الناقد المصري د. أحمد درويش بعد ستين عامًا من النقد والترجمة: نحتاج إلى إصلاح جذري في تعليم اللغة العربية وتطوير مناهج تناسب العصر. دراسة “ميكيل” كشفت عن قيمة “نجيب محفوظ” وساهمت في تمهيد الطريق لنيل جائزة نوبل.

الناقد المصري د. أحمد درويش بعد ستين عامًا من النقد والترجمة: نحتاج إلى إصلاح جذري في تعليم اللغة العربية وتطوير مناهج تناسب العصر. دراسة “ميكيل” كشفت عن قيمة “نجيب محفوظ” وساهمت في تمهيد الطريق لنيل جائزة نوبل.

 

القاهرة – “رأي اليوم”- محمود القيعي
قضى مايقرب من ستين عاما في الدراسة والتدريس والتأليف والإشراف على الدارسين والترجمة والتحقيق في مجالات الأدب و نقده والبلاغةالعربية والأوروبية وصلات الأدب العربي بالآداب العالمية قديما وحديثا.
تجاوزت مؤلفاته وترجماته الأربعين كتابا، ومن ينسى: ” النص والتلقي.. حوار مع نقد الحداثة” “بناء لغة الشعر واللغة العليا ” “الكلمة والمجهر” “الأدب المقارن.. النظرية والتطبيق” “متعة تذوق الشعر”؟
فضلا عن عشرات المقالات المتخصصة أو الموجهة للمثقف العام.
للدكتور درويش إسهامه اللافت في الإعلام الثقافي العربي المسموع والمرئي بمئات الحلقات واللقاءات ، فضلا عن موقع” الظمأ للمعرفة” المجاني الذي يحتوي على كل مؤلفاته.
شارك في عشرات المؤتمرات العلمية المحلية والإقليمية والدولية، وشغل مواقع رئيسية في خدمة الأدب و التقافةالعامة في المجلس الأعلى للثقافة والمجلس القومي للترجمة والمجلس الأعلى للجامعات كما شغل مراكز قيادية في الجامعات المصرية والعربية، ومنها تجربته المديدة في عُمان التي باتت عصيّة على النسيان.
تخرجت على يديه وعلى مؤلفاته أجيال من الدارسين والنقاد والمفكرين في مصر والعالم العربي.
درويش كان أحد الألحان المصرية الثلاثة(هو والراحلان د. حامد طاهر ود.محمد حماسة عبد اللطيف ) التي اقترح صلاح عبد الصبور أن يصدر لهم ديوانا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان” ثلاثة ألحان مصرية “.
لا يمل من تأكيد أننا بحاجة ماسة لثورة شاملة في تعليم العربية ووضع مناهج لها تناسب العصر، وخاض في سبيل ذلك -ولا يزال- معارك كبرى .
في هذا الحوار نبحر مع د.درويش في الإبداع والنقد والترجمة، وهو إبحار لن يخلو من متعة مؤكدة، وفائدة محققة.
*دعنا نبدأ مع الإبداع..
حدّثنا عن تجربتك الإبداعية كيف بدأت؟ أي المؤثرات كانت الأبرز في تأجيج القريحة؟
عن أى شيء عبرت قصائدك الأولى؟
تجربة الإبداع عندي كانت سابقة على تجربة النقد، حيث ولدت في فترة مبكرة، مع الصبا وحتى الدراسة الثانوية، وجدت أدوات الشعر كما كنت أتصورها: سلامة النطق، سلامة الإيقاع، اكتشاف الإيقاع الخارج، وإصدار الإيقاع المنتظم، فضلا عن الروح المجنحة التي دفعتني لقراءات كثيرة في الشعر، كل هذا ظهر في مرحلة الدراسة الثانوية، وكنا آنذاك في مرحلة الدراسة بالأزهر، حيث الانكفاء على الآداب والعلوم بغزارة .
كل هذا جعلني أصدر شعرا يفيض عني،وكنت أراقب سلامته وهو يتشكل.
كل هذا تزامن مع فترة الريف والصبا والحب الأول، والفترة القومية.. فترة الستينيات التي امتد فيها المد القومي إلى أبعد مدى، وأشكال الصدام مع الإسرائيليين في حربي 56 و 67 .
كل هذا ولّد جوا ملائما وفرض نفسه على الإبداع الشعري.
