محمد الطايع: تحليل نقدي براغماتي لرواية “أبراج من ورق” للكاتب المغربي سعيد رضواني

محمد الطايع
عنوان الدراسة : تشابك أنواع السرد، وتناظر أشكال الحياة، وحوار الأضداد في رواية : ( أبراج من ورق )
* مقدمة :
1 – حول النظرية الذرائعية في النقد :
لم يكن اختيارنا للنظرية الذرائعية في النقد، صدفة ورفاهية، بل كان قرارا أوصلتنا إليه، رغبتنا في تحقيق بعض الاحتواء النسبي، لنص رواية أبراج من ورق، لكاتبها سعيد رضواني. هذه الرواية الصعبة والمختلفة، من أجل دراستها وتحليلها بشكل منهجي ملتزم، مع إيماننا بضرورة اشتغال الناقد، تحت أعين نظرية نقدية علمية، تبعد عنه صفة النقد التائه، وهي تمنحه معايير الفهم والاستدلال، وتدلل له مشاق التماهي مع النص الإبداعي، من قشرته إلى جوهره، كما تقول النظرية، وتؤطر حالة وعي الناقد بمنجزه الأدبي والمعرفي.
نعتقد ولسنا وحدنا من نقول بهذا، أن النظرية الذرائعية في النقد، هي الأقرب للنص الإبداعي العربي، وأنها جاءت استجابة لما تتوسمه الأجناس الإبداعية العربية، من قراءة وتحليل، يوائمان تطلعاتها، فتسد حاجة النص العربي لنقد على مقاسه، ولن تكون على مقاسه مناهج نقدية مستوردة عن الغرب، تخضعه لقوالب لم توضع لتناسب خصوصياته، وهي تفرض عليه أن يتماهى مع أشكال قراءة دخيلة، تنزع عنه صفة الأصالة، وتخلع عنه شرط الاستقلالية. إذ لا يمكن استثناء الأدب من الفكر والقيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية، ومن يفعل ذلك فإنه يجرد الأدب من جوهر وجوده وقيمته وغاياته، أو يبخس النقد حقه، فيكون النقد جسدا بلا روح، مجرد آلة، ينتهي دورها بمعزل عن غايات الأدب الأسمى.
نقول هذا لأننا تأكدنا، أن مدراس النقد الغربية، على اختلافها، تفرض على النص العربي عموما والإسلامي خاصة، قيما معارضة هدامة، ومفاهيم فلسفية تشكل في أساسها إهمالا لما يؤمن المبدع العربي أنه جوهر علاقته بالعالم والوجود، وذاك أن هذه المدارس والمناهج، لم تنشأ بمعزل عن التطورات الفكرية لأممها. هذا ولا ننكر أن الأدب العربي، والنظرية الذرائعية أيضا، يتوافقان مع المدارس النقدية الغربية في بعض الجزئيات والكليات، ويخالفانها في الكثير من الجزئيات والكليات أيضا. ذلك ما يحدث النفور الذي ينقلب التغاضي عنه سلبا على القارئ والمبدع، ويمنحهما إدراكا هجينا.
ترى النظرية الذرائعية في النقد، بعدم واقعية الأدب، فالأدب انزياح عن الواقع، وهو فعل مواز تتجلى قيمته في نتائجه وغاياته، لأنه لن يكون بديلا عن الحياة، لكنه قطعا عين ثانية ننظر من خلالها لوجودنا. هنا رأيت أن النظرية الذرائعية تتوافق تماما مع نص الرواية محط الدراسة، والتي ترى هي أيضا أن الأدب وسيلة مساعدة لفهم الواقع، وأن غاية ممارستنا له من شأنها تحقيق فضيلة الوعي بالذات والهوية، وتأكيد قيمة الوجود الانساني. باعتبار أن نتيجة العمل، ناجحا أو فاشلا، هي أهم وسائل الحكم عليه.
من شأن الذرائعية، أن تفسر لنا الطرق والأساليب التي انتهجها الكاتب سعيد رضواني، في روايته: أبراج من ورق، وتؤكد لنا بالدليل، قيمة هذا المبدع الفكرية والثقافية، وكيف كافح خلال حبكة نصه الروائي الجاد في مشروعه، أن ينتصر للحرف العربي، مقابل الحرف الإفرنجي الدخيل، وذلك من خلال عملية تهديم وبناء لغوية، كانت الغاية منها تحقيق العدالة. من أجل ذلك لم أخف دهشتي واستغرابي، من مدى توافق ما ذهب إليه الكاتب المبدع والمجدد سعيد رضواني، مع ما سطره الدكتور عبد الرزاق عودة الغالبي في كتبه ومؤلفاته التي عرف من خلالها بنظريته النقدية الجديدة، والتي لقيت صدى وترحيبا طيبا عند عدد كبير من المثقفين العرب. فكنا ضمن الذين درسوا أبعادها، وآمنوا بضرورتها التاريخية. أقول: هاهنا تلاقت الرؤى وتحالفت الهمم، واتفق الناقد والمبدع، أنه قد آن الأوان للأدب، والنقد العربي أن يقولا كلمتهما، وينتصرا للهوية الثقافية العربية.
2 – الفكرة العامة لرواية ( أبراج من ورق )
رواية أبراج من ورق للروائي والقاص المغربي، سعيد رضواني، تحكي قصة كاتب يعيش تأرجحا داخليا بين شكه ويقينه، أن والده قد تعرض للقتل، والده الذي كان بدوره كاتبا، مما يلهم الابن بالتحقيق في واقعة موت أبيه، عن طريق كتابة رواية جديدة، تعتمد تقنية التناظر التي يعتقد أنها قادرة على فك شيفرات غموض الحياة. وذلك مزامنة مع اجتهاده من أجل ترميم معالم ضيعة ورثها عن أبيه الذي ورثها هو أيضا عن جده. الجد أقام في الضيعة أبراجا على شكل أحرف خرسانية، قام الوالد ببنائها على شكل رسالة مشفرة تتضمن اسم قاتله، ثم قام الابن بعد ذلك بتهديم الأحرف، لإعادة بنائها بشكل واضح ينتصر للهوية العربية، ويحقق العدالة للأب، ويحافظ على إرث الجد، وكل هذا يتم بشكل عجائبي، يجعل من الكتابة فاعلا أساسيا في تغيير الواقع، ودمج الكتابة بالبناء.
3 – نبذة عن الكاتب:
سعيد رضواني:
قصاص وروائي مغريي، من مواليد سنة 1972 ، له عدة مؤلفات منشورة ، كلها تنتمي لجنس السرد.
مجموعة قصصية بعنوان ( مرايا ) وقد لقيت هذه المجموعة، انتشارا واسعا، وترحيبا وحفاوة بالغة من طرف الجمهور العربي. وقد نشرتها دار البانثيون في باريس سنة 1999 باللغة الفرنسية بعد أن ترجمها الشاعر الفرنسي المغربي الأصل جمال خيري.
نفس النجاح والقبول حضيت به مجموعته القصصية، ( قلعة المتاهات )
ثم صدرت له رواية أبراج من ورق، عن دار الآداب، فازت هذه الرواية بجائزة أسماء الصديق للرواية الأولى، وهي محط الدراسة، الرواية أيضا أسالت مداد عدد كبير من أقلام النقاد والدارسين والمهتمين،
سعيد رضواني، كاتب مجتهد، وهو بصدد انهاء رواية جديدة، ومجموعة قصصية ثالثة، نشر عددا من نصوصها في عدة جرائد محلية وعربية، تلك النصوص التي تقابل بكم هائل من الحفاوة مع تراكم مشهود من طرف النقاد..
* المدخل البصري:
1 – مقدمة رواية أبراج من ورق:
عند تصفحنا لرواية أبراج من ورق، سوف تطالعنا مقدمة صالون الملتقى الخاص بجائزة أسماء صديق للرواية الأولى. وهي مقدمة تتصف بالحياد من حيث معايير الحكم، ثم المسؤولية والأمانة العلمية، والموضوعية والتعبير عن رغبة الملتقى في تأكيد قيم الأدب الرفيع. مع إشارة لقيمة الجائزة وما تجسده من دعم للكتاب، إضافة لشهادة نقدية، تتضمن كلمة تؤكد سبب وقوع اختيار الجائزة على هذه الرواية، وما أضافته للمشهد الروائي العربي، وما تميزت به من قدرة مشهودة على خوض غمار التجريب، مع إشادة برواية أبراج من ورق، وكيف أن التجديد فيها على مستوى الشكل، لم تكن الغاية منه استعراضا للمهارات السردية، بل انتاجا لوحدة موضوعية بين الشكل والمضمون
2 – عتبة الرواية ( الغلاف )
من خلال تأمل العتبة الأولى للرواية: نشاهد لوحة الغلاف والتي تتضمن خلفية سماء زرقاء، وطيور محلقة، على سماء تعكس رمادية الأفق الأعلى، الذي يرمز لغموض المستقبل، بتصدرها العنوان، المكتوب فوق خط أبيض دقيق فاصل بينهما ( أبراج من ورق ) ذلك الخط الأبيض الدقيق يرمز لبياض صفحة الكتابة، بينما يحيلنا اللون الأزرق الغامق، لخط عنوان الرواية ومن فوقه اسم الكاتب ( سعيد رضواني )، إلى لون المداد.
أسفل اللوحة زخارف بكتابة عربية، تحيلنا على التراث المعماري العربي، تعلوها أشكال أقواس يتماهى خلالها شكل البناء بأشكال أحرف، شبه لاتينية غير واضحة، وعربية مميزة أحرفها، مع وجود حرف الشين في حال انعكاس برتقالي اللون، يعلو تلك الأشكال التي تتخللها جمل عربية متفاوتة الأحجام. مع وجود نبتتين متقابلتين. وكلمة رواية مكتوبة بشكل أفقي عن يمين منتصف الغلاف.
3 – عنوان الرواية :
شخصيا أعتبر عنوان هذه الرواية أبراج من ورق، ذلك العنوان: الجذاب، المستفز، المشوق، لأنه أيضا: محير، مثير، ومقلق.
جذاب / لأن الجاذبية تحدث، عندما ننظر لجملة العنوان بشكل كلي نهائي، مثلما ننظر أو حتى نتخيل شكل سفينة من ورق، أو غرفة من ورق. الأمر يبدو هنا ذو صلة وثيقة بالفن، بالجمال، باللعب. وبالأفكار الغريبة المختلفة. للجاذبية إذن فعل تحفيز المخيلة لتصور عجيب.
مستفز / الاستفزاز يحرك غريزة السؤال والفهم والتحدي، والوقوف موقف الشك من صحة العرض، لاجتماع عناصر التضاد الظاهرة بين رقة الورق، وصلابة الأبراج، فإن تكن الأبراج في علوها تعانق العلياء وتتماهى مع السماء، فإن الأوراق إن شاءت التحليق فسوف تكون فاقدة للإرادة فهي تجسيد للأمثولة القائلة: ريشة في مهب الريح.. ريشة بخفة ورقة في مهب الريح، مما يرمز للايقين، وعدم التحكم في الحركة مع ضبابية المصير، بينما الأبراج راسية. لكن من يجمح بخياله قليلا، ثم يعتلي منصة برج شاهق ليجرب الشعور بالتواجد أعلى كل شيء، سوف يشعر أنه أشبه بورقة في مهب الريح، بل سيٌخيل إليه أن البرج نفسه يتحرك محلقا في العلياء.
