محمد تورشين: نغوغي واثيونغو: عندما تتحول الكلمة إلى وطن وتصبح اللغة رمزًا للمقاومة.

محمد تورشين: نغوغي واثيونغو: عندما تتحول الكلمة إلى وطن وتصبح اللغة رمزًا للمقاومة.

محمد تورشين

في الخامس من يناير عام 1938، وُلد في قرية كاميرييثو الكينية طفلٌ سيسجّل التاريخ اسمه بحروف من مقاومة وأمل. اسمه نغوغي وا ثيونغو. ومنذ أن شبّ، حمل قلمه كما يحمل الثائر بندقيته، لا ليصيب به أجساد خصومه، بل ليهزّ ضمائر العالم، وليصوغ سردية أفريقية جديدة، متحرّرة من أغلال الاستعمار، ومحروسة بوهج اللغة الأم وروح الجماعة.

رحل نغوغي عن عالمنا في الولايات المتحدة، عن عمر ناهز 87 عامًا، حيث كان يخضع لعلاج غسيل الكلى. رحل الجسد، وبقيت الكلمة، حيةً كما أرادها دومًا، تشعل فينا جذوة الحرية وتذكّرنا بأن التحرر ليس حدثًا، بل مسارٌ طويل ومضنٍ من الكتابة، والمساءلة، والصدق مع الذات.

نغوغي لم يكن مجرد كاتب، بل كان أيقونة نضال ثقافي، رجلًا اختار أن يكون شاهدًا على زمنه، وفاعلًا فيه. في روايته الأولى “لا تبكِ يا ولدي” (1964)، نرى بوضوح صوت الابن الحائر بين حب الأم والأرض، والخوف من سطوة المستعمر. أما في “النهر الفاصل” و”حفنة من القمح”، فقد رسم ببراعة ملامح الإنسان الكيني المشظى بين ماضٍ منهوب وحاضر مشوّه. لكن التحول الحقيقي في مسيرته لم يكن أدبيًا فقط، بل وجوديًا وثقافيًا. ففي عام 1977، اعتُقل نغوغي بعد مشاركته في مسرحية سياسية بلغة الكيكويو، تتناول معاناة الفلاحين ومشاكل الفساد والقمع. في السجن، أدرك أن الكتابة بالإنجليزية لم تعد تكفي، فكتب روايته الأولى بلغة الكيكويو على ورق التواليت، بعنوان “الشيطان على الصليب”. لقد فهم أن التحرر لا يمكن أن يكتمل ما لم يتحرر الإنسان من استعمار اللغة ذاته، فاللغة ليست مجرد وسيلة تعبير، بل هي موقع للذاكرة، وحيز للكرامة، وسلاح للمقاومة.

لطالما آمن نغوغي بأن العودة إلى اللغات الأفريقية الأصلية ليست ترفًا، بل واجب تاريخي. لقد كان يرى في ذلك شرطًا أساسيًا للتحرر الحقيقي من الاستعمار، لأن بقاء الشعوب مرهون بقدرتها على التفكير بلغتها، والحلم بلغتها، وكتابة مستقبلها بلغتها. وأعترف، بألم لا أخفيه، أنني أشعر بغصّة في القلب لأنني لا أجيد لغتي الأم، الفلفدي، تلك اللغة التي كانت تُهمس بها الحكايات في ليالي الرعي، وتصدح بها الأغنيات أثناء التجوال في أدغال أفريقيا الواسعة. لقد افترقنا عن لغاتنا في مسارب التعليم المعلّب بلغة المستعمر، وصرنا نعرف العالم بأصوات ليست أصواتنا. لكني أستلهم من نغوغي عزيمتي، وأسعى جاهدًا إلى تعلم لغتي، لأُعيد الاتصال بجذوري، وأمنح الأجيال القادمة حقهم في أن يروا العالم بلغتهم، لا بلغة الآخرين.

ترك نغوغي وراءه تراثًا غنيًا، ليس فقط في الرواية والمسرح والمقالة، بل في أخلاقيات المثقف. لم يكن يومًا تابعًا للسلطة، ولا منغلقًا على النخبة. ظل طوال حياته منحازًا إلى الفقراء، إلى الفلاحين، إلى النساء العاملات في الحقول، إلى من لا صوت لهم. كان يرى في الأدب رسالة، وفي الكتابة موقفًا لا حياد فيه. لم تمنعه المنافي من أن يبقى أفريقيًا حتى النخاع، ولم تبهته الأضواء الغربية رغم ترشيحه المتكرر لجائزة نوبل. ظل صوته مسكونًا بوجع القارة وذاكرة الدم والهوية، وظل قلمه يصرخ ضد الظلم، والفساد، واستعمار الوعي.

برحيل نغوغي، تفقد أفريقيا أحد أعظم أبنائها، ويفقد الأدب العالمي ضميرًا حيًا ظل يذكّرنا بأن الحرية ليست رفاهية، بل حق يولد مع الإنسان. لكننا لا نرثي اليوم رجلًا فقط، بل نرثي زمنًا كانت الكلمة فيه قادرة على إحداث التغيير، وكانت الرواية جبهة، وكانت اللغة خندقًا. نم قرير العين يا نغوغي، فقد علمتنا أن الكلمة يمكن أن تكون وطنًا، وأن اللغة ليست فقط ما نكتب بها، بل ما نعيش بها ونموت من أجلها .

باحث وكاتب في الشؤون الأفريقية