عندما دخلنا الجامعة في أواسط الستينيات، كانت تعقد مسابقات شعرية في المجلس الأعلى للفنون والآداب، ، فضلا عن اهتمام الجامعات بالمواهب الشعرية، وكنا نتقدم بقصائدنا التي حصدت المراكز الأولى، فشجعتنا على الانتظام والمزيد.
أذكر أننا كنا ثلاثة نلتف حول الجوائز : كان معي الراحلان: حامد طاهر ومحمد حماسة عبد اللطيف.
وكان يوسف السباعي- الذي كان وزيرا للثقافة آنذاك – يعجب من ترددنا نحن الثلاثة على منصات الجوائز المختلفة.
وكنا نحضر ندوات الشعر التي كانت تعقد في دار العلوم، وكان يحضرها كبار الشعراء آنذاك، وعلى رأسهم محمود حسن إسماعيل، على الجندي، محمد الفيتوري، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي.
وأذكر أن صلاح عبد الصبور وكان مسؤولا عن هيئة الكتاب اقترح أن نصدر ديوانا مشتركا في الهيئة، وكان عنوانه ” ثلاثة ألحان مصرية” كتب مقدمته أستاذنا الدكتور أحمد هيكل وكان عميدا لدار العلوم ثم وزيرا للثقافة.
واستمر عطاؤنا الجماعي، وأصدرنا بعدها ديوان” نافذة في جدار الصمت” وكتب مقدمته أستاذنا الدكتور محمود الربيعي.
بعدها تفرقت بنا السبل في الإصدارات، وكان لكل منا دواوين مستقلة.
وأذكر أنني جمعت حصادي الشعري المبكر في ديوان سميته” أفئدة الطير “.

*هل ظلم درويش الناقد درويش الشاعر؟
أظن ذلك، حيث شغلتني الدراسة الأكاديمية في قسم النقد والبلاغة، واستيقظ الحس النقدي، وربما كان هذا سببا من أسباب انحسار الشعر، الذي ظل يحاصرني وأحاصره، وظل عونا لي في قراءة الأعمال الإبداعية وممارسة النقد.

*وماذا عن مسيرتك النقدية.. الثابت والمتحول؟
بدأت المسيرة النقدية في وسط هذا المناخ، وتم تعييني في الجامعة عام 1967 معيدا بقسم النقد الأدبي والبلاغة والأدب المقارن، وفرض عليّ هذا القسم أنماطا من الاهتمامات الخاصة، فانكفأت على النقد الأدبي والبلاغة، وأصدرت دراسات بعد تخرجي عن الأسلوب بين الدراسات القديمة والحديثة، وكان ذلك في وقت مبكر جدا عام 72، وكانت إحدى الدراسات المبكرة جدا التي سعت لتحليل الأسلوب ودراسة أنماطه.
كنت حريصا على الإفهام، والابتعاد عن جوانب الغموض، والقضايا المبهمة.
كنت أنطلق من النص وأعود إليه، وألتزم بقواعد النقد التي كانت ويقترح أن تكون.
وظلت هذه طبيعة فيّ حتى الآن.. أدرس الأشياء دراسة واضحة بقدر ما يمكن أن يكون الوضوح الفني، وأبتعد عن التهويمات التي تحيط بالحديث عن النقد.
أحرص ولا أزال على نقل الإحساس النقدي إلى المتلقي دون إغراقه في تهويمات تصرفه عن النص .
لاحظت من خلال قراءاتي المتعددة أن فكرة الوضوح والحرص على إيصال الإحساس النقدي للمتلقي تغيب عن الكثير من نقاد هذا الزمان الذين يحرصون على سرد الأسماء الأجنبية التي تحدثت في الموضوع، وسرد المصطلحات.
لا أخفيك أنني أحيانا أجد نفسي عاجزا عن فهم بعض النصوص النقدية بعد قراءتها مرة أو مرتين ، وفي هذه الحالة أتوقف عن اتهام نفسي بعدم الفهم، وأتهم الآخرين الذين لا يصلون لطريقة لتوضيح أفكارهم،
فالفكرة الأكثر وضوحا هي الأكثر عمقا والأكثر سلامة.