فعل الاستفزاز هنا، مكاشفة لإمكانات الذات وقدرتها على التحكم أو التماهي مع وجودها في الوجود. وأنت تقلب في ذهنك أشكال التشابك والتشابه، بين الأبراج والورق، لا بد أن تخطر لك الطائرة الورقية، ثم تتذكر أن بإمكانك التحكم فيها بخيط تسحبه أو تمده وأنت تقف على الأرض. حينها سوف تشعر أنك قد تماهيت مع الكاتب، ثم تفكر أنه سعيد رضواني.
مشوق / لأن هذا الجذاب المستفز، مرتبط بنص سردي، من جنس الرواية، فثمة قصة حبكة، حدوثة، خرافة، حكاية، وهلم جرا مع شتى التوقعات. بخصوص عالم ما، فيه حركة وفيه حياة.
محير / إذ لا يمكنك أن تتخلص من حيرتك أمام أي واقعة أو شكل، أو حالة لبس، كالذي سيوقع حواسك فيه، سماعك أو قراءتك أو تخيلك شكل أبراج من ورق، وليتها كانت برجا واحدا، بل هي مجموعة أبراج، وكأننا بصدد توقع اكتشاف مدينة من الورق، فأي نوع من الحضارات هذه التي لم نقرأ ولم نسمع عنها من قبل، سوف يأخذنا إليها هذا الكتاب؟ لكي تجد الجواب، عليك أن تقرأني هذا ما ستهمس لك به الرواية من خلال العنوان. ثم تكبر حيرتك، لأن هذا العنوان، لم يخاطبك بلغة لا تعرفها، كلمة أبراج عربية فصيحة متداولة، وكذلك الورق، لكن ما لا تعرفه قطعا، هو سبب الجمع بينهما، وكيف يمكن لأحدهما أن يتشاطر مساحة المعنى مع الآخر.
مثير / مثير لأنك ستتذكر وأنت تقرأه، كيف شعرت ذات مرة في مكان ما، في زمان ما، بتلك الإثارة الخالصة، جامحة لذيذة شهية، فيها الدهشة ونبوغ القرب، وعبقرية الالتحام، مع الطبيعة ومع الحلم، ومع الفكرة لحظة نشوئها في عقلك، في قلب مخيلة تورق أغصانها إثارة، ثم تشعر بالحماس، ثم تجتاحك نيران العشق، ولكي لا تتخلى عن الأبراج الورقية وتتركها تحترق في نار افتراض، لا جدوى منها ولا منفعة، سوف تقرأ النص بحكم استجابتك الفطرية لكل ما هو مثير.
مقلق / من جمال وجود القلق في حياتنا، شعورنا الدائم أن ثمة شيء رائع قد فاتنا الحصول أو الاطلاع عليه، تجريبه أو إدراكه، ذلك القلق الذي يختلف تماما مع الطمأنينة، بل يعتبرها جمودا، وإفلاسا ذاتيا، وفراغا روحيا، وموت مخيلة. لذلك حدثنا الله عن الجنة، ولم يظهرها لنا، محفزا رغبتنا فيها عبر استخدام المخيلة. مؤكدا أنه لا يفوز بها إلا ذو حظ عظيم، الفوز عظيم، لكن خوف الفشل، دون الفوز أمر مقلق، والقلق عكس البلادة عكس السذاجة.
كل العالم يتبرأ من لعنة البلادة، حتى الرجل البدائي الصياد، كان يطارد الشمس بغاية اصطيادها، بينما خوفه وقلقه دفعاه لاكتشاف النار والأنهار والبحار، ولأن القلق نوعان، قلق يحولك إلى مهووس بغاية حتى تبلغها، وقلق يمنعك من الطمأنينة كلما وخزتك حواسك وضميرك، واتهمتك بالخمول والكسل وفتور الهمة بل والعجز واليأس أحيانا، بينما خلاصك يتجلى في خوض مغامرة الاكتشاف، ومع عنوان أبراج من ورق، ليست هناك وسيلة متاحة للاكتشاف، إلا القراءة.
4 – الشكل الهندسي للنص :
البنية الظاهرة لرواية ( أبراج من ورق )
رواية أبراج من ورق، مقسمة شكلا إلى قسمين:
الجزء الأول ، تحت عنوان :
( أدراج البرج الأول )
من الصفحة 11 إلى الصفحة 118
الجزء الثاني ، تحت عنوان :
( سلم البرج الثاني )
من الصفحة 121 إلى الصفحة 208.
عبر هذا التقسيم، الأكبر نلاحظ أن الجزء الأول والجزء الثاني من الرواية، يشكلان حالة من التماثل والتناظر والذي يعتبر من أهم تقنيات الكتابة عند المبدع سعيد رضواني. هذا التناظر سوف يبدو واضحا عند القراءة، فهو يجسد حالة استثنائية من التضاد والتكامل، الجزء الأول يدور في فصل الصيف، والجزء الثاني في فصل الشتاء، عند نهاية الجزء الأول، نكون قد بلغنا ذروة التصاعد الدرامي، بينما لأول مرة لن نمارس فعل النزول بدءا من الجزء الثاني، إنما سيبدو لنا أننا نعود إلى نقطة البدئ الأولى، لكنها أيضا تتمة، لما سبق، وهي امتداد طبيعي لما سلف من وقائع .
ثم ننتقل إلى تقسيم الرواية عبر فصول صغيرة، فنلاحظ، أن كل فصل من فصول الجزء الأول من الرواية، له نظيره الذي يقابله من فصول الجزء الثاني، فنعلم أننا نقرأ رواية ذات شكل هندسي، وتصميم مسبق متقن، بلغ حد التكامل والدهشة، خاصة أن أول كلمة تطالعنا في الكثير من فصول الجزء الأول، هي نفس الكلمة التي سنقرأها في نظيره من الجزء الثاني، وفي بعضها تناظر في الكثير من الجمل، بل وحتى بعض أعداد الفقرات.
أما المضامين، فهي تجسيد لفعل المرايا، حيث ترى في النص الثاني تكاملا مع نظيره النص الأول، فهو إما صدى له، أو تكملة للتصاعد أو التسلسل الدرامي، وتطور لذلك الحدث السابق، بل يحدث وبشكل لم يسبق لي شخصيا أن وقفت عليه في أي رواية عربية سابقة. ولست أزعم أنني مطلع على كل الروايات العربية. قلت: يحدث أن الوقائع التي نجدها في الفصل ونظيره، تمثل تجسيدا تاما، لفرضية التكامل الموضوعي والشكلاني، واللغوي، لكن مع إمكانية تأويل لا نهائية. وكل ذلك دون أن يربك هذا التماثل سير الأحداث ولا تطور الحبكة، بل تشعر فعلا أن الرواية تسير نحو الأمام، بتناغم فريد، وكأننا بصدد قراءة حركة كونية، تتعلق بمسار وتحرك كواكب في مجرة، أو مشهد تصورنا لنظرية نسبية آينشتاين مجسدة في صورة رجل يتحرك نحو الأمام أو نحو الخلف، داخل قطار يتحرك، أو أننا نرى رجلين يلعبان كرة الطاولة داخل قطار يتحرك بسرعة، وكيف تنتقل الكرة من اتجاه إلى ضده، في تزامن مع حركة القطار الخارجية، مما يؤكد دون شك أن رواية أبراج من ورق، تعتمد على أسس علمية، ورياضية هندسية، تحاكي عالم الذرة والكوانتوم، دون أن تغفل أنها بصدد الحديث عن بشر حقيقين، يعيشون بشكل طبيعي، فالعجيب فيما قام به هذا المبدع السارد المختلف عن غيره، أنه لم يلجأ لتطبيق نظرياته في السرد، ومرجعياته العلمية، لأحداث عجائبية فانتازية، بل على العكس كل الأحداث واقعية، يمكنها أن تحدث لنا جميعا على أرض الواقع المعاش، مما يؤكد حقيقة ارتباط العلم بالأدب، وارتباطهما الوثيق معا بالحياة الواقعية. أما فيما يخص التخييل والذي هو جزء أساسي في الجنس الروائي عموما، فسوف يبدو سلطان المخيلة مهيمنا على شكل الكتابة، وليس على الوقائع، مما يدفعنا لاستخلاص عجيب، كيف استطاع هذا الكاتب، أن يمارس التخييل شكلا، دون أن يمس الواقع جوهرا؟ شخصيا أعتقد أن رهانا كهذا من الصعب جدا، أن يكسبه إلا الذي فكر فيه أول مرة، ثم قام بإنجازه على الورق. هذا وقد فكرت مرارا إن كانت رواية كهذه يمكن رؤيتها من خلال عين السينمائي، ما دام أحد أهم شخوصها، مخرجا سينمائيا، فيتم عرضها مثل فيلمي ( خيال رخيص pulp fiction ) للمخرج كوينتن تارانتينو، وفيلم ( عقيدة tenet )
للمخرج كريستوفر نولان، وقد خطر لي هذا لأني لم أجد ما يقابل سعيد رضواني إلا هذا النوع من المخرجين، فخلصت لنتيجة مفادها، أن رواية أبراج من ورق، رواية عن الكتابة، مع أنها تضمنت مشاهد سينمائية، ووصفا لشخص المخرج قبل ظهوره الفعلي في النص، عن طريق عدسة تصوير، إلا أنه يبدو أنها رواية خلقت من الكتابة، ولسوف تخلدان بعضهما البعض. ستعيش الكتابة في قلب هذه الرواية، وتعيش هذه الرواية في قلب الكتابة. بينما تبقى فرضية السينما محتملة في حال تصادفها مع موهبة فذة من صناع الفن السابع.
وقد قام الكاتب سعيد رضواني، بتوزبع رواية أبراج من ورق، عبر فصول من شأن قراءتها على شكل عناوين، أن تعطي فكرة واضحة عن شكل الرواية، ودلالات تقابلاتها البصرية، واللغوية، مع بعض تلميحات حول المضمون، استنادا لفكرة ونظرية قراءة وتفسير العناوين.
عدد فصول الرواية 54 فصلا ، مقسمة ببين الجزء الأول ونظيره الثاني إلى 27 فصل في كل جزء .
1 – 1 نسيج أشعة الشمس
1 – 2 لحاف من صقيع
2 – 1 فرار من هواجس النفس
2 – 2 ملاحقة هواجس الكتابة
3 – 1 ثمة جذوع وفروع
3 – 2 ثمة حروف وكلمات
4 – 1 ويغمره البحر
4 – 2 ويغمره البخار
5 – 1 مدينة الأموات
5 – 2 مستوطنة الأموات
6 – 1 حروف القرية
6 – 2 كلمات المدينة
7 – 1 تلال القميص
7 – 2 أبراج الجاكيت
8 – 1 منازل الموتى
8 – 2 توابيت الأحياء
9 – 1 أزقة الكتب
9 – 2 دروب السرد
10 – 1 نقار الأحلام
10 – 2 زعيق منبهات الأحلام
11 – 1 خشونة الشارب الكث
11 – 2 ليونة الشارب الكث
12 – 1 مواجهة الذات
12 – 2 مكاشفة الذات
13 – 1 ضد الحر
13 – 2 ضد الصقيع
14 – 1 سم الطبيعة
14 – 2 ترياق الطبيعة
15 – 1 البعاد القريب
15 – 2 القرب البعيد
16 – 1 النمو والتطور
16 – 2 الانكماش والتقهقر
17 – 1 أخضر الحقول
17 – 2 أزرق المحيط
18 – 1 أحاديث الحصاد والأدب
18 – 2 أحاديث السكارى والمعرفة
19 – 1 قدر الصيف
19 – 2 قدر الشتاء
20 – 1 وخز الشعور بالذنب
20 – 2 مداعبة الارتياح
21 – 1 إشارات تحذير
21 – 2 إشارات مطمئنة
22 – 1 تواطؤ الطبيعة
22 – 2 تواطؤ السرد
23 – 1 قاع القبو
23 – 2 أعلى السطح
24 – 1 نداء الحقول
24 – 2 نداء اللغة
25 – 1 الزمن المؤجل
25 – 2 الزمن الموعود
26 – 1 قلعة من حجر
26 – 2 قلعة من سرد
27 – 1 امتداد السطور
27 – 2 امتداد الطريق
* الاحتمالات المتحركة:
1 – الاستهلال الروائي:
( اتعكاس المرآة )
لا أذكر / نبدأ الرواية، مع سارد لا يتذكر أهم خبر سردي، مع أنه متعلق به / فثمة لبس وتداخل بينه وبين شخص آخر، مؤكدا رغم ذلك حتمية مروره من نفس الطريق، هو والشخص الآخر. مؤكدا حتمية الفعل، من خلال قوله : حتما داست قدما أحد منا / الزمن السردي هنا، والذي هو زمن ماضي، نعرفه كذلك من خلال كلمة ( كان ) سوف نشك أنه الزمن الأصح للخبر السردي، وكأن الغاية من ذكره فقط أن يستخدم وسيلة، لوصف الطريق، في ذلك الوقت الحار ( فصل الصيف )، والذي لا بد أنه تكرر هذا المضي منه مرارا حتى صعب فك الالتباس بين زمن وزمن مقابل، مع تشابه الشخصين، شخص السارد وشبيهه، مما يضعنا وجها لوجه أمام تمويه على الزمن الرئيسي، الذي يعادل مفهوم الزمن المواكب لفعل التطور السردي، لكنه أيضا زمن مفتوح على أزمنة أخرى.
