سعاد خليل: مصدر إلهام خوليو روميرو دي توريس في قرطبة

ترجمة: سعاد خليل
في قلب قرطبة، حيث تتشابك الأزقة العتيقة مع عبق التاريخ وروح الأندلس، ينبض الفن بالحياة من خلال سيرة أحد أعظم أبنائها: خوليو روميرو دي توريس، الرسام الذي مزج بين الجمال والتصوف، وبين الشعر والرمز، ليجعل من لوحاته مرآة لروح المدينة وأهلها. لم يكن روميرو دي توريس مجرد فنان؛ بل كان شاهدًا على عصره، ومجسدًا بصريًا لهوية قرطبة الثقافية والاجتماعية، بمزيجها الفريد من الأديان والحضارات.
يأخذنا هذا المقال/المسار الثقافي في رحلة بصرية وتاريخية عبر الأماكن التي شكلت إلهامًا لهذا الفنان، مرورًا بمسقط رأسه، وبيته العائلي، ومتاحف المدينة التي تحتفظ بأعماله، وصولًا إلى كلمات أصدقائه من المثقفين، الذين دونوا ملامحه وشهاداتهم في زمنه. وبين سطور التاريخ وشهادات العيان، نعيد اكتشاف خوليو روميرو دي توريس، لا كرمز فني فقط، بل كذاكرة حيّة لقرطبة، المدينة التي أحبّها ورسم ملامحها في لوحات خالدة.
هذا المقال بالطبع نشر في موقع بروجكتو جارلو الاسباني وما لهذا الفنان من تاريخ ووجود في مدينته التي تفخر به وكذلك هذا الموقع الذي دائم الكتابة عنه لنتابع المقال :
تكمن أهمية هذا المسار الثقافي للقراء العرب وطلاب الفنون في أنه يكشف عن الصلات العميقة بين الفن الأندلسي والهوية العربية-الإسلامية التي ما زالت حاضرة في عمارة قرطبة وثقافتها البصرية. فهو دعوة للتأمل في كيف يمكن للفنان أن يكون مؤرخًا غير مباشر لمدينته، وصوتًا لوجدانها الجمعي. كما يتيح هذا العمل للدارسين في مجال الفن فرصة لفهم كيفية تَحوُّل المشهد اليومي والرمز الشعبي إلى تعبير فني خالد، يُترجم بالعاطفة واللون والضوء.
يهدف هذا المسار إلى تقريبنا من شخصية الفنان الأندلسي خوليو روميرو دي توريس (قرطبة 1874 – قرطبة 1930)، ومن حياته الفنية ومصادر إلهامه. لقد أعددنا عدة محطات في أماكن تاريخية لإعطاء صوت للأصدقاء والصحافة التاريخية في زمن هذا الرسام والمثقف والشاعر القرطبي، خوليو روميرو دي توريس، وعائلته. كما يشمل التحليل أعمالاً فنية بارزة معروضة في المتحف الموضوعي الذي تديره بلدية قرطبة، وأهمية الحديقة الأثرية التي تديرها محافظة قرطبة، وتفرد مجموعة عائلة روميرو دي توريس التي يديرها متحف الفنون الجميلة التابع لحكومة الأندلس.
يقول كاتب المقال وهو يصف : بصفتي مديرًا ثقافيًا وفنيًا، أود أن أعرب عن امتناني لجمعية الفن، والآثار، والتاريخ لاختيارهم لي لتنظيم هذا المسار الثقافي. فيما يلي، سنتعرف على كيف سارت الزيارة في قرطبة.
نظّمت الجمعية الثقافية القرطبية للفن والآثار والتاريخ هذا المسار الثقافي بعنوان “إلهام خوليو روميرو دي توريس في قرطبة”، خلال مهرجان باحات قرطبة، حيث دعانا العضو خوان خوسيه غارسيا لوبيز للتجول في أماكن كانت مصدر إلهام لهذا الرسام والمثقف والشاعر، بالتزامن مع الافتتاح الرسمي لباحة “منزل روميرو دي توريس” والبرنامج الجديد لمعارض “متحف خوليو روميرو دي توريس”.