وذلك يجعلني أقول إن كثيرا من الدراسات النقدية تبتعد فيها الدراسة النظرية عن النصوص، والرأي عندي أن الدرس النقدي يرتبط بالنص، وارتباط النص بالنقد أشبه بالدائرة الكهربائية، فإذا انعزل طرف من أطراف الدائرة الكهربائية، فلا إضاءة، ويظل الغموض والترديد لمقولات عامة.
الرأي عندي أننا بحاجة إلى دراسات تطبيقية أكثر من حاجتنا للدراسات النظرية التي كثيرا ما يثبت أنها منقولة عن الآخرين، وإضافتنا لها متواضعة جدا.
وأنا أردد دائما مقولة أحن إليها دائما، وهي:أن النص أمام الناقد مثل المريض أمام الطبيب، فليس مطلوبا من الطبيب أن يشرح تاريخ المرض على رأس المريض، وليس مطلوبا أن يشرح نظريات علاجه، بل مطلوب منه أن يمتص هذه الأشياء في نفسه دون أن يرددها، ويشير مباشرة إلى طريق العلاج .
الرهان يبقى دائما على البصمة النقدية الخاصة للناقد وللنص .
*كيف ترى المشهد النقدي الآن؟ ما الذي ينقصه ليكون أكثر حضورا وأشد تأثيرا؟
نحن بحاجة إلى استعادة التوازن الذي كان موجودا في القرن الماضي، وأن يضع النقاد في اعتبارهم المتلقي، لأننا في كثير من المعالجات النقدية لا نرى المتلقي، بل نرى الناقد يتحدث إلى نفسه حول المنابع التي استقى منها نظرياته، ويغفل المتلقي الذي كان عنصرا أساسيا في عملية الإبداع النقدي عند الجيل الماضي.. جيل الرواد .. العقاد وطه حسين ورواد الثقافة العربية الممتزجة بالثقافة الغربية، الذي حقق كثيرا من التقدم بسبب مخاطبته المتلقي، ونجد ذلك عند جيل شكري عياد ومصطفى ناصف ولويس عوض والجيل التالي مثل د.الربيعي.
هؤلاء تعاملوا مع نص معين بافتراض متلق معين، وهي الفكرة التي تختفي من المشهد النقدي الحالي.
إنني عندما أستمع مثلا إلى برنامج عمار الشريعي ” غواص في بحر النغم ” ، أجد فيه نموذجا طيبا يمكن أن يقدم في الدرس النقدي، سعيا لتبسيط الروح النقدية والروح الإبداعية، بدلا من الإغراق في المصطلحات المعقدة وتجاهل المتلقي والنص وهما عمودان أساسيان.
*هل يمكن أن يكون للبلاغة دور في إحياء نقد عربي جاد حي.. وكيف؟
بالطبع يمكن أن يكون لها دور هام في هذا المجال، خاصة أننا نلاحظ جميعا أننا عندما نقرأ
الخطاب البلاغي قبل أن تتجمد البلاغة، نجده خطابا ينطلق من مخاطبة متلق معين.
فعبارات عبد القاهر وغيره تخاطب كثيرا المتلقي ، ونجد كثيرا عنده عبارات مثل: إذا نظرت، انظر إلى.. هذه العبارات السائدة في الخطاب العربي القديم، هي التي توحي بالمدى الذي ينبغي أن يرتكز عليه المؤلف عند مخاطبته متلقيا معينا.
وعلى الناقد أيضا أن يطور البلاغة، لأنها ليست وقفا على الصورة القديمة، بل هي كامنة في اللغة، سواء في اللغة القديمة أو المعاصرة، بل كامنة كذلك في العامية.
كل عصر يخلق بلاغته، والعربية لا تنفصل فيها العامية عن الفصحى كثيرا؛ لأنها امتداد لنبع جمالي واحد.
والناقد الحق هو من يستطيع أن يمسك فكرة البلاغة الحقيقية في مستوياتها المختلفة، كما كان يفعل يحيى حقي مثلا.
كثير من البلاغيين والنقاد يستطيعون- من خلال تأمل الواقع اللغوي المعاصر و البلاغة المعاصرة والاستفادة من التطورات في مفهوم البلاغة في اللغات العالمية – أن يصلوا إلى مدى بعيد موضوعي يسهم في تطوير المشهد النقدي وينقذه من تهويمات الغموض.