الأم / أمه أو أمي / الأم هنا اثنتان، وكلاهما ضمن الموتى، ومع ذلك ينبهنا السارد، أن صوت أمه أو أم الآخر، مخنوق بالتراب، بالكاد يصل إلى أذنيه أو أذن الشبيه، وكأن من الطبيعي أو المفروض، أن يسمع الأحياء أصوات الموتى.
ثم يضيف أن شفاه الأم جافة / إشارة إلى تحول الانسان الذي هو مخلوق من طين، إلى طين يابس رجوعا لأصله، إحالة على مرحلة تيبس لحم الميت قبل تحلله في التراب، بينما لم يتم التفريق في هذه الفقرة بين أم السارد، وأم الشخص الآخر، فكأنهما أم واحدة، ولذلك ما يبرره، بمعنى ما دامت نفس الأوصاف تنطبق عليهما، يجوز اختصارهما في واحدة، فذلك لن يشكل فرقا، وهو أمر أراد به الكاتب التلميح إلى وجود صلة قرابة شديدة تربط بين السارد ونظيره، الذي يماثله في الفعل والصفات، حتى أن أم كل واحد من الشخصيات الأربعة، يمكنه أن يذوب في الآخر، أو يصبحان معا : رجلا واحدا/ أمرأة واحدة.
بهذه الجمل الغرائبية، يفتتح سعيد رضواني روايته، أبراج من ورق، جملا تقدم لك صورة سردية تفيد بوجود حركة سعي فوق طريق ساخنة، في يوم صيفي حار، لكنها لا تمنحك يقينا بشأن هوية الفاعل، فهما إثنان، وليس واحد، كما أن الكلام قادم عن ضمير متكلم، يضطرك لاعتماد رواية الناطق منهما، وليس الصامت، لأنه الأكثر موثوقية، فهو المتكلم، وعنه سوف تتلقى الخبر السردي، بينما يشبه الآخر انعكاسا على مرآة، وهي مرآة شاملة معادلة لما يماثلها، لأنها تعكس زمن السرد أيضا، لكنها تحمل معها إحداثيات زمن آخر مشابه، وهذا الأسلوب طبعا، يحلينا على المرايا، حين يشك الواحد منا أحيانا أينا المقلد؟ أنا، أم ذلك الذي يظهر لي على المرآة. لكن دون أن ننسى أننا نعلم علم اليقين أننا المتحكمون في الفعل، وأن لنا تفكيرنا المستقل، وقدرتنا الخالصة على الذهاب بعيدا عن المرآة، أو حتى عدم النظر إليها. لكن في حال التواطؤ مع تلك الفكرة يبدو الأمر دائما أشبه بممارسة لعبة، مسلية ومخيفة في نفس الوقت، وأن يتخذ الفعل شكل اللعب ففي ذلك امتاع وتحفيز للمخيلة، مما ينتج عنه جو لطيف محبب، يغري بالمتابعة، والظاهر أن هذا هو المقصود لدى الكاتب سعيد رضواني، الذي منح الكتابة والسرد والرواية، سمة اللعب المخيف، الذي يمارسه الواحد منا، مع نفسه، وذاك أن جل الألعاب الرياضية والذهنية، تعتمد على لاعبين يخوضان فكرة التحدي، مع اختلاف ظاهر، لأن اللعب هنا، يشبه خوض غمار لعبة تحدي لطيفة مع نفسك، ولكي تلاعب نفسك ففي ذلك مدعاة للإحساس بالرهبة، أولا لأنك ستدخل مرحلة الشك في سلامتك العقلية، ولا شيء يخيف العقل أكثر من عاقبة جنونه، وأيضا لأن تحديا للنفس، من شأنه أن يضعك مباشرة أمام ذاك الكائن الذي يوجد فيك تخافه وتخفيه، ألا وهو أناتك السفلى، التي أطلق عليها منظر علم النفس الأكبر : “سيجموند فرويد ” اسم ( الهو ) ، ليبقى السؤال بعد ذلك أيهما اللاعب، السارد أو نظيره؟ أم أنها لعبة في مجملها، تضع الكاتب في مواجهة مع نده أو نظيره القارئ. ولأن لكل منا حدوده واستقلاليته، مهما كان مقدار التشابه والتماهي والتداخل، فقد يحدث أن تنتقل اللعبة من يد الكاتب إلى يد القارئ، ليعيش القارئ تجربته الخاصة على أعين الكاتب، الذي يتحول حينها إلى ما يشبه ساحرا، يستمتع بالتفرج على حيرة القارئ وهو مقبل على تحديات القراءة، هنا نرى أن النص يحقق بكل حيله وألاعيبه هذه، سمة اللطف والرهبة في نفس الوقت، والحيرة والتحدي، مما يؤكد أننا نقرأ وبشكل غير مسبوق لكاتب عربي مجدد خلاق، نجح وبمهارة فائقة في الاستئثار باهتمام القارئ، الذي لن يعرف كيف يغادر هذه الرواية قبل ان يبلغ منها آخر صفحة وآخر جملة، ثم يتنفس الصعداء عند وقوفه على نقطة نهاية. مما يجيز لنا شرعية القول، بأن الكاتب سعيد رضواني، نجح تماما في اجتياز أهم رهان روائي، وذلك عبر شد انتباه القارئ، من خلال براعة الاستهلال الروائي المختلف والمتقن.
وحتى لا نضيع أمام كل هذه الملابسات، علينا أن نضع ملخصا صغيرا لما استنتجناه، فنقول: من خلال الاستهلال الروائي، تبين أن زمن السرد الفعلي المباشر يشير إلى زمن ماضي قريب، لكن الشخصية المحورية الأولى، والتي هي أيضا الساردة، تتماهى مع شخصية محورية ثانية صامتة، في زمن سردي ماضي سابق، لكن تشابه الفعل فعل السير وتشابه الوقت ( صيفا ) وتشابه صفات الشخصيتين وعلاقتهما بالأم، يجعلنا نرجح أننا بصدد الاستعلام عن شخصيتين تجمعهما قرابة خاصة، وتفرق بينهما ظروف قاهرة، وأن الفعل السردي هو ما يقرب بينهما، ويمنحهما لحظة القراءة، مسرحا مشتركا ليتواجدا فيه معا، والغاية من ذلك رغبة السارد أن يحقق نوعا من التكافؤ بينه وبين هذا الآخر، فلا يطغى عليه بنرجسية ولا يهمشه بأفضلية، فكأن الغاية من لعبة الوقوف أمام المرايا، ذات أغراض أربعة نوردها كالآتي : الغرض الأول : اكتشاف الذات. الغرض الثاني: اكتشاف الآخر، الغرض الثالث: اكتشاف الذات من خلال الآخر، الغرض الرابع اكتشاف الآخر من خلال الذات، وكلمة اكتشاف هذه، ملزمة لتحديد نوعية هذا السرد التجريبي، فهو سرد تفاعلي، يوهم القارئ أن السارد نفسه، لا زال يجهل الكثير من الحقائق عن نص مرويته، بينما هو يعلم بحكم خبرة القراءة، أن نصا من هذا النوع، خاضع تماما لخطة كتابة مسبقة، تمنح الكاتب صفة المدهش، والمتلقي صفة المندهش، مما يخلف انطباعا عذبا، وتكاملا فريدا، يمنح القارئ فرصة المشاركة التفاعلية في تطور الحبكة والسرد.
ولهذا يجوز لنا الحكم، أن رواية أبراج من ورق، قد حققت في مستهلها، مكتسبا عظيما، يضمن لها توفر عناصر هامة تجعل القارئ متمسكا بها، لما لها من جاذبية، وما تعد به من إمتاع وما تقدمه من تحفيز وتحدي وتشويق. هكذا وبعد المزيد من الغوص في هذا المتن الروائي المختلف، سوف نكتشف أن هذه المقاصد وحدها لم تكن الدافع وراء إقدام الكاتب سعيد رضواني على خوض غمار رواية من صنف الرواية التجريبية، بل سيتضح أن، الغاية أسمى وأعظم، حين نلمس بالدليل، أن كل هذه الأساليب، أوجدها الكاتب، للارتقاء بفن السرد الروائي، وذلك من خلال كتابة نموذج لما يمكن أن تطمح إليه الكتابة، هذا ومن أقرب القرب إلى المعقول والمنطقي، أن من يجازف بمثل هذا التجريب، لن يكون هدفه ذلك الجمهور العريض الذي يميل للروايات الواضحة البسيطة. سعيد رضواني يكتب للقراء الذين تشغلهم حقيقة، فضيلة تطوير الأدب وآليات اشتغاله.
2 – الأسلوب السردي :
من أجل تحليل الأسلوب المبني على تقنية التناظر، لكشف أبعاده ودلالاته، في رواية أبراج من ورق، أشير أنه لا يمكن الوقوف على كل نقاط قوة وجمال هذا النص، من خلال مقالة نقدية، إذ يبدو أن هدفا مشابها، في حاجة إلى كتاب كامل، ربما أكبر من الرواية نفسها أضعافا. فليس في هذه الرواية ذات الأبعاد اللانهائية، والتي تنتج طوال صفحاتها نماذج تقابل وتماثل، أغرب من تعقيدات الحياة نفسها. فهي ليست من ذلك النوع، الذي يتضمن صفحات أو فقرات وجمل، قد تكتب بقصد ريط الأحداث وتوالي السرد فقط، في منأى عن تقنية الكتابة المصاحبة، الذي أوجد لروايته لغتها الخاصة التي لا تقبل ولو من خلال جملة واحدة، أن تكتب بالطريقة العادية المتعارف عليها في الكتابة النمطية.
