زياد جيوسي: تأملات نقدية حول قصيدة “وجع” للشاعرة رفعة يونس

زياد جيوسي: تأملات نقدية حول قصيدة “وجع” للشاعرة رفعة يونس

 

زياد جيوسي
   “وجع” قصيدة أخرى للشاعرة رفعة يونس حافلة بالمشاعر الانسانية والأحاسيس، ومن العنوان تثير الشاعرة الألم في روح القارئ، ثم مع مطلع القصيدة بقولها: “وجع يسري، بين الضلوع” وهذه إشارة لوجع جسدي، ولكن الوجع ليس بالجسد فقط فهو أيضا “في خلجات الحنايا يجول”، وهذا يشير كيف تتناول القصيدة الوجع الإنساني العميق الناتج عن مآسي الاحتلال وما يمارسه من اجتياحات للمناطق والمدن والقرى والبلدات والمخيمات، حيث يمارس جنوده القتل من أجل القتل، والتدمير من أجل التهجير، وبالمقابل تجسد أبيات القصيدة معاناة الشعب الفلسطيني من خلال صور شعرية رسمتها روح الشاعرة فالوجع “يدمي العين”، وهذه صور حية ومؤثرة باحت بها روح الشاعرة في الشهر الأول من عام 2024 بعد استشهاد الاعلامي حمزة ابن الاعلامي وائل الدحدوح في غزة.
   الشاعرة استحضرت وجع الاستشهاد والفقد وخاصة أن وائل الدحدوح كان قد فقد أسرته قبل ابنه، فكان نصها حافلاً بوجع “يدمي العين” ويستحضر “بكاء الصغير” وأرواح الآف الأطفال الشهداء وهي تعلن “رحيل الطفولة، في مهدها”، فيرتفع “عويل النسوة” وهن يرقبن الموت يجتاح قطاع غزة من شماله الى جنوبه، فلا يمتلكن الا العويل “حين يصير الموت قوافل”، فتقدم لنا لوحة مؤلمة شاملة لما يعانيه شعبنا في حرب الإبادة التي يرتكبها الأحتلال، فتعلو “صرخات الفجيعة” فكل الجرائم “توجعنا”، في مشهد قاتم من القصف والتدمير “ومن أشلاء الضحايا”، والصرخات التي تعلو “من تحت الردم”، في مواجهة عدو بربري لا يمتلك إلا الرصاص والحقد يخرجه “من سطوة للقتل”.
   ومع كل هذه المعاناة وقوافل الشهداء التي ترحل قافلة إثر قافلة، تلوح بوادر الأمل وتستمر المقاومة، فالأبطال يرسمون وطنا جديدا يولد من تحت الركام، فهم لا يؤمنون الا بمشيئة الله ويرفضون كلمة المستحيل، فهم “يرسمون لنا، وطنا آت”، وبصمودهم وبنادقهم يستحضرون الوطن “من وسائد غيم”، فهم لا يعرفون في مواجهة كل قوى البغي والظلم الا النصر أو الاستشهاد، فهم صمموا أن يزرعوا “صنوبرة، في فضاءات المستحيل”، فهم بتصميمهم على النصر “يرسمون لنا، سنديانة عشق، سماوية”، فنجد أنفسنا أمام نص لا يغرق في اليأس رغم كل الحروب والمآسي، بل يفتح نافذة مضيئة على المستقبل يحلق بها الأمل.
   فالشاعرة لا تصف مشهد الألم والدمار فقط، بل تصرخ بقوة في وجه المحتل وتدعو للصمود وإعادة بناء الوطن من قلب الركام ورماد الألم، وهذا ما نلمسه بكلمات تحمل هذا المعنى تتردد في النص مثل: الصنوبر،القمح، الغيم، السنديان، بعمق انساني وفلسفة حياة لا تعرف اليأس، لتصبح المأساة المتمثلة بحرب الإبادة ذات بعد إنساني وعالمي كبير ووجعا جمعيا وليس فرديا، مؤكدة على قوة الإرادة وضرورة استمرار المقاومة، رغم ظهور مشاهد الدمار والفجيعة والموت والأشلاء والآف الشهداء والجرحى الذي لا يجدون العلاج، في ظل تدمير كل المشافي وسيارات الإسعاف وقتل الممرضين والأطباء والحصار الشديد لمنع دخول الماء والغذاء والدواء، فتتساءل الشاعرة: “فأين رحيق الحلم، وفجر الأماني”، وهذا تساؤل إستنكاري مشروع “حين يصير الموت قوافل”، لكنها لا تتوقف عن الحلم بوطن يتجدد كالعنقاء ينهض من بين الرماد، فتشير لرموز الحياة مثل القمح والغيم والسنديانة، رغم أن “لعثمة الشهيد… على شرفات الموت، تحاصرنا”.