*من أخطر قضايا الإبداع العربي وأكثرها تأزما قضية القطيعة بين النقد والإبداع.. كيف تراها؟ وهل من رؤية للتواصل ؟
كيف تفسر ندرة الدراسات النقدية عن الشعراء الذين اتسموا بتعدد المعاني رغم ما بها من ثراء دلالي؟
تمثل ثقافة الناقد اللغوية والأدبية الشخصية مدخلا ضروريا وأساسيا
لتناول النص الأدبي، ويؤسفني أن أقول إن كثيرا من النقاد الذين تلمع أسماؤهم أحيانا لا يغامرون بقراءة نص أدبي شعري على نحو خاص قراءة جهرية لأنهم سيجدون أنفسهم أمام مآزق خطيرة في السيطرة على اللغة وجمالياتها.
لا يكفي أن يحيط الناقد ببعض القراءات العامة والايديولوجيات الخاصة والنظريات الفلسفية مع ضرورتها وأهميتها ولكن عليه أن يتعامل مع المادة الخام لصناعته.
فالمهندس الذي لا يعرف المواد الخام للبناء مهما تكن قدرته على خلق الأشياء الجميلة أو تصورها، سيخلق في النهاية مبنى هشا غير متماسك.
وكذلك صاحب أي صناعة لا يدرك القيمة والأسرار الدقيقة للمادة الخام لصناعته يفقد كثيرا من الأشياء.
وهذا قد يفسر قلة الإقبال على نقد الشعر لدى كثير من النقاد، خاصة على نقد شعراء المعاني الدقيقة والإبحار في أسرار اللغة عند شاعر مثل محمود حسن إسماعيل ونظرائه.
قراءة محمود حسن إسماعيل ومثله عفيفي مطر والفيتوري وأمل دنقل تحتاج إلى دراية دقيقة باللغة ونظرياتها وأسرارها .
وقد حاولت كثيرا مع محمود حسن إسماعيل لتقديم دراسات حول كيمياء التعبير وكيمياء التصوير عنده، ووجدت أن الشعر الجيد الدقيق يقود الناقد إلى أسراره إذا أخلص الناقد في الاستعداد قبل أن يخوض التجربة مع الشعر الدقيق.

*كيف ترى المشهد النقدي في السنوات الأخيرة وحتى اليوم؟ وأي وظيفة بقيت لنقد هذا الزمان ؟
الحديث عن المشهد النقدي يتطلب توسيع مفهوم المشهد النقدي الحقيقي، ليس المشهد النقدي مجرد وقوف ناقد على نص في الإنتاج الأدبي أو الفني أو الموسيقي أو ما شاكله، إنما هو جزء من روح عامة تسري في الثقافات الحية وتختفي في الثقافات الاستهلاكية الجامدة.
المشهد النقدي يتطلب تربية ذائقة نقدية في تلقي ما يقال وإرسال ما يرسل. شيئا فشيئا مع التعليم والتدريب وتلقي الفنون الجميلة والنصوص الأدبية لكي تشكل جزءا من روح الأمة الراقية في مقابل روح الأمم المسترخية المستسلمة.
نحن بحاجة إلى إنعاش الروح النقدية في حياتنا بصفة عامة والنقد الأدبي جزء منها، لكن الجزء الأهم والأعم أن نتعلم كيف نحلل ما نسمع، وكيف نحلل ما نقول قبل أن نلقي الكلام على عواهنه إرسالا واستقبالا، وقبل أن تتكون لدينا ثفافات استهلاكية متخمة تخلو من الثقافة النقدية الراقية التي تجعل الأمة القليلة العدد التي تتبنى هذا النمط من الثقافة أفضل كثيرا من الأمة المتخمة بالعدد والخالية من روح المشهد النقدي.
نحن في حاجة إلى أن ننعش المشهد النقدي بدءا من إنعاش اللغة، وإنعاش النصوص، والمحاورة الجادة مع ما يقدم إلينا وتخلي النقاد عن روح المجاملة وروح الشللية وتدريب الناس كيف يشاركون في الحياة العامة والخاصة انطلاقا من إنعاش روح نقدية جادة مثقفة تعمل على تقدم الأمة.
*ما الذي تختزنه ذاكرة د.درويش من فترة السربون؟
تجربة السربون تجربة شديدة الخصوبة في حياتي، وأنا أعتز بها كثيرا.
فقد وصلتها مبتعثا لدرجة الدكتوراه، بعد أن حصلت على درجة الماجستير في مصر.