تشبه تقنية سعيد رضواني في التعبير السردي، فكرة الانزياح اللغوي في الشعر، بيد ان الانزياح هنا ليس لغويا، لكنه انزياح في معاني التراكيب والجمل، وأنساق الأفكار والصور السردية البلاغية. وحتى نتمكن من رصد وملاحقة هذه التقنيات، سوف نكون مضطرين، لحسم الأفكار حيثما نجدها، نظرا لاستحالة الفصل بين الفكرة والتقنية، مثلما يبدو فعل تفكيك هذا النص، قتلا لقيمته، مع صعوبة فك اشتباك الأنواع والأغراض السردية، ضمن هذه الرواية، وكذا تعدد النصوص داخل النص الواحد، فهي من ناحية يمكن اعتبارها، رواية بوليسية، لولا أنها أكبر من ذلك، وأكبر أيضا من كونها رواية نفسية، أو أن تصنف ضمن الواقعية السحرية.
للكاتب سعيدا رضواني، ايقاع خاص يلازم أسلوبه السردي، إذ يبدو كما لو كان يتغنى بجمله السردية، وهو يكرر شكل الجملة لينوع معناها،
يقول في الصفحة 22 : ( كهواء دافئ تخرج أنفاسي، وكأنفاس دافئة بداخل الهواء، وكالندى يتساقط من عرقي، وكالعرق يتساقط من ندى مرشة من أوراق شجيرات أخدشها بذراعي وكتفي ). في بداية الفصل المعنون ب ( ثمة حروف وكلمات) نرصد أسلوبا مغرقا في الشاعرية : ( كبياض الورقة ينساب جوهر كلمات الحبر على السطور )
ومع تقدمنا نحو الأمام قليلا ، وتحديدا إلى أسفل الصفحة 28 وأعلى الصفحة 29 من الرواية، نقرأ حديثا للسارد عن موت أمه، وكيف أثر موتها عليهما معا، هو ووالده، إذ يقول عن الأب :
( منتظرا مرور موكب عروس الضباب، على ايقاع صراخ النائحات وهمهمات الرجال. وإذ مرت والدتي أمامنا مختمرة بالبياض، انهار تماسك والدي، وأخذ يجهش بالبكاء، وهو يشيع الركب إلى مدينة الأموات، طيلة الرحلة الممتدة من القرية إلى الدار البيضاء، كي تدفن في مقبرة المدينة التي ولدت فيها، هناك رفعت أسفل خمارها، قليلا، كي لا تتعثر به، ثم نزلت إلى غرفتها أسفل الأرض. ومنذ ذلك اليوم، انقلب بكاء والدي سردا، يشنف به مسامعي، ويسكبه حبرا على الورق، سردا مفعما بتفاصيل ما أحكيه الآن. )
نحن الآن بصدد مشهد وصف جنازة الأم. في المعتاد، الأب سيكون ضمن المشرفين على طقوس الجنازة، لكن كلمة منتظرا تجعله خارج هذا الفعل الجماعي، فهو هنا ليس مشاركا، وإنما هو واحد من الذين يقفون على جانب الطريق في انتظار مرور موكب الجنازة. وأن تنتظر مرور موكب ما، فلن تشارك في تفاصيل إعداده، سواء كان موكبا احتفاليا، رسميا أو شعبيا، حتى وإن كان كل ذلك يجري تحت إمرتك.
هنا نعلن، أن الكاتب يُضمن المشهد خبرا مفاده، الإشارة للتكافل الإجتماعي، وذلك أن من عادة المغاربة، أن يعفوا أهل الفقيد من مشقة تغسيل الميت، وحمله إلى المقبرة ثم دفنه، وكذا إعداد الطعام للمعزين، وهي عادة موروثة عن القيم الإسلامية، أهل الفقيد المقربون، مثل الأب والأخ والزوج، يكونون في حالة حزن وصدمة، غير قادرين في الغالب – إلا في استثناءات قليلة – على القيام بتلك المهام، مما يوجب تضامن عموم الأهل والجيران والأصدقاء في مثل هذه النوازل. هنا نؤكد براعة الكاتب، متجلية في قدرته على اختصار كل هذه الخلفية الإجتماعية الثقافية في كلمة واحدة، هي كلمة الانتظار، ثم نشير أن هذه التقنبة السردية تحديدا، هي ما يغري بعض الكتاب غير المتمكنين فيكتبون على شاكلتها، نصوصا تتضمن كلمات قاصرة عن تبليغها مثل هذا الهدف، فيقعون في مغبة الغموض المبهم، بينما الغموض كما هو معلوم، لعبة جمالية، تحتاج لمفاتيح الفهم، وعلى هذا القياس، يمكن أن نعتبر كلمة منتظرا، مفتاحا للفهم.
الخبر السردي يقول : ( الأب ينتظر مرور الجنازة ) بينما نلاحظ هنا، أنه قد تم إبعاد كلمة جنازة، واستبدالها بكلمة موكب، وشتان ما بين دلالات الكلمتين الفنية والتصويرية والخبرية ووقعهما على الأنفس. وبذلك سوف نصل لحقيقة أسلوبية غايتها : أن الكاتب لا يستجدي تعاطف القراء، كما في جل الروايات الكلاسيكية، والأدب الكلاسيكي عموما، لنأخذ مثلا هذه الفقرة من كتاب : دمعة وابتسامة، للعبقري الخالد الذكر والأثر، جبران خليل جبران، والتي تضمنها نص بعنوان مدينة الأموات، حيث يقول جبران :
( في تلك الدقيقة نظرت فرأيت رجلين يقلان ثابوتا خشبيا، وراءهما امرأة ترتدي أطمارا بالية وهي حاملة على منكبيها طفلا رضيعا، وبجانبها كلب ينظر إليها تارة وإلى الثابوت أخرى – جنازة فقير حقير وراءها زوجة تنزف دموع الأسى وطفل يبكي لبكاء أمه، وكلب أمين يسير وفي مسيره حزن وكآبة. )
أذكر جيدا، أنني وأنا صغير كنت أبكي أنا وإخوتي ونحن نقرأ هذه الفقرة الحزينة جدا، وأنا إذ أعرضها الآن، لا أروم الانتقاص من عذوبة وبلاغة جبران، أو أقلل من عمق طرحه الانساني العظيم، خاصة أنني أحب النصوص المؤثرة، وهذه عادة قديمة لا أنفر منها ولا أتعاطاها عمدا. لكن فقط أوردتها لأبين إلى أي حد تطور أسلوب الكتابة، وتباينت أهدافه، وكيف يود الكاتب اليوم أن يخاطب قارءه. لو عاد جبران ومعاصروه لقالوا إن سردنا صار شعرا، وشعرنا صار سردا، ولقلنا نحن مدافعين عن أساليبنا في الكتابة، بل سردكم هو ما كان شعرا، وشعركم هو ما كان سردا، ولن نجد حينها من يفك اشتباك الآراء وتحاججها. طبعا اختيارنا لقصة مدينة الأموات لجبران خليل جبران، ليس عشوائيا، وذاك أننا نخوض تحليلا في فصل من فصول رواية أبراج من ورق، يحمل عنوان مدينة الأموات أيضا، مما جعل استدعاء النص القديم ليس صدفة. كما أن تقابلا من هذا النوع يمكن أن يفهم تناصا، والحاصل أن ذلك ممكن من خلال رصد تشابه العنوان ( مدينة الأموات ) لكن واقعة الموت، وأوصاف الجنازات، متكررة ومعاشة في كل مكان وزمان.
ثم أعود وأقول، أن كاتب رواية أبراج من ورق، الأستاذ سعيد رضواني، لا يريد تأثر القراء العاطفي، ولا دموعهم الرومانسية، إنما غايته ان يحضى بكامل انتباههم، لأن الحزن يشوش على الانتباه، وذلك ما قد تحمله كلمة جنازة، بينما كلمة موكب تحفز فعل الانتباه والاستعداد للدهشة، كلمة موكب تقابلها كلمتي فخامة واحتفال. وفي ذكرها تهيأة لحواس القارئ كي يتقبل المرأة الميتة، وهي على هيأة عروس. لكن هنا يعترضنا سؤال، بشأن العروس، لمن ستزف إذن؟ يخبرنا الكاتب، مباشرة أنها عروس الضباب، وكان من الممكن أن تفتر همة الكاتب عند هذه النقطة، فيتوسل ذلك التأثير الملحمي الرهيب لمعاني روايته، مستعجلا تحقق تلك الصدمة اللغوية، كأن يقول مثلا “عروس الموت” كما في أدب الواقعية السحربة، والتي برع فيها على سبيل المثال، العملاق الروائي الكولومبي “غابريال غارسيا ماركيز” من خلال سرده لقصة ( أجمل غريق في العالم ). لكن كاتبنا سعيد رضواني يعرف جيدا، أن مثل هذه الصيغ الشهيرة، ستكون أشبه بصدمة باردة المفعول. مادام القارئ يعرف سلفا أنه يتلقى خبرا ووصفا لتفاصيل رحيل امرأة عن الحياة، وقد سبق ذكر موت الأم في الصفحات ما قبل الصفحة 28 ليكون انحيازه لكلمة ضباب أكثر خدمة للمعنى السردي المراد تحقيقه، الضباب رمز للغموض، والغموض ضرب من ضروب الجمال، وأن يكون الشيء غامضا، فعبر ذلك يحفز الاكتشاف، ولعل غريزة الاكتشاف، هي إحدى أهم الغرائز الأساسية في التكوين النفسي البشري، مثل غريزة الخوف وغريزة الجنس وحب البقاء، وغريزة التواصل. لكن هل يكفي فعلا لتحقيق فضيلة إقناع قارئ هذه المقالة النقدية، أن ندندن له حول قيمة الغموض، ثم نزعم أننا بلغنا القصد؟ إن نحن فعلنا هذا نكون سفسطائيين، ندافع عن صديقنا الكاتب بأي كلام تفوح منه رائحة التمويه، الذي هو نوع من أنواع الكتابة الأدبية، وكم يبدو غبيا ذلك النص النقدي، الذي يلجأ إلى لغة الشعر والتوهيم، كي يبرهن على فكرة تحتاج دليلا منطقيا، ومن أجل إبعاد هذه الشبهة، سوف ندعو القارئ أن يعود قليلا إلى الوارء، وتحديدا نحو الصفحة 27 من الرواية، ونبدأ من حيث بدأ الكاتب فصله المعنون بمدينة الأموات، فنقرأ قوله: ( كنت في الرابعة من عمري عندما تخلت عنا أمي وذهبت لتسكن تحت التراب، )
الخبر هنا يخص طفلا في الرابعة من عمره، ولنلاحظ أنه لم يصلنا عبر صوت الطفل، إنما وصل عبر صوت السارد الراشد، ومع ذلك يخبرنا هذا السارد الذي تجاوز زمن الطفولة وتخيلاتها، أن الأم تخلت عنه وعن أبيه، وكأن فعل الموت اختياري شأنه شأن أي رحيل آخر، وهذا النمط من التفكير يضع الأم محط اتهام، وهي تهمة باطلة، إن صح أن الكاتب يقصدها، فلن تكون أنذاك سوى تحاملا مجنونا على شخص الأم، مما سيلزمنا لا قدر الله، بتصنيف هذه الكتابة ضمن الكتابة السيكوباتية المريضة، الحاقدة، حيث يعلو صوت العواطف المجنونة على صوت الواقع. حسنا ومن أجل إزاحة هذا التشويش، وجب علينا الحسم، فنبدأ أولا بتسطير هذه التساؤلات أمامنا :
كيف فكر السارد الراشد أن يخاطبنا بعقلية صبي في الرابعة من عمره؟ وبدل أن يقول عندما كان عمري أربع سنوات، ماتت أمي، فشعرت أنذاك أنها تخلت عنا / يبدو أن هذا هو الصواب، جواب هذا السؤال سوف نجده في الجمل اللاحقة من نفس الفقرة أعلى الصفحة نفسها، فنقرأ قول السارد :
( لم يخلف رحيلها، في نفسي، أي شعور بالغياب. قبل أن ترحل، لم تسجل ذاكرتي أي مشهد، ولم يترسب عنها أي انطباع في نفسي، فقد حالت حداثة سني أنذاك بيني وبين نقش حضورها في الذاكرة، ولم يبدأ الإحساس بغيابها إلا بعد أن نمت قدرات ذاكرتي وأصبح بإمكانها تسجيل الأحاسيس الدافئة، التي تختلج في نفسي عندما تحضر لزيارتي، ويحل محلها شعور بالفراغ والوحشة عندما تتأخر في الزيارة. لم أحدث أحدا عن هذه الزيارات إلا فيما بعد، فقد كنت أعتقد ألا أحد غيري يؤمن بمغادرة الموتى مقابرهم، سيتغير اعتقادي هذا بعد أن سمعت أهل القرية يتحدثون عن رؤيتهم أمي في بعض الأيام والليالي المضيئة. )
هذا التساؤل الذي وضعناه، متبوعا بهذه الفقرة، جوابه في المدخل الموالي..
