لماذا ستصبح غزة رمزاً للنهضة العربية الجديدة، وكيف ستساهم في شفاء الجسد العربي المتضرر من الفساد والتبعية؟

خالد شحام
قبل سنوات عديدة ، وفي ممرات العمر الشائكة كنت أؤمن ايمانا جازما بأن الغد سيكون أفضل ، كلما انطوت سنةٌ من هذه النفس كنت أحدثها وأمنحها الأمل بأن السنة التالية ستكون أكثر حُسنا مما مضى ، ستمنحنا الحياةُ الشعورَ بالرضى وستكون العدالة العالمية أكثر حضورا ووفرة والسلام والأمان سيعمان العالم الصاعد نحو الغد.
كنت أتخيل في لحظة ما وعقب اغتصاب بغداد بأن الصهيوني جورج بوش الإبن هو الرئيس الأكثر انحطاطا وغباءا في سلسلة الرئاسة الأمريكية ولن يمكن أن يتكرر مثله ، كنت أتصور ان الرئيس الراحل السادات هو أسوء نموذج قدمه الحكم العربي ، تبين أنني على خطأ وأننا لم نشهد الأسوء بعد ، كنت أعتقد بأن هذا العالم يحفظ في ذاكرته قوىً عالمية وثورية ستقف ضد الإمبريالية الأمريكية وترد عليها الصاع صاعين ، وتبين بأنني على خطأ وبأن قواعد الثورات القومية تغيرت وتدجنت ولم تعد بنفس الروح السابقة ، كنت أؤمن بأن الانفتاح العلمي المتسارع سيجعل أيام هذا العالم أكثر أمانا ورفاها أخلاقيا وبأن الإعلام والصحافة والكتب ستصبح أكثر مصداقية ونزاهة لكنني الان أتحسر على كل هذه الظنون والتي جاء عكسها تماما ، لم أكن اتخيل أبدا بأن المستقبل يحمل في طياته هذه المآسي المروعة ، لم أكن لأحزر بأن المنطقة العربية ستغرق في الدماء ويطالها الشر من كل حدب وصوب ، وأن البشرية ستذهب بساقيها إلى حتفها وشقائها الموعود.
النتيجة الهرمية التراكمية التي وصلنا إليها هي أننا وصلنا إلى عالم اليوم ، وعالم اليوم أقل ما يمكن وصفه بأنه فقد علاقته مع الله بعدما خفتت الروح وتم تحييد العقل ، فقد كل روابطه الحقيقية مع السماء وما تنزلت به الرسل ، عالم يؤمن بإله جديد اسمه التكنولوجيا ويعيش هذا العالم في محراب النعيم والرفاه والتوفر والتنوع والسباق نحو الرفاهية التي أذابت الفطرة الحقيقية ودفنتها بين الملذات والطعام والشراب والترفيه ووسائط التواصل الاجتماعي حتى نسي الناس الأصول وصدقوا السراب ، هذا التغير الذي نتكلم عنه لم يأت بين ليلةٍ وضحاها ولا بين سنةٍ وما تلاها ، بل هو تغيرٌ بطيء يمشي مثل الزحافات الجليدية تحت حراسة الملذات و حراب الطمع الذي يكبر كل يوم في ضمير البشرية ، هذا التغير أيضا لم يستثن أحدا ، لا عربا ولا غير عرب ، لقد حدثت نقلة نوعية وطفرة سيكولوجية خطيرة جدا تمثل قناعات ظاهرة ومبطنة بأننا أقوى من أي شيء في الكون فحدثت القطيعة مع السماء ومع النصوص الدينية المقدسة وأحدث البشر فكرةً فلسفية خطيرة عندما أقنعوا أنفسهم بأنهم قادرون أن يكونوا آلهة ويحكموا الأرض كما يشاؤون ، وبهذا فالديانة الحقيقية التي تعم معظم الأرض اليوم هي ديانة خفية المعالم اسمها ديانة الرفاه والمتاع مشتركة الروح يؤمن بها معظم البشر عمادها هو القطيعة مع الله والايمان بالآلة والتعلق المطلق بالنعيم .