وصلت إلى السربون محملا بثقافة لا بأس بها في المجال، مستعدا للتفاعل مع الثقافة الجديدة وتعلمها دون الذوبان فيها.
وقد مكثت في السربون فترة زمنية طيبة،التقيت فيها بالأساتذة المهتمين بالدراسات الشرقية والمهتمين بالنقد الأدبي والفكر.
كان على رأس المستشرقين في فترتي اندريه ميكيل، وشارل بيلا اللذان جاءا بعد جيل الرواد السابقين بلاشير وجاك بير.
ورأيت في بيلا وميكيل إجلالا كبيرا للثقافة العربية وحرصا عليها واعتزازا بها.
يتلقونها من وجهة نظر الثقافة الإنسانية العامة وبعضهم يكتب بها كميكيل الذي كان يكتب الشعر بالعربية.
وكان شارل بيلا يقول إنه أفضل من يتكلم العربية بعد الجاحظ، وذلك نوع من الاعتزاز باللغة، تجلى ذلك في تحقيقهما لروائع التراث العربي، ودرر الحاضر العربي.
كان ميكيل هو الأستاذ المباشر لي ، وقد ترجمت عنه كثيرا من دراساته في كتاب” الاستشراق الفرنسي والأدب العربي” ومن بينها دراسته اللافتة عن نجيب محفوظ”
تقنيات الفن الروائي عند نجيب محفوظ ” ، كما ترجمت الكثير من دراساته عن ألف ليلة وليلة التي كان مهتما بها.
ودراسته” تقنيات الفن الروائي عند نجيب محفوظ ” كتبها عام 1963، وكانت أول أو من أوائل الدراسات التي عرّفت المثقف الغربي بقيمة نجيب محفوظ، ومهدت الطريق أمامه للترشح لجائزة نوبل.
وكان ميكيل- كما أخبرني آنذاك- قد رشح لهيئة جائزة نوبل اسم نجيب محفوظ للفوز بها، وكان ممن لهم حق الترشيح للجائزة .
وأذكر أنني كنت حريصا على حضور محاضرات رولان بارت في مدرسة المعلمين العليا في باريس.
عشت إلى جانب ذلك الحياة الثقافية في فرنسا التي تنطلق من المناقشة والاستفادة والإعادة والدخول أفق عظيم عبر عنه أندريه ميكيل بأن الإنسان يستطيع بعد فترة أن يجد ألوانا بين اللون الأبيض واللون الأسود، وأن يكتشف أن الحقيقة لها كثير من الظلال وكثير من الأطياف التي على المرء أن يتعود عليها.
وقد أفدت من فترة السربون التعرف على الدراسات اللغوية والنقدية الحديثة، وعن هذا الطريق ترجمت الموسوعة الكبرى ” بناء لغة الشعر واللغة العليا” لجون كوين، وهي من أهم الموسوعات التي طرحت قضية الشعر الجديد والنقد الجديد واتسمت بدرجة الوضوح الأكاديمية الضرورية التي كنت أميل إليها وما زلت قبل الترجمة وبعدها.
وكانت فترة فرنسا بمجملها تعيد إليّ الظلال العظيمة التي هبت على الأدب العربي والفكر العربي من أيام رفاعة وعلي مبارك وأحمد شوقي وتوفيق الحكيم وطه حسين وغيرهم ممن حملوا الثقافة العربية إلى آفاق جديدة من خلال حبهم واختلاطهم بالثقافة الفرنسية وحاولت أن أسير على طريقهم ولو خطوات قليلة.
*خضتَ بجسارة معارك عديدة من أجل اللغة؟ هل تشعر بمرارة من عدم الجدوى وقلة الحصاد؟ أي شعور ينتابك تحديدا الآن وأنت ترى اللغة تنتهك صباح مساء؟
خضت معركة اللغة في كتابي” إنقاذ اللغة من أيدي النحاة” ” إنقاذ اللغة إنقاذ الهوية”.
والمعركة لا تزال قائمة، ورأيي فيها دون تجن على أحد أن جانبا كبيرا إهمالنا في اللغة وهو يؤدي إلى إهمال في الهوية يكمن في التخطيط لها من خلال القائمين على طرح المقررات ووضع المناهج، وطريقة التدريس، وهي كلها أشياء تؤدي بالضرورة لدى المتعلم العادي إلى ضعف الاعتماد على اللغة وإجادتها.
