية ولكنها ضرورية لاستفزاز الوعي وإعادة نقد حاملها لنفسه، هل بالفعل أكاديمي يعول عليه في اشعال وقود التنمية وتنمية الوعي الاجتماعي أم أنه علج على موائد اللئام.
إن الزيف في المعرفة ليس جريمة تقنية،بل خيانة للزمن والإنسان؛ حين تمنح درجات علمية دون استحقاق، أو تمرر أبحاث لا تفي بأدنى شروط النزاهة، فإن المؤسسة لا تخطئ فحسب بل تدرب أجيالا على تبرير الكذب تحت ستار الموضوعية وعلى الرذيلة تحت مظلة الأخلاق ولا غروا إذا قلنا أن فساد المنابر جاءوا من منتجات الجامعات المعاصرة.
إن الحياد الزائف للمعرفة حينما تنفصل عن القيمة تتحول إلى أداة تكنولوجية، و الأخطر من ذلك أن تسخر هذه المعرفة المزيفة لخدمة الفساد وتبرر السياسات الفاشلة بأبحاث مطبوخة أو تشرعن القمع الاجتماعي بنظريات اجتماعية مستوردة دون نقد.
وشهادة الزور الأكاديمية لا تقتصر على الأفراد بل هي نمط مؤسسي يبدأ من شكل الامتحان إلى منهج البحث إلى لجان الترقيات إلى علاقات التبعية مع الجامعات الغربية حيث يستورد النموذج دون مساءلة، وتترجم الأفكار دون وعي تاريخي بسياقها الأصلي وتنقل قيم النموذج لا أصول المعرفة المادية التي نفتقر إليها.
في زمن الحداثة المتأخرة لم تعد التنمية مسألة أرقام ونسب نمو بل صارت مقياسا لتماسك المجتمع مع ذاته واستعداده لتوليد المعنى والكرامة، وإذا كانت الجامعة قد فشلت في تربية القيم الاجتماعية فمن الطبيعي أن تفشل الدولة في تحقيق التنمية.
لقد استبدلت مفاهيم النهوض بمفردات من قبيل الريادة والابتكار والتحول الرقمي دون أن تراجع البنى المعرفية التي تصوغ هذه المفاهيم؛ فالتنمية لا تنشأ من مختبرات الذكاء الاصطناعي بقدر ما تحتاج إلى مختبرات نقد الذات، والسؤال الجوهري هنا: من يربي الجيل الجديد على طرح الأسئلة لا حفظ الإجابات؟ من يعد المواطن للحرية قبل أن يعده لسوق العمل؟
انحطاط التنمية، في جوهره، ليس عجزا في الموارد بل ضمورا في الخيال العام، والمؤسسة الأكاديمية، حين لا تحفز هذا الخيال تقتل قدرة المجتمع على تخيل مصير مختلف.
الجامعة ليست مكانا لتكديس المعلومات ونقل النماذج وقوالبها الجاهزة وإنما هي فضاء لتكوين الذات الحرة، وهذا التكوين لا يتم إلا في سياق نقدي تاريخي خصوصي إنساني معرفي عالمي مقارب ومقارن ، حيث يسمح بالفكر المختلف وتحتضن الأسئلة المحفزة لعجلة التفكير والنقد.
لا يكفي أن تعلن المؤسسة الأكاديمية استقلالها الإداري بل يجب أن تعيد النظر في سؤالها الجوهري: لماذا نعلم؟ ولمن نكتب؟ وبأي لغة نفكر؟
إن نقد الذات الأكاديمية لا يعني جلدها بل تحريرها؛ فالمؤسسات لا تصلَح بالتقارير بل بالوعي التاريخي وتحدد مكانها ووظيفتها، ولا تتحرر الجامعات إلا حين يتحرر أساتذتها من خوفهم ويتحول طلابها من متلقين واتباع عبيد في دائرة الاستبداد الأكاديمي واستبداد الإدارة الجامعية إلى صانعي خطاب.
في مشروع الجابري كانت العقلانية النقدية هي المفتاح لكسر البنية التراثية المغلقة ويمكن أن نستعير هذا المفهوم لتفكيك الجامعات اليوم؛ فليست هناك تنمية من دون عقل نقدي ولا عقل نقدي دون حرية أكاديمية.
ومع كل هذا لا ينبغي أن نسقط على الواقع حجابا كاملا من السواد؛ فثمة أساتذة شرفاء طلاب يقاومون العبث وبذور بحث علمي جاد تتفتح هنا وهناك رغم شحة الموارد وقسوة الواقع.
إن الغفران هنا ليس تبرئة بل محاولة لفهم المسارات التاريخية التي أنتجت هذا الوضع علنا نخرج من ثنائية التمجيد أو التحقير.