النتيجة المحتومة والمصيرية لانقطاع العلاقة مع الله هي حلول الخوف ، الخوف المجهول المعالم والحجم والآفاق الذي تعيشه البشرية ، لهذا السبب يمكن لكل واحد منا ، انا وانت أيها القارىء أن نعدد أنواعا من المخاوف التي نعيشها اليوم والتي تبدو غامضة الأسباب والمعالم ، نحن الان نعيش خوفا من هذه الأنظمة السياسية التي تحكم عالم الغرب وعالم العرب ولا يمكن الشعور معها بأي نوع من الاطمئان او الثقة ، خوف آخر من هذه التقنيات والذكاء الصناعي وما يمكن أن يقودنا إليه أو نقود انفسنا إليه ، خوف من هذا الكم الهائل من صراعات البشرية وهذا العصر ونذر أزماتٍ متعلقة بالمناخ ونفاد الغذاء والماء والموارد ، خوف من ذواتنا وأبنائنا ومجتمعاتنا ، خوفٌ من نظم الأسلحة المهلكة التي تملأ هذا العالم ويتسابق الكل نحو امتلاكها وجنون في التسلح بما لا يمكن تخيل وجوده ، لقد أصبح القرن الحادي والعشرين أكثر مساحة تعيش فيها البشرية فتوحات علمية وتقنية هائلة لكنها مساحة محفوفة بالخوف والخطر في كل مكان أيضا .
في ظل عالم بهكذا مواصفات تصبح مسألة السير نحو النهاية شيئا محتوما ، أفلام الخيال العلمي التي تتنبأ بعالم محطمٍ منكوبٍ بضربة قاضية ليست خيالا ولا فرضيات تسلية ، إنها حقائق مؤجلة تؤكد بأن الخوف والتوتر هما شعار عالم اليوم الذي نعيشه ، لا يوجد دليل على صحة ما نقول إلا ما يجري في فلسطين وغزة تحديدا ، لكن السؤال هنـا من هي الفئة التي تقود هذا العالم إلى هلاكه ؟
في وسط الأسبوع الماضي نشرت الكاتبة الأسترالية كايتلين جونستون مقالةً حول الحرب في غزة ذكرت فيها باختصار بأن الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني داخل غزة لم تعد مجرد حرب ، بل هي تهديد عالمي للسلم والأمان لكل سكان هذا الكوكب ، داعية إلى إعادة النظر الجذري في وجود (الدولة الاسرائيلية ) قانونيا وسياسيا إذا كان هذا هو الثمن لضمان بقاء السلام العالمي ، لقد أشارت السيدة جونستون إلى استطلاع مهم أجرته مؤسسة صهيونية داخلية يبين أن 82% من ( الشعب الاسرائيلي ) يؤيدون تطهيرا عرقيا كاملا في غزة ، وأن معظم هؤلاء يؤمنون بسريان مفعول الأمر الآلهي بالإبادة لغير اليهود حتى يومنا هذا ،هذه النبرة الفكرية الصاعدة المتأخرة في حقيقة هذا الكيان وفهم خطورته على العالم هي بداية الغيث وإجابة السؤال الذي يعرف الكل إجابته ولو متأخرا ، ومن المؤكد بما نراه ونراقبه كل يوم فلسنا بحاجة لدليل بأن هذا (المجتمع ) هو شريك متكامل الأركان مع جيش المخربين والمجرمين الذي يمارس أعمال القتل والإبادة كل يوم في غزة ، كل هذه المدخلات وغيرها الكثير تؤكد لنا جميعا بأن هذه الفئة البشرية وما تحمله من فيروس الفكر التلمودي تمثل اليوم خلاصة الانحطاط والوساخة الوجودية التي وصلت اليها البشرية في كفرها واجرامها ونكرانها للدين والفطرة والحرب على الله ، هؤلاء هم من يتوج ذروة الفعل الشيطاني والردة البشرية على الأرض .
