هناء عبيد: مصدر الثلج، مجموعة قصصية للكاتب طه درويش

هناء عبيد
صدرت المجموعة عام ٢٠٢٥ عن دار ناشرون وموزعون في الأردن بإدارة الدكتور باسم الزعبي وتقع في ٩٦ صفحة من الحجم المتوسط.
غلاف المجموعة عبارة عن لوحة فنيّة يظهر في جانبها الأيمن غابة من الأشجار مغطاّة بالثلج، وعلى جانبها الأيسر يظهر جزء من كوخ معلق على حائطه الخشبيّ فانوس أو قنديل.
توحي اللوحة إلى حزن ما يخيم على المشهد، ويتناسب إيقاعها الشّجي مع عنوان المجموعة “من أين يأتي الثلج”، ربما يوحي نور القنديل المعلق إلى الأمل الّذي يقودنا إلى حياة أفضل تنتظرنا في نهاية النفق.
عنوان المجموعة جاذب، يثير العديد من الأسئلة ويحث على التعمق في تأويلاته، فالثلج كما نعلم يسقط من السماء، فهل هناك مكان آخر يسقط منه؟! أم هو تساؤل تجريدي له دلالته ورمزيته؟!
الإهداء جاء إلى كاتيا..نور..رغد..بشر..و نور البشر
وهم أقمار الأديب طه درويش المضيئة وأفراحه المشرقة كما ذكر.
كتب التقديم للمجموعة الأستاذ الدكتور فاضل السعدوني الّذي وصف فيها الأديب طه درويش بأنه “صوفي من زماننا”، وقد أثنى على لغته الّتي عكست صوفيته النقية الرقراقة، فحسب رأيه وهذا ما أتفق معه أن “لغة طه درويش نادرة الوجود في أيام العسف اللغوي هذه، لغة منقاة، بسيطة، متدفقة، يجسم فيها طه ما هو هلامي وضبابي فيحيله إلى تمثال من الصلب بارز الملامح والتفاصيل”.
ليس من الغريب أن يخيم الموت على ثيمات القص، فالعالم الّذي نعيشه في وسط الدمار والدم والموت والبأس لا يبشر بحياة هنيئة يمكن الحديث عنها، كما أن القلم الصادق لا يمكن أن يكتب غير الحقيقة المعاشة والواقع المحيط حتى وإن تظاهر بفتح صفحات بيضاء متفائلة ترمو الأمل بتواضع. وقد أشار إلى ذلك الدكتور فاضل السعدوني في تقديمه للمجموعة إذ قال” طه درويش مسكون بالموت إلى حد الألفة، وعناوين قصصه تشهد بذلك: (التابوت) والميت وذو الكفن الأبيض يبتسم وغيرها.
قصص المجموعة تبدأ بقصة عنوانها هو نفس عنوان المجموعة
“من أين يأتي الثلج؟”
حيث الذكريات الطفولية البائسة الّتي لم تتناسب مع لون الثلج الناصع، فقد حملت معها كل الحزن والألم، وكأن الثلج يحمل معه حزن حينما يتصادف سقوطه مع موت عزيز، فيتلون بسواد لا يتناسب مع لونه الأبيض النقيّ لتتشرب ذاكرة الطفولة الغصة والقهر، بدل أن تحمل في طياتها النقاء الّتي تحمله ذرات الثلج ثم تأتي الإجابة على السؤال المطروح من حسام لأبيه:
“بابا من أين يأتي الثلج؟ يجيبه من الروح، الثلج ينبع من الروح يا حبيبي، من الروح!”.
في قصة “هديل” نستشعر الأسى مع السارد، نجوب معه الشوارع ونبكي الحمامة الذبيحة وهي تئن في الليل، يبدو أنها حمامة السلام الّتي أردنا منها أن تحلق في السماء ليسكن الكون، لكنها ذبحت وبقيت روحها تئن، ربما كانت تنتظر علاجًا أو ربما تمنت الموت، فلا أبشع من أن تذبح حمامة بيضاء تنشد الهدوء في عالم يعج بالفوضى والدمار والقتل والفوضى.
وليس الأمس بغريب عن اليوم، الصرخات تتعالى ولا من مغيث، تقف الإنسانية كصنم لا يتحرك، كأن نبضات القلب توقفت، هناك من يخنقها، صمت العالم، هل هي قلة حيلة أو خوف أو جبن؟! هكذا كان أمجد الّذي يصفه الكاتب بكل جرأة وصراحة، “فأمجد(ك) حشرة حقيرة، يستحق الموت كصرصار متقاعد، إنسانيته مدانة بعجزها أمام غريب استغاثه، ليرقد الفتى الغريب، الّذي عاش غريبًا ومات غريبًا ودفن غريبا” مشهد نراه بأم أعيننا يمتثل أمامنا بنفس التفاصيل المحرقة لضمائرنا النائمة. هذا ما نقرأه في قصة اشتغالات الفتى الغريب، الّتي أهداها الكاتب إلى ذلك الفتى الغريب حين أنشد باكيًا قبل أن يغيب، ” روما هل قاسيت حريقًا مثل حريقي، يا طروادة، هل حوصرت فجف الماء ومات الزرع كما بحصاري؟!”.