إن الفساد لا يولد فجأة بل يتسلل حين يهمل الناس الفكرة الكبرى للمعرفة؛ تحرير الإنسان، والمؤسسة الأكاديمية لا تموت حين تضعف ميزانيتها بل حين تفقد هذه الفكرة وتستبدلها برغبة جامحة في البقاء ضمن نظام لا يفكر وسيولة نقدية لا تنقطع.
قد يبدو العنوان صادما كالعادة، لكن التاريخ يخبرنا أن المجتمعات لا تنهار عندما تخسر الحرب أو السوق بل حين تخون عقولها أو تهجرها أو تتاجر بها في أنماط من الصراع العبثي الهادم لا النقد البناء الرادم، ومن ثم فإن المعركة الحقيقية ليست على المناهج أو الاعتمادات بل على جوهر السؤال الأكاديمي: هل نبحث لنفهم العالم ونغيره؟ أم لنخدم نظاما يطحن الإنسان ويجمله بالإحصاءات؟
في النهاية، إما أن تكون المؤسسة الأكاديمية محركا للنهضة أو شاهد زور على انحدار الأمة لا خيار ثالث بينهما.
وأخيرا يجب أن نبدأ بتفكيك العطب وبناء البديل من خلال:
إعادة تعريف “الجامعة” خارج القوالب الكولونيالية بقيم الخصوصية والواقعية والحاجة المجتمعية.
إعادة تأطير الجامعة كأداة لتحرير الوعي الجمعي لا مجرد أداة لإنتاج اليد العاملة.
تفكيك نظام الترقية من الداخل؛ الترقيات الأكاديمية القائمة على الكم والولاء والتي تفرغ البحث من معناه. المطلوب وقيمته في التنمية والتغير والنهوض.
استبدال مبدأ عدد الأبحاث بمبدأ أثر الأبحاث.
تفعيل لجان قراءة مستقلة، مفتوحة غير بيروقراطية تقيم الجودة لا الشكل.
إخراج تقييم الأستاذ من أسر العلاقات الشخصية والمحاباة السياسية والحزبية والطائفية.
تعميم ميثاق النزاهة الأكاديمية كشرط بقاء
إنشاء هيئات مستقلة لمراجعة الأطروحات والبحوث بشكل عشوائي وتلقائي.
محاربة السرقة العلمية بآليات تحقق لا تعتمد فقط على البرامج التقنية بل على مساءلة فكرية للمضمون والمصادر.
كسر المقدس الصامت في العلاقات الأكاديمية
إعادة تفعيل المناظرة كنمط منهجي لتكوين الطالب.
تفكيك مفهوم الأستاذ الأبوي مقابل نموذج الأستاذ الشريك في المعرفة.
تحرير البحث العلمي من السوق والدولة باستقلالية معرفية حقيقية.
دعم تمويل البحوث التي لا تخدم السوق بالضرورة.
تشجيع الدراسات النقدية، الأنثروبولوجية، الفلسفية التي تسائل الواقع لا تبرره.
ترسيخ الازدواجية النقدية في البرامج التعليمية إذ المطلوب ليس فقط تعليم النظريات بل التعلم في كيفية تفكيكها.
تدريس كل نظرية داخل سياقها التاريخي.
إدخال مقررات إلزامية في تاريخ العلوم ونقد المعرفة لكل التخصصات بما فيها التطبيقية.
خلق فضاءات حوارية داخل المؤسسة وتشجيع النوادي الفكرية و الحوارات المفتوحة.
اعتبار الجامعة حاضنة نقاش لا مجرد مرفق إداري.
مساءلة اللغة الأكاديمية والتحرر من طقسية اللغة الأكاديمية المعاصرة الخطابية التي تفتقر للفكر والمصطلح والمحتوى والمضمون.
التوصية بتبسيط الكتابة دون تبسيط الفكر.
تعزيز الكتابة بالعربية النقدية لا العربية التقريرية وتجديد المعجم الفكري.
وفي الختام إن الجامعة تنتج الحرية لا الشهادة وإن الخروج من زمنشهادة الزور الأكاديميةلا يتم بمراسيم وزارية أو قوانين فوقية بل بإحداث رجة داخل الحقل الأكاديمي نفسه بحيث يستعيد الأستاذ موقعه كصاحب مشروع فكري لا موظف ترقية ومحاضر الصبيان، وعلى الطالب أن يستعيد هويته كفاعل حضاري لا طالب وظيفة ولا خلاص للمعرفة إلا حين يعاد ربطها بالأخلاق وبالحق وبالجرأة على تفكيك السائد.