مع متابعتنا لمجريات الأسبوع الماضي في غزة دخلنا في فصل جديد من إفرازات الحقد والكره والإجرام اليهودي والذي تمثل في أكذوبة ديكورية الشكل اسمها مؤسسة الإغاثة الإنسانية في غزة والتي تمثل جانبا من نفس سيناريو الخداع المتكرر ، هذه الجريمة الجديدة التي حققت مرة أخرى إساءةً بالغة للكيان الصهيوني وليس العكس ، كان المقصود منها جملةً من الأعمال الحاقدة والإجرامية لا تتوقف عند تأكيد معاملة الفلسطينين كالحيوانات ، ولا تتوقف عند خطة التهجير التي لا نستبعد أنها مرتبة سلفا مع الجانب الثاني ، ولا تتوقف عند إشهار غزة على أنها قضية محمية خام في داخلها قطعان من الجماعات البدائية تطارد بشراسة عز نظيرها وراء كيس دقيق أو كرتونة معلبات أو حفنة من سكر ، هذا المشهد الذي يدين حلف الشيطان ويدين الهمجية الصهيونية والأمريكية ، ويدين الأنظمة العربية التي وصلت حضيض بئر الضعف والهوان والمذلة ، ويدين كل فرد عربي مسلم أو مسيحي ، لم يحقق شيئا من غاياته لأن العالم بأكمله يدرك الحقيقة حتى لو لم يجاهر بها ولأن سكان غزة أفشلوا كامل الصورة بعفوية بحتة .
لم أكن أشعر طيلة سنوات حياتي بالرهبة والخوف من المجهول إلا حينما أعلن العدو في بداية عدوانه الإجرامي على غزة الاجتياح البري ، دب الخوف في روحي من المصير الذي يمكن أن تلاقيه غزة ورموز المقاومة التي نعيش بها ونتعلق بصمودها ، فشل الاجتياح البري وصمدت غزة ، ثم جاءت جحافل المؤامرات تباعا وسقطت قلوبنا عندما أعلنوا عن إغراق الأنفاق ثم فكرة الميناء العائم ، وسقطت ثالثة عندما لعبوا لعبة التهجير وترحيل أهلنا الصادمين ورابعة عندما بدأت ضغوط (الوسطاء) على المقاومة واللعب من الخلف بقوة ، وقلنا إلى متى وكم سوف تتحمل هذه المقاومة المعزولة المحاصرة ، لم نعد بعد ذلك نحصي عدد مرات الخوف لأن المؤامرات اليومية أصبحت أكثر من أن تحصى ، خفقت قلوبنا بشدة مرة أخرى عندما اعلنوا عن اغتيال السيد نصر الله ومرة أخرى عندما استشهد السنوار وتوالت أسهم الخوف في منحنيات الصعود والهبوط ، لكن غزة صمدت وتمكن رجال المقاومة من صناعة معجزة العصر الحديث حيث لا يمكن لأحد أن يتخيل أو يتصور ، تَشَرب ترياق غزة المضاد للخوف الذي صنعته المقاومة الفلسطينية في وعينا والفطرة المتبقية في داخلنا ، تغلغلت غزة في كل خلية وعي وأصيبت الروح بالمناعة ، وأنا اليوم ومثلكم تحولت كل محطات خوفي إلى ايمان مطلق المعالم بأن هزيمة غزة أصبحت خلفنا تماما ، لقد أصبحت غزة الرئة التي نتنفس بها الهواء وأصبح اليمن الرئة الثانية ، النصر الذي حققه 7 أكتوبر محجوز المقعد في المستقبل مهما كانت النتائج ، الشيء الذي لم يكن في الحسبان أن هذه القطعة الصغيرة من فلسطين تربى فيها جيل خارج عن كل حسابات هذا العالم ، جيل صنعته سنوات الغفلة والحصار ، استقى الطريق القويم واستعاد روح العروبة والإسلام والصحابة الجدد والمؤمنين الذين لم نسمع عنهم سوى في قصص التاريخ ، هذه الوصفة الفريدة هي التي كسرت آلهة الذكاء الصناعي وتحدت جبروت الفولاذ والنار والدخان ومزيج الجوع والعطش والحر والبرد والمرض والأوبئة الذي أفرزه احط خلق الله ودعاة الشر والأذى ، نعم سادتي هذه هي معجزة غزة التي لم يفهمها أحد بعد بالقدر الصحيح وتحتاج دراسات محدثة ومستفيضة لفهمها ،إنها الدليل على صدق وقوة الايمان وأهمية التمسك بالجذور الأساسية لهويتنا وثقافتنا العربية الإسلامية بعيدا عن التزييف والجماعات والتحزبات .
