إيران على وشك النووية: بين استراتيجيات الردع والمناورات الدولية

نجاح محمد علي
في أحدث تقاريرها الصادر في 31 مايو 2025، ذكرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بلغ 9247.6 كيلوغرام، بزيادة تقارب الألف كيلوغرام عن تقرير فبراير. الرقم الأهم في التقرير كان حول كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، والتي بلغت الآن 408.6 كيلوغرام – أي بزيادة تقترب من 50% خلال ثلاثة أشهر فقط. هذه النسبة تقترب تقنيًا من مستوى التخصيب العسكري (90%)، ما دفع بعض المراقبين للقول إن إيران باتت رسميًا عند ما يُعرف بـ”العتبة النووية”.
ولكن، ما الذي يعنيه أن تكون دولة “عند العتبة النووية”؟ باختصار، هي المرحلة التي تمتلك فيها الدولة كافة المقومات الفنية والمواد الأساسية اللازمة لصنع سلاح نووي، دون أن تُعلن عن تصنيع ذلك السلاح أو تجربته فعليًا. إنها حالة من الردع غير المُعلن، تُبقي الدولة داخل الإطار القانوني لمعاهدة عدم الانتشار النووي، وفي الوقت نفسه تُجبر الخصوم على إعادة حساباتهم الاستراتيجية.
في ضوء تقرير الوكالة الأخير وبغض النظر عن أهدافه السياسية ، من الواضح أن إيران باتت تمتلك هذه القدرة التقنية. فوفقًا لتقديرات معهد العلوم والأمن الدولي، يمكن لطهران أن تقوم بتحويل مخزونها الحالي من اليورانيوم المخصب إلى درجة 90% في غضون أسابيع قليلة، باستخدام منشآت مثل فوردو. وهذا يعني أنها، إن قررت يومًا ما، يمكنها إنتاج ما يعادل عشر قنابل نووية على الأقل خلال فترة وجيزة.
غير أن السؤال الحقيقي لا يتعلق فقط بالإمكانات، بل بالنية والسياسة. إيران، التي أثبتت دومًا أن برنامجها النووي سلمي بالكامل، لم تُعلن في أي مرحلة نيتها صنع سلاح نووي، ولا يوجد ما يؤكد ذلك في التقارير الاستخباراتية الأميركية ، بل أكدت استعدادها للتعاون مع الوكالة، شريطة أن يكون ذلك التعاون متوازنًا وغير مسيّس.
لكن لأن السياسة هي المحرك الحقيقي وراء هذه الملفات، فلا يمكن قراءة تقرير الوكالة الأخير بمعزل عن الخلفية الجيوسياسية. فقد تزامن صدور التقرير مع تصعيد في الخطاب الأمريكي تجاه إيران، خاصة من قبل إدارة ترامب التي فشلت في سياسة الضغط الأقصى في الدورة الرئاسية الأولى . الرئيس الأمريكي هدّد علنًا بـ”تدمير إيران” إذا فشلت المفاوضات النووية، في الوقت الذي قال فيه إنه طلب من الكيان الصهيوني تأجيل أي عمليات عسكرية ضد طهران لإتاحة فرصة للمسار الدبلوماسي ، الذي أضطر إليه بسبب صمود إيران .
في المقابل، أصدر رئيس وزراء الكيان الصهيوني بيانًا في يوم الراحة اليهودي – خطوة نادرة – زعم فيه أن تقرير الوكالة “يؤكد عدم سلمية البرنامج النووي الإيراني”، ودعا إلى “تحرك فوري”. لكن اللافت أن هذا التحريض يأتي من كيان يرفض الانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار، ويُعتقد أنه يمتلك ما بين 90 إلى 400 رأس نووي وفقًا لمصادر متعددة، مثل فانونو ومعهد SIPRI.
ومع أن الوكالة كثيرًا ما تُقدَّم كجهة فنية محايدة، إلا أن التجربة التأريخية، لا سيما في العراق قبل العام 2003، تُظهر أن تقارير من هذا النوع قد تتحوّل إلى أدوات ضغط سياسي، بل إلى مبررات لحروب مدمرة بُنيت على معلومات مشكوك فيها. واليوم، تعود نفس الآلية لتكرار نفسها، حيث يعتمد تقرير الوكالة الأخير في بعض فقراته على مزاعم غير مثبتة تتعلق بثلاثة مواقع هي طورقوز آباد وورامين ومريوان.