3 – المدخل النفسي السلوكي :
اعتبارا لأهمية تقاطع رواية أبراج من ورق، مع جنس الأدب النفسي، نفرد هذا المدخل الخاص بالتحليل السلوكي، ثم نشير أن موت الأم قد أحدث صدمة في نفسية الطفل، هذه الصدمة تسببت في اخفاء الجزء المتعلق بذاكرته العاطفية تجاه أمه.
في سنواته تربية الطفل الأولى، ومع تطور حواسه وانفصالها، أو بالأحرى حصولها فيسيولوجيا على استقلاليتها الوظيفية، هذا إذا تربى في بيئة سليمة، خاصة عند نهاية عامه الأول، تكون الأم هي بطلة وجوده، بحيث تكون نسبة تأثيرها أكبر من نسبة أثر الوالد، لذلك ينطبع نضجها النفسي وسلامة ضميرها، على سلامة طفلها النفسية والجسدية أيضا.
في رواية أبراج من ورق، حادثة الموت المبكر للأم، كانت أشبه بالانسحاب العمد من المشهد، الأطفال في تلك السن لا يمتلكون القدرة على الفهم والتحليل، مما سيحدث غيابها المفاجئ فراغا في وعي الطفل، تنتج عنه بعض البلادة، التي لن يخلصه منها سوى وجود الأب، مما سيسهم مباشرة في تحديد شخصية بطل الرواية، الذي يتسم سلوكه بالجدية والموضوعية والمزاجية أحيانا، مما يؤجج رغبته في الانتقام، وهو انتقام اتخذ صفة التقلب بين الخوف والإقدام. وقد عبرت عن ذلك بعض التصورات المسبقة للسارد، مما يدفعه للتشكيك في نجاح خطته، ومساءلة مفهوم العدالة في بعض تجلياتها، فمرة يرى أن الانتقام، سلوكا سليما، ومرة يراه وحشية. بيد أن سعيد رضواني، نجح بشكل ما، في إخراج بطل روايته من متاهة الحيرة، التي دمرت أمير الإنتقام، “هاملت” أحد أشهر شخوص الكاتب الكبير ” وليام شيكسبير.”
هذه التقلبات النفسية، هي ما أعطى لسمير بطل رواية أبراج من ورق، صفة العمق والتعقيد التي تجتاجها الشخصية الروائية، لكي تكون أكثر قبولية لدى القراء، أما مفهوم الانتقام فإنه لن ينال تمام معناه الموضوعي، ما دام يصدر عن إنسان غاضب أو خائف. لأن كلمة انتقام، مرادفة لكلمة عدالة، في حال اتصاف المنتقم بالقوة والعلم المطلق، وهذه صفات مقتصرة على الله عز وجل، وقد وردت في القرآن الكريم، آيات يتوعد الله من خلالها، بعض البشر المجرمين، وذلك أنه مالك لصفة العدل المطلق.
سوف يبلغ الطفل في رواية أبراج من ورق، سنا يؤهله لتسجيل الأحاسيس الدافئة، التي تمكنه من استعادة ذكرياته مع أمه، لكنه لم يستعد ما فات منها، وإنما أوجد ذكريات أخرى بديلة مزامنة لوقت انتباهه لما ضاع منه بغيابها، خلقتها لديه مراحل تطوره النفسي والفكري الذي احتمى بالمخيلة، حتى لا يسحقه الواقع، مستمدا قناعاته، من والده الروائي، وما يشاع بين الناس، عن ظهور الأم في النهارات والليالي المضيئة، إشارة لكونها امرأة ذات أثر طيب في نفوس الذين عرفوها، وأن تظهر لهم في الليالي المقمرة، ففي ذلك دليل على شعورهم بالفقد تجاهها. هذا التعاطف الجماعي الذي نلمسه طوال الرواية، من طرف أصدقاء البطل وأصدقاء والده، شكل دعامة نفسية قوية حافظت على سلامته النفسية، طوال النص. وقد تنبه الكاتب لأحوال بطله النفسية، مشيرا كيف تتجاذبه الأحاسيس، ثم تؤطرها الأفكار كقوله في الصفحة 92
( غريزة الخوف تدعوني إلى الصعود، والرغبة في الاكتشاف تدعوني إلى النزول ) إضافة لإشارته إلى بعض العوالم البيئية المؤثرة، مثل زحمة المدينة، والتي برع في وصفها، وفراغ الأماكن في القرية. وكذا استمتاعه بمجالسة أصدقائه، وضجره عند مجالسة أصدقاء والده. وإحساسه بحجم اغترابه أحيانا :
( لا يستطيع هؤلاء الثلاثة إدراك حجم الهوة التي تفصلني عنهم. 56 ).
والآن ونحن في قلب المدخل السلوكي نفسه، نواصل الحديث عن جملة الضباب ووصف الكاتب للمرأة الميتة وموكب الجنازة، التي كانت سببا مباشرا لبلوغنا هذا الفصل من المقالة، فنقول: أن الطفل سمير علم ماهية الجنازة، لكنه رفض تقبلها نفسيا، مثلما رفض تقبل فكرة الموت بشكله الواقعي، فاختار السارد لذلك كلمات مثل : الموكب والعروس والضباب، هذا التوهم المبني على الرفض، أججه والد السارد الروائي، وكذلك الأهالي المتعاطفون. حيث تقرأ أسفل الصفحة 27 وأعلى الصفحة 28 ، قول السارد:
اعتدت منذ طفولتي رؤية الجنازات في طريقها إلى مقبرة المدينة. / من حديثه هذا عن الجنازات، نفهم أن موت الأم حدث سابق / كانت تبدو لي دائما موحشة / الوحشة يسببها فقد الشخص المؤنس / ومتشابهة في طقوسها الكئيبة / هنا سوف نستدعي ذريعتين، متعلقتين بالسلوك النفسي للكاتب أيضا، الأولى أن نفسية الكاتب، ترفض التشابه والتكرار في الأساليب الروائية عموما، والثانية / أنه اجتهد لتغيير هذه الصيغ الأسلوبية، وفي هذا دليل على أن الكاتب مثقف ذو ميولات إبداعية سوية، لأن غيره يرفضون غيرهم ثم يقعون فيما هم عنه معرضون.
سعيد رضواني، لم يكتف بالرفض، بل قدم نموذجا ملموسا عن كيفية انسلاخ الإبداع السردي عن النمطية / محققا بذلك غاية تخدم تماسك خطه السردي مع أسلوبه المجدد في الكتابة، والذي أشارت إليه مقدمة الكتاب، بقلم أعضاء الملتقى حيث نقرأ هناك : ( والتجريب في أبراج من ورق ليس التجريب الشكلي الذي يستعرض مهارات سردية، بل هو تجريب ينتج وحدة عضوية بين الشكل والمضمون والرؤية ).
وعلى هذا الأساس نشير أن وجدان الكاتب المتصالح مع نفسه ومع غيره، وهو العاشق للإبداع، ولموهبته في السرد، يجيد تقمص نفسانية شخوصه، فلا يعرضها لخلل تضارب المفاهيم، حتى وهو يخوض غمار التجريب الخطير، وذاك أن مغامرة التجريب غير مضمونة العواقب، إن كان الكاتب يعاني عقدا نفسية أدبية، تحيد به عن القصد السليم الواعي الموضوعي للكتابة الجيدة، فأضيف وهذا أمر ضروري، أن رواية أبراج من ورق، كان من السهل على أي قارئ عادي، أن يصنفها تساهلا ضمن أدب القصة البوليسية، والتحقيق الجنائي، لما تضمنته حبكتها من روابط أساسية تتزامن مع تطور الحبكة، وتشد الفصول ببعضها البعض. والحق أن مثل هذه التصنيفات، يصادف أنها وبشكل نسبي، ساعدت في خلق تلاحم الشكل والمضمون. وذلك ما نود أن نشير إليه في المدخل التالي.
4 التصاعد الدرامي :
( الحبكة.. تشابكا مع جنس القصة البوليسية )
في رواية أبراج من ورق، نلحظ ذلك الترابط بين الجانب النفسي، والحقائق الشبيهة بحقائق الرواية البوليسية، مشكلا عنصر التقدم الأهم لخط التصاعد الدرامي، وعقدة النص والانفراج، وذلك يتجلى في استغلال ذاكرة السارد الفردية، والذاكرة الجماعية أيضا، في الكشف عن الملابسات والقرائن، والوقوف على مسببات الجريمة.
التحقيق الجنائي في أحد أهم خطوط اشتغاله، تحقيق يساءل ذاكرة المتهم، والضحية أو الشهود، مع وجوب التماهي مع الجانب النفسي، لكل هؤلاء الأشخاص الذين سيتم الاعتماد عليهم في فك لغز الجريمة، وإزالة الغبار عن الحقائق.
إن أخطر الحقائق موجودة في لا وعينا، ومهمة المعالج النفسي، الذي قد يتماهى مع الكاتب الروائي المحنك، أو المحقق الجنائي البارع، تقتضي الكشف عنها. سواء تعلق الأمر بالقتل، أو الخيانة أو الاغتصاب، لما قد تسببه الوقائع العنيفة غالبا من صدمات هائلة في نفسية الجاني أو الضحية على حد سواء.
سعيد رضواني في روايته أبراج من ورق، كان واحدا من الذين أنجزوا هذه المهمة بتفوق مشهود. حتى انه كتب فقرات كاملة تبرز بعض صيغ التناظر بين السارد سمير، وقاتل أبيه، باشكو المخرج السينمائي، يظهر فيها نوعا من تعاطف سمير معه، يذكرنا بذلك التعاطف الغامض، الذي حير أكثر الباحثين في مجاهيل النفس البشرية، وخاصة ما يتعلق منها بعالم الجريمة. فهو يشهد له بالكرم، ويقر أنه يساعد الناس، ثم يضعه محل تناظر معه يقول في الصفحة 59 : ( ومثلما حوله هذا التماهي مع ظروفه الاجتماعية إلى إنسان غامض، حولني هذا التماهي مع كواليسه الغامضة من إنسان مدفوع بنداء اجتماعي، يطالب بالعدل، لانسان منقاد لنداء طبيعي للثأر. )
بعد حصول سمير، على مخطوطة والده تشعر بالخطر المتربص به، وهو أيضا يشعر بهذا الخطر. تلك المخطوطة قلبت الرواية رأسا على عقب، وتسببت في خلق فصول كاملة مناظرة لأخرى سابقة، وحولت ليلى حبيبة البطل من أنثى ملاك إلى أنثى ذئب.
