عزيز باكوش: متى يتعثر الذكاء الاصطناعي أمام المخطوطات التراثية العربية؟

أعد الحوار وقدم له: عزيز باكوش
عندما طرحت سؤالا على ممثل اليونيسكو بفاس خلال مؤتمر دولي حول “اللغة العربية وتراثها المخطوط تاريخية العلاقة ورهانات الشهود ” كنت مقتنعا بأن الرد سوف لن يكون مقنعا تماما . ليس بسبب غياب استراتيجيا لدى الإيسيسكو لمقاربة المخطوط التراثي العربي رقميا ، وإنما بسبب جسامة التحديات التي يطرحها حال المخطوط التراثي نفسه. و السؤال المطروح اليوم عندما يعجز برنامج للذكاء الاصطناعي على فك شيفرة الخط العربي أين يكمن المشكل في البرنامج أم في الخط ذاته؟ وهل من جهود عربية في هذا المجال لحلحلة هذا التحدي العولمي ؟ السؤال هنا يطرح قضيتين جوهريتين: علاقة المخطوط العربي باللغة العربية، ودور التقانة الرقمية في خدمته.
المؤتمر الذي يأتي كثمرة تنسيق محكم بين منظمة الإيسيسكو– الشبكة الوطنية للقراءة والثقافة – دار المخطوطات بإسطنبول سلط الضوء على مدى يومين على مستقبل اللغة العربية والتراث المخطوط في مواجهة تحديات العولمة. آفاق الحفاظ على هذا التراث وتعزيزه في التنمية الثقافية والحضارية. حماية اللغة العربية والتمكين لها في مواجهة هيمنة غيرها من اللغات، وبخاصة في الإعلام الرقمي. سبل تعزيز التواصل العالمي من خلال التراث الثقافي المشترك. مع التأكيد على أن حفظ التراث العربي المخطوط مسؤولية جماعية تحتاج لتكامل الجهود الأكاديمية، الإعلامية، التربوية، والتقنية. يأتي بهدف تعميق الوعي بالعلاقة العضوية بين اللغة العربية والتراث المخطوط، وبحث سبل صيانته وتفعيله في العصر الرقمي. حيث التأمت نخبة من الباحثين والأكاديميين من عدة دول عربية وإسلامية بقصر المؤتمرات بفاس العاصمة العلمية للمملكة يومي 21-22 ماي 2025 . وقد تُوج هذا اللقاء الثقافي الهام بمجموعة من التوصيات المهمة.
وشكل المؤتمر فرصة حقيقية للتواصل مع نخبة من الخبراء والباحثين المغاربة والعرب من مختلف دول العالم، المملكة العربية السعودية العراق تركيا سوريا مالي والمغرب ومناقشة دور المخطوطات في تعزيز الهوية الثقافية في العالم الإسلامي، و أسفرت الجلسة الختامية عن إصدار جملة من التوصيات الاتحاد الاشتراكي التقت على هامش المؤتمر بالدكتورة إمان اضادي منسقة ومنظمة المؤتمر الدولي للغة العربية وتراثها المخطوط، و صاحبة أطروحة فهارس المخطوطات المغربية دراسة كرونولوجية وبيبليومترية ” وأجرت معها الحوار التالي :
“الكتاب العربي المخطوط بين عبق التراث وآفاق الرقمنة” ماذا عن واقع المخطوط العربي اليوم؟ كيف ساهمت الثورة الرقمية والتكنولوجية في خدمته؟
إمان أضادي: الثورة الرقمية أحدثت تحولا نوعيا. لم يعد المخطوط مجرد مادة مهددة بالتلف في رفوف المكتبات. بفضل الحوسبة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، أصبحت هناك جهود جادة لرقمنته، وتحقيقه، وفهرسته آلياً. تقنيات التعرف البصري على الحروف العربية (OCR) أصبحت أكثر تطوراً، وإن كانت ما تزال تواجه تحديات بسبب تعقيد الخط العربي وتنوع أنماطه.
هل يمكن الحديث اليوم عن مشاريع متقدمة توظف الذكاء الاصطناعي في خدمة هذا التراث؟
إمان أضادي : بالتأكيد. هناك محاولات لابتكار خوارزميات متقدمة قادرة على قراءة وتحليل المخطوطات، ليس فقط من حيث النص، بل حتى من حيث السياق التاريخي والدلالات الثقافية. بعض المشاريع تسعى إلى تطوير أنظمة ذكية للتعرف على الأنماط الخطية، وتصنيف المخطوطات، واقتراح قراءات بديلة عند وجود أجزاء غير واضحة. وهي جهود تحتاج إلى دعم مؤسسي أكبر وتعاون بين المتخصصين في اللغة والتكنولوجيا.
ما حدود العلاقة بين اللغة العربية والكتاب المخطوط في عصر الرقمنة؟
إمان أضادي : العلاقة بينهما تكاملية. اللغة العربية كانت ولا تزال الوعاء الأول لهذا التراث. والحفاظ على الكتاب المخطوط هو حفاظ على خصوصيات اللغة، من حيث التراكيب والدلالات والسياقات. أما الرقمنة، فهي الأداة التي تساعد على صيانة هذا الإرث ونشره، لكنها تحتاج إلى وعي لغوي عميق حتى لا تُشوّه الرسالة الأصلية للمخطوط.