و في ختام هذه الأسطورة ثمـــة عودة نحو الذاكرة العميقة إلى ظلال كتاب ” شروط النهضة ” للمفكر العربي مالك بن نبي ، الذي أشار في فحوى أفكاره بأن حَمَلة الصورة المشرقة من شعوب العرب المسلمين يمثلون المنتوج الثقافي المباشر للموجة الأولى من تأثير رجال الرسالة الإسلامية والتي توقفت بوفاة عمر بن الخطاب ( رجال الفطرة ) كما أسماهم بن نبي ، ولم تكن الموجات التالية بقادرة على خلق التأثير الأكثر أثرا بسبب عوامل الفتن والتناحر والمؤامرات والانقلاب نحو الغرائز والتنازل عن الروح والعقل ، لقد توقف تأثير الهالة الإسلامية الأقوى برحيل رجال الفطرة أو رجال الموجة الأولى ، لكنني اليوم أقول لكم بأن ما يجري في غزة يقدم إكمالا لرؤية مالك بن نبي ويقدم الدفعة الجديدة لعجلة الحضارة العربية الإسلامية والتي شاءت الأقدار أن تكون بين يدي غزة ، بين يدي هؤلاء الرجال والنساء والأطفال والمقاتلين الذين قدموا ما نعجز عن فهمه حتى الان ، إنهم أسماء الدرجات العالية.
هؤلاء الناس الذين قدموا نموذجا فـذا في التضحية والصمود والثبات على المبدأ هم الصحابة الجدد ورجال الفطرة الجدد الذين أشار إليهم بن نبي ، كلما استمعت إلى مقطع مصور لفلسطيني من غزة لا أكاد أصدق ما أسمع من ثبات وتكامل ايماني رغما عن كل عوامل الكفر والخروج عن العقل والروح والطبيعة التي يدفع بها اعداء الحياة داخل غزة ، نحن نعاين ونعايش النموذج الإنساني الفذ الذي اشتغلت فيه قوة الروح ثم قوة العقل وتهاوت قوة الغريزة التي اهلكت كل الشعوب الأخرى التي تعيش في مستنقع الحضارة الغربية بعلمها أو بدونه .
هل تعرفون سبب صلابة النموذج في غزة واحتماله لما لا يحتمل ؟ إنه الثبات على النهج وعلى المبدأ الأخلاقي الإسلامي المستقى مباشرة من القرآن الكريم والذي تمكنت المقاومة الفلسطينية من تكريسه كنهج تربية في مجتمع صغير طيلة سنوات الحصار الذي انقلب سحره على الساحر ، وهل تعرفون سبب شراسة وكثافة النار على غزة ؟ لأنها تبلورت كنموذج خطير جدا مضاد للظاهرة الامبريالية والاستعمارية بكل مشتقاتها الثقافية والفكرية والسلوكية والعسكرية ويحظر تماما نشره، نموذج غزة ومجتمعها هو الحاضنة الطبيعية البسيطة والعادية لإعادة نهضة هذه الأمة بأكملها تربية ونهجا وصناعة وفكرا تأسيسيا لكل شيء ، إنها الدواء المفقود لبلاد العرب المبتلاة بالفساد وحراس الاستعمار الذين يتأرجحون للسقوط بين اللحظة وضحاها ويقدمون أقصى ما لديهم للبقاء والتشبث وما هم بباقين .
اليوم ومرة أخرى يعود الإطمئنان من جديد بأن الغد سيكون أفضل رغما عن كل القتل والتدمير ومصادرة الأمل ، أبشركم جميعا بأن عصر العرب الشرفاء سيعود من جديد ، و روح الإسلام الحق القائم على النزاهة والعدل والإحسان والرحمة دون طوائف ولا تحزبات ولا تنظيمات باطنية ولا حركات مفبركة مصنعة على أيدي الاستخبارات العربية والأمريكية سيعود ليغير هذا العالم ، غزة ستكون نواة هذا الحدث الأكبر ، اهل غزة هم رسل المرحلة بما صبروا واحتسبوا وعلمونا جميعا أقوى وأعمق معاني الإنسانية والتضحية والافتداء والصبر على كل أشكال الألم التي صنعها أعداء الحياة والإنسان ، طوبى لكم يا اهل غزة ، لعمري أنكم آية الله المعجزة في زمان الكفر العظيم والردة العظمى والجهل الأعظم .
كاتب عربي فلسطيني