هذا العرض السمعي البصري هو شهادة مرئية ليوم الاحتفال هذا تكريماً لخوليو روميرو دي توريس، ومتحفه، ومنزله العائلي.
بدأ المسار من شارع خوليو روميرو دي توريس، وهو شارع كان يُعجب به الرسام منذ شبابه، بزيارة المنزل الذي يضم “رابطة الفلامنكو خوليو روميرو دي توريس”، حيث تمكّنا من الدخول بفضل مالكه الحالي، له جزيل الشكر. في فناء المنزل قرأنا نصوصًا بارزة عن السيرة الذاتية لأحد أصدقائه في مدريد، برناردينو دي بانتوربا، في عام 1929. من هذا المنزل، المزود بمعلومات تاريخية من مالكه، توجهنا عبر “البورتيو”، إلى شارع سان فرناندو وشارع روميرو باروس، تكريماً لوالد خوليو.
ثم دخلنا من البوابة إلى واحة خضراء مكونة من فناءين رائعين، بفضل مالك المنزل الحالي مانويل وصديقه أنطونيو، مدير المنزل. قدمنا معلومات عن العناصر المعمارية في الفناءين، وقرأنا نصوصًا كتبها برناردينو دي بانتوربا عام 1929، للتعمق في شخصية وأعمال خوليو روميرو دي توريس.
“هو من قرطبة ويقول إنه على وشك أن يبلغ الخمسين. في عينيه الصغيرتين نرى أثر السهر، وفي كلامه الذي يميل إلى الثغ تلك المبالغات اللفظية التي تميز الأندلسيين. حركاته هادئة؛ مشيته تميل إلى التمايل؛ حديثه طويل؛ ضحكته سريعة؛ ومظهره يحمل شيئًا من الحزن والكآبة. هو نموذج أصيل من قرطبة. حينما يرتدي عباءته ويلبس قبعته الواسعة الحواف، يزداد طابعه الأندلسي لدرجة أنه يمثل بحق شخصيته ومكانه.”
واصلنا التجول في شارع خوليو روميرو دي توريس نحو البورتيو، حيث وجدنا “بيت الماء -المتحف الإثنوغرافي” مفتوحًا، وهي زيارة نوصي بها بشدة، بالإضافة إلى البيت المجاور للسور الذي يفصل بين المدينة الإسلامية (المدينة) والمنطقة المسيحية القديمة (الأخشركية) في قرطبة. ثم اتجهنا إلى شارع روميرو باروس، وفي ساحة البوترو، اجتمعنا كأعضاء الجمعية لقراءة ما أعددناه عن والد خوليو، من خلال مقابلة نُشرت عام 1927، حيث أجاب الابن خوليو بنفسه على أسئلة الصحفي:
وهذه بعض المقتطفات:
مقتطف من تقرير صحفي نُشر في جريدة “إل إيرالدو دي مدريد”، 1927، بقلم فرانثيسكو كاراباكا:
“وُلِد خوليو روميرو دي توريس في قرطبة، في يوم غير محدد من نوفمبر 1880. يبلغ الآن سبعة وأربعين عاماً. كان والده دون رافائيل روميرو باروس، من إشبيلية، ووالدته دونيا روساريو توريس، من قرطبة. والده توفي منذ سنوات، ووالدته توفيت في نوفمبر الماضي. خوليو كان له شقيقان: رافائيل، الذي توفي عن عمر 30 سنة، وإنريكي، المدير الحالي لمتحف قرطبة الأثري ومتحف الرسم.
“والدي – كما يخبرنا خوليو – أسس مدرسة الفنون الجميلة ومتحف قرطبة الأثري والرسم، في ساحة البوترو. وقد تم إنشاء هذا المتحف في نهاية القرن التاسع عشر. كانت قرطبة حينها تفتقر إلى تنظيم فني. كما هو معروف، بدأت المتاحف الإقليمية تتشكل بعد قانون “منديثابال” الخاص بمصادرة ممتلكات الكنيسة. والمتحف الآن يحتوي على بقايا رومانية وإسلامية وفينيقية وكيليبرية. وكان والدي رجلاً ضليعًا في الفن والتاريخ، ونظم كل تلك الآثار في مبنى كبير كان سابقًا مستشفى.”