وتستمر المعاناة حينما لا تجد الكلمة طريقها إلى حيث يجب أن تكون، فتتكدس الكتب وتتراكم الجرائد الّتي لم يعد لها فائدة في عالم ضجر من ثرثرة الكلام المطبوع، لتجد نفسها بين يدي سيدة تفرك بها زجاج النافذة. إنه الإحباط الّذي يلازم بائع الكتب الّذي لا يبيع شيئًا وصاحب المبدأ والكلمة الصادقة الّتي لا تجد من يقرأها.
إنها الحقيقة بحذافيرها، في عالم فقد تركيزه وفقد البوصلة نحو أولوياته، فلم يعد للكلمة تأثيرها، فقد غدت كقطعة معدنية سقطت في بئر ولم تجد من يسمع صدى رنينها.
مواجهة الموت يستقبلها صدر رحب هكذا كان الأمر في قصة التابوت، فكيف نخشى الموت ونحن في مواجهة الألم وبشاعة البشر ونفاق العالم؟! ما الّذي سنخسره في هذه الحياة البائسة حتى نخشى الموت؟!
إن المصير الحتمي لكل إنسان متشابه، وسينتهي به الأمر إلى الكفن ووداع كل ما على الأرض بما فيها الذكريات الأليمة.
وشريط الحياة بمرها سينتهي في حفرة محدودة يهال عليها التراب، لا شيء سوى التراب، وسنبقى وحيدين بعد أن يودعنا كل من أحببناهم.
وما أغرب أن يكون فرحنا من خلال التلذذ بأعداد الموتى، ترى هل السبب هو فقداننا للإنسانية أم أنه إدراك بأن الموت قد يكون الحل الأمثل في مثل هذه الحياة الّتي لا تتقدم قدر أنملة نحو الأمل والسعادة والأمان أو السلام. هل حقًّا يمكن أن يتمنى المرء موت أبيه؟! ولماذا نمر بتلك اللحظات ونصبح بعيدين عن إنسانيتنا، بحيث نتمنى الموت لأحب وأقرب الناس إلينا، هل هي لحظات عابرة، نتجرد منها من أحاسيسنا أم هي لحظات إدراك؟!، إنها الفلسفة الّتي تبناها الكاتب في معظم قصصه والّتي تفتح لنا مجالًا واسعًا للتساؤل والتفكر.
ثيمة القصص قد يغلفها الحزن والبأس، لكن ذلك أمر غير مستهجن، فالكاتب بذكائه كتب بنبض قلبه، وصور المشاهد من أمام عينيه و نقل واقعنا بحذافيره، لدرجة أننا عشنا كل قصة ومررنا بأحداثها وحواراتها، وتقابلنا مع شخصياتها، بل كنّا أحد أبطالها.
استطاع الكاتب من خلال ثقافته الواسعة، وإحساسه العميق ومشاعره الإنسانية أن يأخذنا برحلة عميقة في دواخل كل شخصية، فعشنا صراعاتها النفسية ومشاعرها وأحزانها، واقشعرت أبداننا للبراعة في رسم الأحاسيس بدقة متناهية فبكينا معها،فقد كانت مشاعر صادقة أجبرتنا قسرًا أن نقف أمام مرآة أنفسنا لنواجه عيوبنا الّتي أتقن الأديب بوصفها بكل شجاعة وجرأة وصدق.
لغة القصص متميزة، بليغة سلسلة أنيقة، استخدمت المحسنات البديعية فيها لتعطي جمالًا ادبيًّا يجعل من القراءة متعة رغم المحتوى السوداوي الكئيب الّذي لا يبعد عن واقعنا وحياتنا المعاشة، المفردات ثرية عصرية تراثية لا تتعارض مع عالمنا السريع.
غلبت الشاعرية على النصوص، وتدفقت الأحاسيس بغزارة لتضعنا أمام مشاهد إنسانية ذات تجارب عميقة تخترق وجداننا وتقشعر لها أبداننا وتغرورق لها عيوننا، ولم تكن مقحمة بل سارت مع تيار السرد في وحدة متكاملة.
في الصفحة ٤٩ حيث القصة المعنونة بالميت يقول:
ثمة قبر مفتوح
أناس لا أعرفهم ينتظرون على جانبي القبر.
حفار القبور ينتصب كعادته:
جسد ناحل
صوت متشقق
أخاديد في الوجه
انحناءة بارزة لكتفين هزيلين.
غابة من الشعر تحتل صدره
نظرة غامضة لم أدرك كنهها يومًا..إلخ
أسلوب السرد مشوق، الأفكار جاءت متسلسلة ببراعة، وقد برزت الأبعاد النفسية لكل شخصية بما يتناسب مع معطياتها والأحداث المرافقة.
من أين يأتي الثلج؟! مجموعة قصصية ذات قيمة أدبية تضيف ثراءً إلى رفوف مكتباتنا العربية.