هذه المواقع تحديدًا كانت في قلب معركة سياسية وفنية بين إيران والوكالة لعدة سنوات. في عام 2019، نشر الكيان الصهيوني وثائق زُعم أنها تثبت وجود أنشطة نووية غير مصرح بها في أربعة مواقع: ورامين، طورقوز آباد، آباده، ومختبر جابر بن حيان. لكن عند مراجعة التفاصيل، يتضح أن هذه الوثائق كانت مجهولة المصدر، وغير موثوقة، وقد استندت إليها الوكالة دون تحقق فني مستقل.
خلال الأعوام اللاحقة، وبعد زيارات متكررة أجراها المدير العام للوكالة إلى طهران، تم حل بعض هذه الملفات. ففي خريف 2021، أغلق ملف مختبر جابر بن حيان بعد أن ثبت أن إحدى كاميراته تعطلت بسبب عملية تخريب نووي. كما أُغلق ملف آباده في مارس 2023 إثر زيارة غروسي لطهران، حين أعلن مجلس المحافظين انتهاء التحقيقات في آثار اليورانيوم بمنطقة مريوان القريبة من آباده، جنوب شرقي البلاد.
رغم ذلك، أبقت الوكالة ملفي طورقوز آباد وورامين مفتوحين، مستندة إلى زعم أن إيران لم تقدم “تفسيرات فنية موثوقة” لوجود جزيئات يورانيوم من منشأ بشري في الموقعين. غير أن الحقيقة المؤكدة هي أن الوكالة لم تُقدّم حتى الآن أي دليل ملموس على هذه المزاعم، بل اكتفت بنقل روايات غير موثوقة من مصادر صهيونية.
توقيت إعادة فتح هذه الملفات، وسط المفاوضات النووية الجارية بوساطة سلطنة عُمان، يؤكد أن الهدف هو التصعيد لا التهدئة. فالتسريبات إلى وسائل الإعلام الغربية – كما في تقارير “أسوشيتد برس” و”رويترز” – تهدف إلى ممارسة ضغط سياسي على طهران وليس إلى تحقيق شفافية علمية.
في هذا السياق، تبدو إيران وكأنها تلعب شطرنجًا دقيقًا على طاولة دولية متقلبة. من جهة، هي تملك القدرة الفنية على تصنيع السلاح النووي، لكنها تختار عدم التصعيد. من جهة أخرى، هي ترفض التنازل عن حقها القانوني في تخصيب اليورانيوم داخل أراضيها، رغم الضغوط الغربية الهائلة.
في مايو الماضي، صرّح الأميرال علي شمخاني، مستشار قائد الثورة الإسلامية، بأن إيران مستعدة للتخلي عن التخصيب العالي وفتح منشآتها للتفتيش الكامل، بشرط رفع العقوبات بشكل ملموس. كما أكد عباس عراقجي أن إيران “ستواصل التخصيب مع أو بدون اتفاق”، في رسالة واضحة بأن طهران لا تقبل الإملاءات.
في المقابل، يتمسك الأمريكيون بموقف متشدد يُصرّ على تفكيك كامل للبرنامج الإيراني، بزعم أنه غير ضروري، وأن طهران يمكنها شراء الوقود النووي من الخارج! لكن إيران، التي جُرِّبت خيانة الغرب مرارًا، ترى أن التخلي عن التخصيب الذاتي يعني خيانة للسيادة الوطنية.
ما يثير الريبة أكثر، هو تجاهل الغرب الكامل لترسانة الكيان الصهيوني النووية، الذي لم يوقّع على معاهدة عدم الانتشار، ولا يخضع لأي تفتيش. بل يُكافأ على عدوانيته بتزويده بقنابل خارقة للتحصينات، كما حدث عندما سلّمته واشنطن مؤخرًا قنابل BLU-109 .
في المحصلة، إيران لا تسعى إلى التصعيد، لكنها لن تتخلى عن حقوقها. والغرب، إن كان يريد حلًا حقيقيًا، فعليه أن يبدأ بالاعتراف بتوازنات الردع الجديدة في المنطقة، بدلًا من مواصلة لعبة التقارير المسرّبة والضغوط الأحادية.
لقد دخلنا بالفعل عصر “العتبة النووية”، وبدلًا من التلويح بالحرب، ربما آن الأوان للاعتراف بأن إيران باتت رقمًا صعبًا في معادلة الردع الإقليمي والدولي.
صحافي وكاتب مختص بالشأن الايراني