ما زلت أرى أننا بحاجة إلى ثورة شاملة في التخطيط لتعليم اللغة العربية ووضع مناهج لها تناسب العصر، وعدم الاكتفاء بالمناهج القديمة التي كانت تصلح لعصر السماع ، وتصلح لعصر لم تكن فيه وسائل التعلم شائعة بهذه الطريقة، ولم تكن هناك التقنيات الحالية.
نحن بحاجة أن نتعلم من الآخرين كيف يعلمون لغاتهم القومية ونحن في هذا أمامنا شوط طويل لكي ننقذ اللغة أولا من التخطيط العام لتعلمها، ثم ننقذها ثانيا من أيدي الذين يقصرون في سبيل إجادتها ، ونضع الخطط وهي كثيرة موضع التنفيذ: كيف نهتم باللغة ونحافظ عليها فنحافظ على أنفسنا في الوقت نفسه .
*تتباين مدارس الترجمة عامة والترجمة الأدبية خاصة تباينا كبيرا.. كيف ترى الأمر؟ وإلى أي المدارس تميل؟ وما فلسفتك في الترجمة؟
خضت تجربة الترجمة من الفرنسية إلى العربية على مستويين: مستوى الدراسات النقدية والأدبية، ومستوى النصوص الإبداعية.
في المجال الأول ترجمت موسوعة ” لغة الشعر ” في جزأين: بناء لغة الشعر. واللغة العليا.
وترجمت كذلك كتاب فن التراجم والسير الذاتية لأندريه موروا.
وفي المجال الثاني ترجمت نصا إبداعيا قديما هو “أغنية رولان” (La Chanson de Roland) ، وهي ملحمة فرنسية هامة من حيث كونها تمثل بداية الأدب الفرنسي وانعزاله عن اللاتينية من ناحية، ومن حيث تمثل الروح الدينية التي كانت سائدة في الحروب الصليبية بين الأوروبيين والمسلمين.
ثم ترجمت شعرا قصائد شعرية لجاك بريفير.
*كيف كان منهجك في كل هذه التراجم؟
منهج التقريب وليس منهج التغريب كما عبر عنه الراحل د .محمد عناني فيما بعد عند تنظيره للمسألة .
كان رأيي أن الترجمة ليست تباهيا، وإنما نقل فائدة، ينبغي أن يسعى المترجم من خلالها لاستيعاب كامل للنص، وإلا نقل لفحواه في رسالة تحل عند متلقي الترجمة كما حلت الرسالة الأولى عند متلقي الأصل.
وفي هذا الإطار فإن معيار النص المترجم ترجمة جيدة أن يظن صاحبه أنه كتب باللغة العربية مباشرة، وهذا هو ما تمت ملاحظته على كتاب بناء لغة الشعر واللغة العليا على نحو خاص.
فقد تعبت في ترجمتها، حيث رجعت- لأن الكتاب يتحدث عن القيم البلاغية والنحوية- إلى كل مصطلحات البلاغة والنحو العربي التي تساعدني على نقل الفكرة التي طرحها المؤلف لقراء الفرنسية.
من أجل هذا كانت الاستفادة منه والحوار معه معقولة.
أما النص المترجم فإن قمة وصوله إلى النجاح أن يحدث نوعا من المتعة أو قريبا منها التي أحدثها في النص الأصلي.
وأذكر أنني عندما ترجمت جاك بريفير وأذعت إحدى قصائده الجميلة التي تسمى ” لكي ترسم لوحة عصفور ” وكنت قد ترجمتها في شكل شعر عربي عفوي، وألقيتها في إحدى الندوات، وبعد فترة زرت قريتي، فوجدت أحد أقاربي يخرج عليّ من حقله وقال: أنا أعجبتني العصفورة التي تحدثتَ عنها في التليفزيون.
وقلت إن نصا لجاك بريفير تصل متعته لفلاح مصري في حقله، من خلال ترجمة شعرية لابد أن يكون هناك مجهود قد بذل أولا في النص الأصلي، وبذل ثانيا في النص المترجم، وقد حرصت على أن تكون الترجمة شعرية دون أن ألزم أحدا غيري بترجمة الشعر ،لكني رأيت أنها طريقة جيدة لكي تعيش مع النص الأجنبي كأنه نص كُتب بلغتك.