ونحن كقراء، ملزمون بالخوف عليه، وقد أخبرنا في الصفحة 23 ، عن نفسه :
( لو كنت مذنبا لشعرت بأني محق في هروبي، ولكانت لشوكات الخوف، التي تخز ظهري، لذة تولد في نفسي أملا في النجاة. ) في الصفحة 132 سوف يحدد سمير نوع الخطر المحدق به: ( ثم اتضح الخطر في الأنثى كما في أبيها وانتشل نفسي من داخل أدغال علاقة مع أنثى كادت تدمرني ).
ومن أجل رصد تطورات هذه الحبكة المشوقة، المتسببة في القلق أحيانا، ننطلق من حديث البطل في حواره الصحفي حين سُأل، لماذا تكتب؟ قال ( أكتب لأنتقم لأبي ) هذا التصريح العلني، قد يبدو تهورا من البطل، لكنه في حقيقة أمره، جزء من خطة الإيقاع بالقاتل، لا يقل أهمية عن أبراج الكتابة الإسمنتية، التي جعلت اسم المجرم، مقروءا للعالم، وذاك أن استفزاز الوحش قصد إخراجه من قوقعته، من أخطر خطط الحرب النفسية، وأكثرها تعجيلا لهزيمة المجرمين. وحتى لا يكون اتهامه للمخرج السينمائي مجرد حالة شك مهزوز، وظن سوء باطل، غير مدعوم ببراهين. نعلم مما ورد في الصفحة 18، أن قناعته لم تأت من فراغ، مبينا لنا ذلك التدرج القاسي في تصوره لظروف موت أبيه: ( أمضي الآن في طريقي كي أجر قاتلا للمحاكمة.. انصافا لقتيل يشهد على نفسه أنه انتحر ، أمضي وأنا متأكد أن أبي مات مقتولا، وأن موته لم يتم دفعة واحدة بطعنة غادرة بقرت يمين بطنه، بل مات تدريجيا. ) ثم يعود ليؤكد في الصفحة 19 تلك القناعة : ( لا أحد يستطيع إقناعي بأن والدي مات منتحرا ) مشيرا أن الأب كان يحمي شخصا ما ضعيفا مضيفا : ( ألا أحد يمكن أن يكون هذا الشخص إلا ابنه الذي كان صغيرا ولا يستطيع حماية نفسه )
ثم يزيد : ( آلمني كثيرا أن يتنازل والدي عن حقه من أجل حمايتي ) هنا يبلغ مرحلة التعاطف الممزوج بالألم، فيتعاظم شعوره بالذنب، أن وجوده في الحياة هو ما تسبب في مقتل أبيه، مما يقنعه بفكرة الانتقام ( وهذا يضاعف رغبتي في الانتقام له ).
ثم يضع السارد خطة للإيقاع بخصمه، وذلك بمساعدة صديقه كريم، واعتمادا على شهود أصدقاء الوالد، واستشاراته مع صديقه في المدينة، وهذا طبعا بعد تشابك وتماه وتداخل بينه وبين شخصية أبيه، حتى إذا بلغ حد الانفصال السردي عنه شعر بارتياح مؤقت ( الآن اتضحت الرؤية وانقشع اللبس، وانفصل الذي يمشي على الأرض، عن الذي يسير على الورق صفحة 32 ).
ونحن نحلل حبكة النص وعلاقتها بالثيمة البوليسية، لا بد أن نشير أن أكبر الحقائق استقاها السارد من الذاكرة الجماعية، التي تبدأ من عهد جده، وتصل إليه، ثم تظهر مخطوطة والده التي تكشف له الكثير من الخبايا، إضافة لتوجيهات أمه الميتة، والتي لن تفهم كلماتها إلا لصدى للمسلمات والقناعات التي توصل إليها، دون أن ننسى أن الحقائق والوقائع والخطط المستقبلية للقضاء على المجرم، وكل الملابسات كانت تحدث على أزمنة أرض الواقع وفي أزمنة الكتابة أيضا. وثمة فقرات تعزز هذا اليقين : ( أغوص في تفاصيل سرده وسردي جازما أن الاختلاف بيننا يزيد من تعلقي به، ويجعلني أطرح عني كل انتقاد لأسلوبه، كي لا يقتل هذا الأب المغدور في التخييل، مرة أخرى، مثلما قتل في الواقع. ).. ( ومثلما قتلته روايته، سأجعل كتابي ينتقم من قاتله بدءا بتحديد هويته والتعرف عليه، ليس في الكتاب فقط بل في الواقع أيضا، وانتهاء بإلقاء القبض عليه في التخييل وفي الواقع. ).
سوف تتطور الأحداث، ويزداد يقين السارد، بأن كل تصوراته صحيحة، حتى سر اختفاء رواية أبيه من المكتبات، دون أن تتحدث عنها الصحف، سوف يكتشف في الصفحة 99 أنها قد سحبت من المكتبات عمدا، وأن ذلك سر اختفاءها.
خطة سمير للإيقاع بعدوه، اتبعت قانون الاقتراب ببطء، مع الاستعانة بصديقه كريم الذي حصل على بعض المعلومات من ابنة المخرج سكينة، ثم أقنع الأهالي، أنه جاء لإجراء حوار مع سمير باعتباره كاتبا، ذلك ما فتح شهية القاتل، لتلميع صورته كمخرج سينمائي، أثناء ذلك الحوار سوف يلاحظ كريم ارتباك القاتل، ويكشف عجزه عن سد ثغرات سيرته. وسواء نفعت هذه الخطط أم تأخر موعد تنفيذها، فإن سمير غير مستعجل، حتى لو تطلب تنفيذ الخطة شهورا، هذا ما يسمى بطول النفس. ويطابق قول المثل : الانقام طبق يؤكل باردا .
* الاحتمالات المؤجلة :
1 البعد الفلسفي للرواية :
( سؤال الذات والوجود والهوية )
في بعض تجليات أم سمير، وهي توجهه يحدث أن توحي له، بكلمات تلهمه:
( كلنا نسافر في المكان والزمان إلا النباتات، إذا لم تنقلها كائنات أخرى تظل عالقة في مكانها لا تسافر إلا في الزمن. في بيتنا ستجد غرفة أبيك، وفيها ستجده يكتب عقد الزواج، وقد لا تجده، فقد يكون ميتا هو الآخر. 12 )
الجميل في لعبة السرد عموما، وأقصد كل المسرودات والروايات والقصص، أنك وأنت تقرأ كلمات الشخوص، تعلم في نفس الوقت، أنها ليست سوى كلمات الكاتب، يجريها على لسان شخوصه، ومهما كانت هذه الشخصيات متطرفة مجنونة أو عاقلة حكيمة، فإنك ستعرف لأي أحاديثها تميل نفس الكاتب، وخلف من يختفي صوته الخاص، في الغالب، ستجد الجواب، وأنت تلاحق معاني النص، غاياته ورسائله، وأي الجمل تكررت بقصد الترسيخ، وأي جمل ذكرت تلميحا، ولسوف تجد بعد ذلك القدرة والشجاعة، أن تقول: هنا تكلم الكاتب. وحتى نبلغ ذلك القصد، سوف أكتفي الآن بملاحقة ما يسوق السارد نفسه إليه وما ينساق معه. ونصغي لهذا التوجيه من طرف الأم، وهي ميتة، وكيف أن هذا التوجيه، سيكون بمثابة مرشد للفكرة حين تشكلها في لا وعيه، إذ يبدو أن الأم والتي ليست سوى صدى لنفسه، تريد أن تزج به داخل متاهة، تختفي بين حدود الواقع وبرزخ الأرواح. فإن هو حاول أن يصنع لنفسه مكانا واقعيا، منظورا بالعين حتى لا يتوه، سوف يتأكد أنها تدفعه نحو مرآة، لأننا وأمام المرآة يمكننا أن نتساءل، عن انعكاسنا، الذي يشبهنا حد التطابق، إن كان حقيقيا، وحتى لو انتبهنا أنه ليس كذلك، سوف نتمسك به كما يتمسك الغريق بقشة، أو كما يتمسك التائه ببعض يقين، أو كما يمسك المحقق الجنائي بخيط افتراض.
حين تسأل الأم سميرا في الصفحة 13 :
( هل أنا حية أم ميتة ، يا بني ؟ )
يجيبها قائلا : ( انت حية في قلبي ، يا أمي ) هنا.. نكون قد أيقنا أن صوت الأم ليس سوى ارتدادا لصوت السارد، والذي هو أيضا وخارج مدار الحبكة، فكرة الكاتب نفسه عن الحياة والفهم.
بنفس الصيغ أيضا سوف يعلن الكاتب هذه الحقيقة، على لسان السارد، ليخبرنا أن الأمر ليس خاصا بالأم وحدها، بل كذلك الأب، ثم يتكرر السؤال، وتتشابه الإجابة في الصفحة 122 ( هل أنا حي أم ميت ، يا بني ؟ ) .. ( انت حي في قلبي ، يا أبي )
هي خطة التناظر، هو أسلوب التناظر، حيلة.. خدعة.. فن.. أو فلسفة التناظر، تجعل من الشخوص والوقائع والأمكنة، صدى بعضها البعض، ثم تدفعك لذلك الشعور القوي، أنها صدى فلسفة الكاتب.
في الصفحة 62 ، من فصل عنوانه : ضد الحر، سيتلقي السارد رجلا، ينعت أهله بصفة الموهوسين بالكتابة، وفي الفصل الآخر المسمى، ضد الصقيع، والذي يشبه الصدى أو الانعكاس أو الوجه المضاعف للحقيقة، سوف يتوقع السارد هذه المرة، ظهور امرأة، كاشفا أنه قد بلغ درجة من الوعي بعالمه، ثم يلتقي بها فعلا، لتعاد نفس الوقائع، لكن بصيغ مضادة، كما لو كانت حياة البشر على هذه الأرض، وتصرفاتهم انعكاس كوني كبير، وأن المسألة تتعلق بتكرار وتشابه، أكثر من كونها اشتباكا أو تقاطعا. ثم تتوالى الأمثلة :
عدد أصدقاء الوالد في القرية ثلاثة أشخاص وهم : لخويل لعميم، ولحبيب، عدد أصدقاء سمير في المدينة أيضا ثلاثة، وهم : حسن مصطفى وكريم.
خلال حديثه عن أصدقاء الأب يقول عنهم السارد : (،ثلاثي غريب عجيب ، يجمعهم ما يختلفون حوله، وغيرهم يفرقهم ما يتفقون عليه. الصفحة 54 )، هذه الفلسفة التي يسقطها عليهم، سوف نصادفها في الكثير من قصص وسرديات سعيد رضواني، مثلما سنصادف قربها الشديد من العلوم الفيزيائية وعلم الفلك والهندسة، فنعلم أنه كاتب لا يهمل العلم من أجل الأدب، وأن خطة التناظر السردي، هي في حقيقة أمرها، إحدى طرق كشف هذه الفلسفة، وذلك كي لا تقدم الأفكار الروائية الإبداعية في صيغ تقريرية، لأن الغاية الأولى من الأدب تحقيق متعة التواصل، وإبراز القيم الجمالية.
ثم نلاحظ أن الكاتب الذي تكلم عن أصدقاء الأب، سوف يمنح أصدقاء الإبن إذن التحدث بأنفسهم، وهم يشددون على أهمة الاستفادة في الكتابة، مما اكشفته العلماء عن خاصيات الإلكترون، وكيف أنه يظهر بمظهرين مختلفين، في حال وجود مراقبة ورصد، أو عدم وجودهما، مما فتح الباب أمام بعض الإحتمالات، التي تتبنى أفكارا أقرب إلى قصص الخيال العلمي، بمعنى أن الإلكترون يتمتع بذكاء خاص، أو أنه حذر أو محتال، أو أي سلوك من هذا النوع.