   هذا الأمل رغم ما نشاهده ونحياه من ألم “حين تحج الدماء، على طرقات المدينة”، إلا أنهم يواجهون الموت بلا وجل؛ لأن الأبطال وحدهم من “هم يهربون إلى عرس أحلامهم”، فتميز النص من خلال هذه اللوحات باستخدام الصور الشعرية والإستعارات والتشبيهات ومثال لها قول الشاعرة: “حين تحج الدماء على طرقات المدينة” فهي أنسنت الدماء وجعلتها تمارس قدسية الحج في طرقات ودروب الوطن، مما يمنح الموت بُعد الإيمان بالقضاء والقدر والحياة الآخرة، وأنه لا تعلم نفس متى وبأي أرض تموت، وكذلك “وجع يسري بين الضلوع” وفي ذلك استعارة تشبه الألم أنه يسري كما الدم في الأوردة والشرايين،  وكذلك صور وردت في النص مرسومة بألوان الكلمات مثل: سنديانة عشق، وسائد غيم، قمح ملامح وجه طفولي، فهي لوحات مازجت بين المقاومة والحلم والأمل والطبيعة بريشة شاعرة فنانة.
    رفعة يونس وكما عهدي بقصائدها ودواوين شعرها تلجأ للغة الشعرية المكثفة، فلغتها مشحونة باللوحات والصور والأحاسيس والعواطف، فهي تكثف اللغة وتبتعد تماما عن الحشو لزيادة مساحات القصائد بلا معنى، ولغتها مباشرة ولكنها حافلة بالرمزية والإيحاء وقوة التعبير، ويلاحظ قدرتها على استخدام الأفعال لتكون دالة على الزمن وهذا نجدها بالأفعال المضارعة التي توحي باستمرار الألم مثل: يسري، تحاصرنا، تجوول، وتستخدم فعل المستقبل أيضا فنراها تقول: يرسمون لنا، وهذا يعكس فكرة الأمل والحلم في القصيدة رغم العتمة ومرارة الألم،  إضافة لاستخدام التكرار والتوكيد من خلال تكرار بعض الكلمات مثل: يرسمون لنا، كل، تحرق، وكلمات أخرى بإيقاع موسيقي متصاعد وقوي يوحي بالرفض للاحتلال والثورة عليه، وأيضا استخدام الإستفهام الإستنكاري “فأين رحيق الحلم؟”، في مخاطبة مباشرة للعالم وللقارئ في ظل الخذلان ودفن الرؤوس بالرمال، ولا يفوت الشاعرة وهي التي درست العربية بالجامعة ومارست التعليم سنوات طويلة للغة العربية أن تلجأ لابراز التضاد في صور القصيدة مثل: رحيق الحلم مقابل الوجع، ووطناً آت مقابل الموت قوافل، وغيرها من الصور، فتجعلنا نقف أمام المفارقة بين حلم المستقبل وبين الواقع المعتم والحرب الطاحنة.
   وفي النهاية.. استمرت  الشاعرة بتصاعد الايقاع الموسيقى وبجمالية العزف، وكأنها تعزف بقوة منطلقة من الهدوء وصولا للصخب، فمن خلال الكلمات المستخدمة والجمل السريعة القصيرة في بعض المواقع والطويلة في مواقع أخرى، تنقل القارئ بين الإحساس بالتوتر والرغبة بالتأمل، بين الحلم والأمل مرورا بالصراخ والعويل، وصولا إلى “ملامح لوجه طفولي”، سنجد أنفسنا أمام نص قوي ومؤثر جسد الفقدان من خلال عدة صور كما رحيل الطفولة وبكاء الطفل، لكن وتيرة الأمل والنظر للمستقبل الأجمل استمرت بتصاعد: “من قمح ملامح وجه طفولي، من جمرة آه، .. تصعد، تحرق كل الخرائط، كل هشيم الحدود، لغات القيود، وصمت الحناجر، في ليلنا”.
  )جيوس 15/4/2025(

وجع..
رفعة يونس

وجع يسري
بين الضلوع
وفي خلجات الحنايا يجول
فيدمي العين
فأين رحيق الحلم
وفجر الاماني
فلعثمة الشهيد
على شرفات الموت…
تحاصرنا
صرخات الفجيعة
من تحت الردم
من سطوة للقتل
ومن أشلاء الضحايا
توجعنا
وبكاء الصغير
رحيل الطفولة
في مهدها
وعويل النسوة
حين يصير الموت قوافل
حين تحج الدماء
على طرقات المدينة
هم يهربون
إلى عرس أحلامهم
يرسمون لنا
وطنا آت
من وسائد غيم
صنوبرة
في فضاءات المستحيل
يرسمون لنا
سنديانة عشق
سماوية
من قمح ملامح وجه طفولي
من جمرة آه
تصعد …
تحرق كل الخرائط
كل هشيم الحدود
لغات القيود
وصمت الحناجر
في ليلنا .