لا شك أن التراث العربي الإسلامي يشكل ركيزة من ركائز الهوية الحضارية للأمة الإسلامية، ومن ضمن أبرز عناصره الكتاب العربي المخطوط. ما الذي يميز هذا الإرث عن غيره من الأوعية المعرفية الأخرى؟
إمان أضادي : بالفعل، يُعدّ الكتاب العربي المخطوط شهادة نابضة على عظمة الحضارة الإسلامية. فهو لا يحمل فقط كلمات مكتوبة على الورق، بل يختزن في طياته نفائس في شتى فروع العلم والمعرفة، من الفقه والحديث، إلى الطب والفلك، والفلسفة والرياضيات. هذه المخطوطات، بما تحمله من دقة وجمالية فنية ومحتوى علمي رفيع، جسّدت عصور ازدهار ساهمت في تشكيل الوعي الحضاري الإنساني، وكانت ولا تزال مصدراً من مصادر الهوية العربية الإسلامية. ما يجعلها تحتل مكانة متميزة بين أوعية الإنتاج الفكري.
هل نفهم من هذا أن الغرب لم يغفل قيمة هذا التراث؟
إمان أضادي إطلاقًا. حين كانت أوروبا تغطّ في ظلمات العصور الوسطى، كان العلماء العرب ينسجون أعظم مؤلفات الفكر الإنساني. هذا التفاوت في المدّ الحضاري دفع بالغرب، وخصوصاً روّاد النهضة، إلى السطو على عدد هائل من هذه المخطوطات، إما بالحيلة أو من خلال الترجمة، حيث أعادوا قراءتها وتحليلها. لا ننسى أن كثيراً من النهضة الأوروبية في الرياضيات والطب والفلسفة تستند إلى ما وصلهم من ذخائر الفكر الإسلامي.
إلى أي حد أثر ذلك في العلاقة بين الغرب واللغة العربية تحديداً؟
إمان أضادي : لقد كان لاهتمام الغرب بالمخطوطات العربية دور مباشر في دفعهم لتعلّم اللغة العربية وفهم دلالاتها. لذلك، أنشئت مراكز متخصصة في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وخصوصاً للباحثين المهتمين بفك رموز المخطوطات وتحليل مضامينها. وهنا نلمس كيف أصبحت العربية جسر عبور حضاري لعصور مديدة.
هل تتفاءلون كشبكة وطنية للقراءة والثقافة بشأن التوصيات التي أسفر عنها المؤتمر لا سيما في شق الرقمنة ؟
نعم تفاؤلنا يشق عنان السماء . من المؤكد أن الرقمنة حفظ واسترجاع واستثمار . وقد سهلت الوصول إلى المخطوطات، وأتاحت إمكانية البحث، إلا أن هذه العملية تواجه اليوم بعض التحديات لعل أهمها ” صعوبة قراءة الخطوط القديمة والمتآكلة. محدودية الفهرسة الدقيقة والمعايير الموحدة. غياب الترجمة أو الشروح التي تيسر القراءة. إذ رغم تطور تقنيات OCR” التعرف البصري على الحروف”، فإن أداءها مع الخط العربي الكلاسيكي لا يزال متواضعا مقارنة باللاتينية بسبب تعقيدات التشكيل والتشابك بين الحروف. للإشارة ،توجد اليوم مكتبات رقمية كبرى مثل الجامعة الأمريكية، المكتبة الرقمية العالمية، الأرشيف العثماني، مكتبة قطر الرقمية، إلا أن استفادة القارئ العربي منها ما زالت محدودة، لغياب الربط البيداغوجي والإعلامي الفعال. لذلك المطلوب اليوم هو الانتقال من مجرد نسخ رقمية إلى منصات تفاعلية، تقدم المخطوط العربي ضمن سياقه الثقافي واللغوي، مع شروحات، وتحقيقات رقمية، وربط بالنصوص الحديثة. هنا يبرز دور الصحفي الثقافي، ليس فقط كناقل للمعلومة، بل كمؤطر للذاكرة، يحول المخطوط من وثيقة صامتة إلى خطاب حي. من خلال الروبورتاج، الحوار مع الباحثين أو الاستقصاء حول مصير بعض الكنوز المخطوطة. لذلك مجمل القول إن المخطوط العربي ليس فقط ذاكرة الماضي، بل هو سؤال عن الحاضر والمستقبل: كيف نعيد دمجه في المنظومة التربوية والإعلامية؟ كيف نجعل منه منبعاً لغوياً وإبداعياً؟ ومتى تتحول الرقمنة من مشروع تقني إلى مشروع حضاري شامل؟
في الختام، ما هي رؤيتكم لمستقبل الكتاب العربي المخطوط في ظل التحولات الرقمية الجارية؟
إمان أضادي : المستقبل واعد، إذا ما وُجدت إرادة حقيقية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في الحفاظ على هذا التراث. نحن بحاجة إلى تكامل بين علماء اللغة، وخبراء التراث، ومهندسي البرمجيات، من أجل إطلاق مبادرات شاملة توثق، تشرح، وتتيح المخطوطات للعالم، مع مراعاة خصوصية الهوية العربية الإسلامية. فالمخطوط ليس ماضياً منتهياً، بل هو نواة لتجديد فكرنا المعاصر.
شكرا جزيلا لك سيدتي الدكتورة إمان أضادي