من قلب هذه الملابسات العلمية الصعبة، استوحى سعيد رضواني، كما سيفعل ذلك سمير السارد، فكرة وقوع نفس الحدث في مكانين مختفلين، مما يلزمنا نحن القراء بضرورة تقدير كاتب أديب، مجتهد يحاول تطوير الكتابة التي كانت تعتمد من قبل على الاستلهامات العاطفية، إلى تقاطع مع العلم وتسابق معه. ثم ينتقل بعد ذلك إلى ملاحقة وتأمل كل أشكال التناظر المتاح اكتشافها في عالمنا، بحيث يشكل التناظر تضادا أحيانا كحالتي القبح والطهارة، وما يعلي قيم الجمال، كحال العمران، والمباني الهندسية العريقة. وكيف أنها ستكون مادة إلهام للكتابة : ( أترك القاعة الساخنة مع نظيرتها الدافئة، متجها إلى قاعة الملابس، أقصد المصطبة وأجلس هناك لأتنشف بالمنشفة، وأنا غارق في تأمل هندسة هذا الحمام، المتناظرة قبابه، مثلما تتناظر أعمدة وأقواس ضيعة جدي، وفي الآن نفسه ، أفكر في كيفية عكس هذا الأشكال في عمل أدبي. 135 )
ومن فكرة دمج العالم في سطور الكتابة، مرورا بحبكة ذات أسلوب مرآوي، وصولا إلى معنى الوجود نفسه، وقسوة الزمن،
( تماثل بين المنظر الذي أضأته أمامي بالمصباح اليدوي، وبين ما قرأته في رواية والدي ، أيقظ شكوكي في أن موضوع روايته لا ينحصر، فقط، في الإشارة إلى قاتل إنسان، بل إلى قاتل أكبر، وما اعتماده على حبكة بوليسية إلا رغبة في استدراج القارئ إلى القاتل الأخطر : الزمن الذي يجهز على كل شيء 117.. )
وأنا أقرأ هذه الجمل، خيل لي أن الكاتب سعيد رضواني، يوشك أن يخرج من قلب النص، ويكسر الجدار الرابع الفاصل بيننا، لولا احترامه لشخوصه، وعلى رأسهم سارد الرواية، حيث يقول على لسانه : ( ثم أنظر لسردي.. أنا… ساردا.. مهووسا بالأفكار والأخيلة وتقنيات السرد – 30 ) هذا سوف يدفعنا للتساؤل مباشرة عن علاقة النص الروائي بالكاتب، ولأن سعيد رضواني يعيش في قلب الظاهرة الثقافية خاصة السردية منها، فهو لن يخلع عنه تهمة تقاطع المتخيل الروائي بالسرد، بل سيعززها من جانبها الإيجابي، وهو يكتب عن بطل يشبهه، أو أنه يشبه بطله.
حتى وهو يدنو من الأنثى ويغرم بها، لا ينسى هذا المهووس بالكتابة، الذي نراه مرة ساردا اسمه سمير، ومرة كاتبا اسمه سعيد، سوف ينظر إليها كما لو كانت جزءا من الكتابة، فإن لم تكن، فلسوف يسحبها ويجرها إلى قلب النص، بغض النظر عن رغبته الخاصة، إن كان يريد أن يمنحها الخلود، أم يسجنها في الأدب ردا لاعتبار ما يرتبط بعلاقة سمير وليلى المتوترة، ( لم اكن في حاجة إلى المال، ولكني كنت في حاجة إلى الاقتراب من ليلى، التي كنت أحتاج إلى تأملها كثيرا كي أطعم بها بعض فصول كتابي. 70 )، هذه الفقرة خاصة في الرواية، جعلتني أضحك، وأعترف حقيقة ألا إبداع دون جنون. ثم رأيت الكاتب بعد ذلك يحمل جنونه إلى الشارع، فيخبرنا سمير، أن التزامه بخطة أسلوب كشف التناظر، والذي هو خطة الكتابة أيضا، هو مرة أخرى صدى حدود واشتباكات العالم والناس. وذاك أنهم أصداء لبعضهم البعض، مثل هذه الملاحقات التأملية، سوف تبدو أحيانا خلال رصد المعيش اليومي مضحكة، وذلك ما يلمح له عند تواجده داخل المبنى الإداري : ( ضحكت لأن الذي يدخل يبدو مثل الذي يخرج ، والذي يخرج يبدو مثل الذي يدخل ، 76 ).
وما دام الكاتب قد بلغ هذه الدرجة من قراءة العالم بأحرف الكتابة، فالراجح أنه سوف يورد تلميحا عمن سبقوه للكتابة، مستعملا من أجل ذلك شخص الوالد، كأنه كاتب يلحق نسبه الإبداعي، بجيل الرواد من الكتاب. الذين لا ينتقص من قدرهم، فكل كاتب عظيم سابق، هو بمثابة أب روحي لكاتب لاحق: ( أعلم الآن أن والدي أصر على كتابة رواية تنقل أحداثها ومشاهدها من الواقع، 147 ) .
ثم يبرز أين يتجلى الفرق وأين يكمن التجديد : ( لا أدري لم شعرت هذا المساء، أن شكل السرد في كتابي قد تواطأ مع مضمونه لينعكس أمامي ، وحولي، كل ما يمكن أن يذكرني بالوزر الذي اخترت حمله 187 ) .
من جهة هو إبداع، ومن جهة أخرى، يشبه حمل وزر ثقيل، إشارة للتعب والجهد المبدول من أجل الرقي بالكتابة. حول هذا الوزر يهمس لنا سعيد رضواني، أنه نابع من قناعته أن الكاتب الحقيقي، أو المثالي، لا يضع نصب عينيه الكتاب الآخرين، ولا يعتبر نفسه مشاركا معهم، في مضمار سباق أو منافسة. فهو مكتف بقناعاته، معرض عن خصومات الأدباء، ومزايداتهم على بعضهم.
أسفل الصفحة 16 سوف نقرأ قول أم السارد: ( إن وجدت أباك مستغرقا في عقد الزواج استعجله في أمر إتمامه، إنه يتكاسل أحيانا، وأحيانا أخرى يكثر من الكتابة والمحو وإعادة الكتابة . ) يخبر الإبن الأب بما أخبرته به الأم ، فيخبرنا الإبن قائلا : (كثيرا ما كان يردد عندما أحثه على الإسراع : أنا أكتب ولا أبارز أحدا.. 17 ) هذا ما سوف نستنتجه من خلال تماهينا مع نظرية التماهي بين الكاتب والسارد. دون أن نغفل أنها إشارة ألحقت بالأب وليس بالإبن، وذلك ما يبين أن سعيدا الكاتب، منصف في أحكامه، فهو يرى الكاتب الجيد جيدا، وإن كان ينتمي إلى عهد كلاسيكي.
ثم تتسع رؤية الكاتب، في جموح فلسفي نادر، ورغبة خلاقة في تغيير الأدب للواقع، وذلك عبر تهديم كل رموز الثقافات الدخيلة، وإعادة بناء مجتمع يهتم بقيمه ويعلي شأن إرثه، وينتصر لهويته، من أجل ذلك سوف يقوم السارد بتطبيق فلسفة كتابته، أو فلسفة الكاتب، على أرض واقعه الروائي، وذلك بإزالة الأحرف الأجنبية، من ضيعة جده، مع وجوب إعلانه عن ذريعته الأخلاقية وذلك في الصفحتين 106 – 107 حيث يقول : ( ما أفعله الآن كنت سأشجع عليه أي أجنبي يرى أحرف لغتنا ، أو أي لغة ، تندس بين أحرف لغة بلده )..
ثم ينقلنا لحالة من الوعي، يلزمنا عندها أن نعي أن عمليتي التهديم والبناء، تشبهان الكتابة ( حرف بعد جدار ، وجدار بعد حرف، فسارية بعد بضعة أحرف، إلى أن وجدتني قد تهت في سراديب اللغة ودهاليز الأبنية. ) بعد إتمام التهديم يقول الكاتب ( كأن الحياة عادت إلى العصر الشفهي، والقلعة إلى ما قبل التاريخ. 108 ).. ثم يبرز بعض من أضرار التغيير الجانبية، وما تحدث من خسائر، مستعملا من أجل ذلك رمزية أفراخ الحمام الهالكة مع تسطيره جملة حاسمة وقوية، حيث يقول : ( وكأن إعادة كتابة التاريخ، لا بد لها في السلم كما في الحرب، من ضحايا ودماء. )
هذه الوقائع سوف تحدث تزامنا مع اعتقاده الراسخ، بأن الزعم بامتلاك اليقين، هو ما قد يؤدي في النهاية للشك في الذات والهوية. بينما طريق اليقين تبدأ من الشك. وفي هذه الفقرة تتجلى بوضوح هذه الرؤية ( من المطلع يتضح لي الفرق، يستهل، هو ، روايته بكلمة ( أذكر ) وأستهل ، أنا ، كتابي ب ( لا أذكر ) 109 ).
بعد التهديم، يشير أن هذه الأرض ستصبح ملكه ثقافيا، بعدما كان يمتلكها بشكل مادي، وكأنه امتلاك ناقص، نافرا من هيمنة الثقافات الدخيلة على أرضه، ( كل شبر من هذه الأرض التي ستصبح ملكه، وعليها سيمارس كتابة من نوع آخر، كتابة مختلفة، كتابة مملكة صغيرة بالطوب والحجر بدل الحروف والكلمات. 110 ).
ولأننا نقرأ رواية كما سبق الذكر فصولها الثانية تناظر فصولها الأولى وتتمم معانيها،
فليس من الجيد أن نغفل عن ذكر أسباب هذا التفكير الفلسفي العظيم، وما الذي ولد لديه هذه القناعات. ثم نقول أن قصة الرفض والوعي، بدأت من خلال إعجاب السارد بالخط العربي الأصيل، ومظاهر الثقافة العربية الإسلامية : ( مرارا وقفت أمام لوحات تميتها الحروف، وقرأت عشرات القصائد التي تتغنى بهذه الرموز العربية.38 ).
ودون أن يتعالى على إرث الجد، يعظم الحفيد هذا الإرث، مشيرا إلى قيمته الفنية والجمالية، رغم ما فيه من ملابسات، تخص الهوية. ( أما تحفة جدي، فكانت ومازالت وستظل تسافر بي خارج الزمن. 39 ) فهي بذلك باذخة شكلا، خرافية الأثر. ثم ما يلبث أن يتجرأ ويعلن صراحة أن جده أخطأ، حين تنازل لهؤلاء الدخلاء، وسمح لنفسه أن يتماهى مع ثقافتهم :
( ورط جدي نفسه في تماه شبه مطلق مع نمط حياة الفرنسيين. 39 )
من هناك انبثقت فكرة الإصلاح.
2 – المدخل العقلاني :
رواية أبراج من ورق، وإن كانت جامحة، وذات أسلوب عجائبي، ولغة شاعرية، سهلة ومعقدة في الآن نفسه، فإنها لم تخلو من ذلك الطرح الواقعي، الصادق الرؤية والحكم، والذي لا يحمل الأشياء والناس فوق طاقتها، ولا يفهم الأحداث خارج سيقاتها التاريخية. وظروف وقوعها، بل يرى وجوب تقبلها بما هي عليه. من ضمن هذه الأمور التي لمحنا لها هنا، فكرة تمرده على الأنماط السردية السابقة، واجتهاده لطرح بدائل لها، ونحن نعرض وجهة النظر هذه والتي تتصف بالعقلانية الصرفة، لكن دون الانفصال عن أسلوبه في الكتابة، فذلك مكسب ليس من اللائق التنازل عليه. سوف يشير بجدية، إلى الإكراهات التي تعرض لها بعض كتاب المراحل السابقة، مقارنة مع هذه المرحلة المتصفة بالانفتاح، حيث خفت وطأة الرقابات السياسية، والدينية والاجتماعية على الكتابة عموما.