في فناء بيت عائلة روميرو دي توريس، ساحة البوترو 1-4:
بعد المقابلة، اجتمعنا في الفناء الرئيسي حيث توجد المتاحف والمنزل العائلي، وواصلنا الحديث في المكان الذي ألهم فناننا القرطبي. هنا تحدثنا عن صديق باسكي-كوبي غير معروف لكثيرين، إدواردو زاماكويز، الذي زار قرطبة عدة مرات بين 1915 و1921، وكتب:
“مدينة قرطبة في الليل تقدم تجربة لا مثيل لها: شوارعها الضيقة والملتوية، مليئة بالغموض والصمت، تقدم مفاجآت فنية في كل لحظة. كما أن صورة السيدة ماريا إسبارثا تبرز بملامحها الإسبانية الأصيلة.”
وتحدث عن لوحات خوليو، مثل “زهرة القداسة”، و**”النعمة والخطيئة”، و”التنافس”**، وغيرها، مشيرًا إلى الأسلوب الرمزي العميق للفنان، والمستوى العالي من التعبير الفني.
ختام الجولة:
أنهينا الجولة عند واجهة بيت روميرو دي توريس، الذي يعود بناؤه إلى عشرينيات القرن الماضي، حيث قُدمت توصيات الدخول إلى المتحف على مجموعتين. ومن خلال الصحافة التاريخية، اكتشفنا الرموز الجمالية في بعض أعماله: نوكتورنو (1930)، قصيدة قرطبة (1913-1915)، النعمة والخطيئة (1913-1915)، والتنافس (1925)، وذلك بفضل أرشيف المكتبة الوطنية الإسبانية.
وهذا نص إضافي من لقاء زاماكويز – روميرو دي توريس:
“قبل نحو عشرين عامًا، كنت في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، عندما نشرت روايتي الأولى. نصحني الناشرون بوضع رسم على الغلاف، فطلبته من خوليو روميرو دي توريس، الذي كان شابًا في مدريد آنذاك. وكان قد أنهى للتو قصيدة قرطبة، التي تُقسم فيها الروح القرطبية إلى سبعة مشاهد: القائد العظيم، غونغورا، موسى بن ميمون، سينيكا، أسيو، لاغارتيخو، والقديس رافائيل. وكل لوحة تتفرد بالوقار والجمال والتعبير الرمزي الغني.”
كما وصف لوحتَي الخطيئة والنعمة، وهما من أبرز أعماله التي تعكس التحول الروحي من الإغراء إلى التوبة، بأسلوب فني درامي وفلسفي.
وهذه انا اختم ماكتبه خوسيه جارسا لوبيز.
هكذا، بين أزقة قرطبة وساحات فنّها، وبين جدران المتاحف وذكريات المنازل العائلية، نكون قد عبرنا سيرة فنية وإنسانية عميقة تركها خوليو روميرو دي توريس كإرث خالد في ذاكرة المدينة والتاريخ. لم تكن هذه الجولة مجرد رحلة في الجغرافيا، بل كانت غوصًا في عمق الإلهام، حيث تتلاقى المعالم المعمارية مع القصائد المصورة، والأرواح التي ألهمت ريشة الفنان برؤيةٍ تمزج بين الواقعية الرمزية والحنين الأندلسي.
إن خوليو روميرو دي توريس، في لوحاته وكلماته، لم يرسم المرأة أو المدينة فحسب، بل رسم الذاكرة، والهُوية، والتوتر الأبدي بين النعمة والخطيئة، بين الجمال والمعاناة. ومن خلال هذا المسار، يتاح للزائر أو القارئ، العربي خاصة، أن يكتشف كيف يظل الفن مرآة للهوية، وجسرًا بين الثقافات، وعينًا نرى بها الماضي والحاضر في آنٍ واحد.
وبينما نغادر هذه المحطات المليئة بالحياة والتاريخ، نُدرك أن العودة إلى خوليو روميرو دي توريس ليست رحلة عابرة، بل موعد دائم مع الإبداع، ومع قرطبة، التي لا تكفّ عن الإلهام.