ومثالا على هذا نقرأ في الصفحة 116، حديثا للإبن عن أبيه حيث يقول : ( ويبدو أنه أراد أن يكتب شيئا آخر ،منعه منه الخوف ) مثل هذه الجملة العملاقة التي تضمنتها رواية أبراج من ورق هي ما يعطي النص الروائي قوة إضافية ويمنحه إذن التسلل للقلوب، ثم دخول عقول القراء دخولا واضحا. هذا فيما يخص العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر، أما عقلانية المشاهد الذاتية، التي كان من الضرروي حضورها في النص، حتى لا تظل كل وقائع الرواية تنحو ذلك المنحى الملتبس، طوال المزج بين شخصين، ولذلك سوف يحاول الكاتب تنبيهنا أن هذا الحدث حقيقي مائة بالمائة، حيث يقول في الصفحة 91 ، متحدثا عن سقوطه في القبو وشعوره بالألم : ( أكيد أن أحدنا قد تجول بين الخرائب، ويمكن أن نكون معا فعلنا ذلك. لكنني متأكد أني وحدي من سقط على حين غفلة في قبو ) ثم يعزز هذا التأكد من واقعية السقوط وحده دون شبيهه الأب: فيضيف : ( كثيرة هي الأشياء التي يمكن أن تلتبس علي، وتشوش على ذهني إلا هذا السقوط. ) وحالة الوعي النبيه، لم تكن وليدة الصفحات الأخيرة من الرواية، فحتى لو عدنا إلى البداية عند الصفحة
15 ، سوف نرى كيف يرفض الكاتب أن تمتزج الخرافة بالواقع، ومن مثل هذا الرفض قلت سابقا، أن رواية أبراج من ورق لا تنتمي لرواية الواقعية السحرية :
( كتب الأب رواية تتخذ هيأتها هيئة ضيعة الجد، رواية تسببت في مقلته كما أعتقد، أو انتحاره كما يشاع، رواية يشاع حولها ضرب من خرافات تدعي أن ثمة طلاسم، في سطورها، تخرج زوجته من مدينة الأموات وتدفع بها حية إلى القرية. ).
3 – المنضور الأخلاقي :
الرواية كجنس إبداعي، يرجح أنها استقلت بذاتها وخواصها، عن غيرها من أجناس الإبداع والتعبير السردية الأخرى، في أوروبا القرن الثامن عشر، ثم أدت ترجمتها إلى العربية، إلى ظهورها وانتشارها في بلدان العالم العربي، وذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ويعتبر عصر الروائي المصري، نجيب محفوظ، ومجايليه عصر تأسيس رواية عربية مكتملة المعالم، بينما يرى بعض الباحثين، أن الرواية العالمية أزلية بحقب، وأن العربية قديمة بقرون، والظاهر أن الكتاب الذين يجتهدون في مساحة التجريب، على وشك انجاز نصوص روائية، تشبه الملاحم القديمة، خاصة مع ما يسمى بالرواية الفانتازية، مما يلغي الحدود بين عصور الأدب بشكل غير مسبوق.
وما دمنا نرى أنه لا حسم ولا جزم ولا قول بالإطلاق، حول النشأة والتشكل والتطور والاتفاق فيما يخص الرواية، وهذا النوع من تضارب الآراء وتضاد واختلاف المصادر، لا يدل على ضبابية تاريخ الرواية، فهو يكاد يكون صفة مشتركة بين عدد كبير من أجناس الإبداع والفكر والأثر الانساني عموما. يكفينا أيضا ذلك التعريف المتداول لماهيتها، والقول بأن الرواية، نص سردي قصصي يتميز بالتعقيد والعمق، وتعدد الشخوص، كما أنها تعتبر نصا متباين الطول، فثمة روايات صدرت في مجلدات، هناك أيضا روايات كتبت بين خمسين صفحة ومائة صفحة. كثيرون يفضلون تحديد مفهوم الرواية وشكلها، بقياس امتداد وقائعها خلال زمن مطول، مع تعدد الأصوات والأماكن، بينما يمكن لرواية تجريبية ما، أن تتحدى هذه السنن، ولعل الغاية من مقالتي، ليس الدخول في هذه الملابسات، ولا إعطاء تعريفات نهائية، لأن انزلاقا من هذا النوع، من شأنه أن ينأى بالمقالة عن غايتها، لكن لابد من الإشارة أن مثل هذه الوقفات ضرورية لتسلسل نسق الخطاب، وذاك أني أود التحدث عن كلمة رواية في التراث العربي الإسلامي، وكيف دلت اصطلاحا، على رواية الحديث، والسنة النبوية الشريفة، وكيف بدأت بنقل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، شفاهيا، وذلك عن طريق الرواة من الصحابة والتابعين. لتبدأ خلال القرن الهجري الثاني، مهمة جمعها وتدوينها كتابة.
تلك الرواية أهم شروطها اتصاف الرواي بالثقة وصدق الحديث، تحقيقا لصحة الخبر، مع وجوب إسقاط شرعية وصلاحية الحديث، في حال وجود الاشتباه به والتشكيك في سنده، أو اتصاله بالكذب في المتن أو ابطال سيرة الرواي، أو أن يكون مفرد الإسناد، أو غريب اللفظ، أو أن يمزج الخبر بالتخييل أوالوضع أو التدليس أو اللامعقول، مما يخالف النهج القويم، فهي بهذا رواية ترفض كل ما تأتي به المخيلة، مثلما أسقط القرآن الكريم الموثوقية عن كل ما يتصل بالأسطورة، ملحقا الموثوقية بالقصص، فالقرآن يقرن القصة بصحة خبرها، مع ما تحمله من وعظ وإرشاد.
بينما الرواية الأدبية، التي لا تفيد بوعظ ولا إرشاد، تعتمد على المخيلة، وتترفع عن تهمة القص التي تحرمها ميزة العمق، لكنها بالمقابل تتماهى وتنسجم مع الرواية الشفهية، دون أن تضع نفسها موضع الفصل بين الواقع والخيال، الصدق والكذب، الجد والهزل، فالرواية في أصلها كوميديا، أكثر من انحيازها للتراجيديا، وأحيانا تشبه الملهاة المسرحية، ولها ارتباط وثيق بالثقافة الشعبية، لذلك أكد عدد من المنظرين، والمبدعين وجوب كتابتها بلغة يفمهما العموم. بينما ارتأى آخرون أن لغة نخوبية تتسم بالتعقيد، كفيلة بمنح الرواية بعدا ثفافيا أسمى،
ثم كان ذلك التداخل والتمازج بين أدب السيرة الذاتية وأدب الرحلة وبعض أنواع الفكر والعلوم مع الرواية، حتى أن عددا لا بأس به من الروايات، لم تكن سوى سيرة ذاتية في قالب روائي. وقد كثر الميل لهذا النوع تحديدا، بسبب عدم خضوع الكتابة الروائية لسلطة أخلاق ثابتة، أو أن يشترط أن تكون وقائعها، حتى التاريخية منها مدعومة بوثائق، كما أنها مجال تخييل مفتوح تتيح للكاتب مساحة من الحرية، لكي يمارس ما يحتاج إليه من تمويه، وتغيير في الأسماء والأماكن والمصائر، وإن كان يحاكي سيرته بشكل ظاهر أو خفي.
والحاصل أن كل هذه الأفكار والنظريات تتحاور وتتجاور، في مكتبة الأدب الروائي العالمي. وهي كلها مجتمعة تمثل ملامح الرواية، والتي قد تبدو في بعض أنواعها والنصوص المتداولة، تعادل ذاتها، بحيث تكون الغاية هي الوسيلة، لأنه وعلى ما يبدو حدث تراكم كمي روائي، نعتقد أن بعض أنواعه، قصرت عن آداء رسالتها، الفنية أو التواصلية، خاصة حين تكتب رواية ما، فقط من أجل كتابة رواية.
بعد تقديم هذه الملاحظات، نرى أن أخلاق الكتابة الروائية، ذات أبعاد مختلفة.
خطاب روائي أخلاقي ( يزعم المثالية ) ويعارض أخلاق المجتمع، وهو يتهمه بالانسلاخ عن أخلاقه.
خطاب روائي ( يطالب بالتحرر من الأخلاق )
وخطاب روائي، يعامل السلوك الأخلاقي المجتمعي بنوع من اللطف، يتسم بلباقة الطرح، ونبذ العنف. وهو نفسه المنحى المهادن الذي ينطبع على رؤية الكاتب سعيد رضواني السردية، والذي لا يقحم نفسه غالبا في هذه المشاحنات، اللهم أن يسوق أمثلة، يبين من خلالها وجهة نظره،
في رواية : أبراج من ورق ، يحمل السارد محبة وتعظيما لجده، رغم ما له عليه من مؤاخذات، لكنه يختار أسلوب الحكمة، فيقر بما يراه صوابا، مثلما يعترض على ما ينزع عنه صفة الصواب.
في الصفحة 113 ، من الرواية، يرد الجد على الفقيه، الذي جاء ليبشره بحفظ ابنه للقرآن الكريم. وذلك عندما قال الفقيه للجد : ( أنظر إلى الكلمات التي شكلها التواء جذوع الأشجار ، اقرأ : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ضحك الأ ب ثم قال : ( لا يحتاج الله إالى الإعلان عن نفسه هكذا، لأنه يتجلى في كل شيء) ثم يضيف أن رجلا أخبره أن جاره الفرنسي كريش قال أن ( كل شجرة من أشجار الغابة تشكل صليبا )، هذه الفقرة الهامة في الرواية، والتي وقعت زمن الهيمنة الفرنسية على المغرب، تشكل تلاحما مع تقنية التناظر الكلي في الرواية، وهو تناظر يتعلق بالفكر والهوية والدين والأخلاق.
وقد أسهم في إبرازه تنوع شخوص الرواية، بين طيب وشرير، صادق ومخادع، قديم وجديد. ولأن سعيد رضواني كما أشرنا في المدخل الخاص بفلسفة الرواية، لا يكتفي بالإشارة للخلل والعطب، في أي منظومة دون أن يقترح حلولا.
بعد الفض في هذا الخلاف في وجهات النظر، التي تمزج الدين بالخرافة، سواء من قبل المسلمين أوالنصارى. ينبهنا سعيد رضواني، إلى أن ما يعبر حقيقة عن الدين الصحيح، هي الأخلاق، وكرم الأخلاق يتجلى في الأخذ بزمام المبادرة، مثلما حدث في زمن الجد، الذي قطع تلك الأشجار التي تسبب الخلاف وتخلق الخرافات، وهي أقوى رمزية تضمنتها الرواية، وأعمق رسالة أيضا حيث نقرأ في الصفحة 114.. الآتي : ( في المساء أمر باقتلاع أشجار الغابة، وبناء بيوت لبعض الأسر التي لا تجد مأوى. ). ثم يتضح لنا أن الإنشغال بدل ذلك ، ببناء منازل للأسر التي لا تملك منازلا، أعظم من كل ذلك وأبقى أثرا.
الخاتمة :
شكرا للكاتب الفذ الأديب الأستاذ سعيد رضواني، على ما قدمه لنا من إسهام ، أدبي عظيم ، كان لنا ملهما . وشكرا لأستاذي الكبير الناقد الذرائعي، عبد الرحمن الصوفي ، الذي أعانني بتوجيهاته الكربمة .