أ. خالد الضيف شبلي: الاحتلال مقابل الاستعمار: للحرص على دقة المصطلحات في الحديث القانوني الجزائري

أ. خالد الضيف شبلي: الاحتلال مقابل الاستعمار: للحرص على دقة المصطلحات في الحديث القانوني الجزائري

 

أ. خالد الضيف شبلي

 

“وقد حرّرت الجزائر ترابها بالدم، ولكن عليها أن تحرّر مصطلحاتها بالوعي، وتستكمل معركتها القانونية والسيادية بترسيخ الحقيقة كاملة: لم يكن الأمر استعمارًا حضاريًا، بل كان احتلالًا إجراميًا، ويجب أن يُقال ذلك دون تحفّظ، لأنه جزء من العدالة، والعدالة لا تتحقق إلا إذا سُمّيت الأشياء بأسمائها”. أ. خالد الضيف شبلي
تمهيد: المصطلح بوصفه أداة قانونية ومطلبًا سياديًا
من المفارقات البارزة في الخطاب التاريخي والسياسي، خصوصًا في الجزائر، أن يُستبدل أحيانًا مصطلح “الاحتلال” بمفردة “الاستعمار”، حتى في السياقات التي يُراد فيها الإشارة إلى جريمة تاريخية لا لبس فيها، ارتُكبت بحق أرض وشعب وهوية؛ وبينما قد يبدو ذلك، للوهلة الأولى، مجرد اختلاف لغوي أو مسألة تعبير، إلا أن التمييز بين المصطلحين من زاوية قانونية وتاريخية أمر بالغ الأهمية، ويُفضي إلى نتائج سياسية ومعرفية حاسمة.
في كل مرحلة مفصلية من تاريخ الأمم، تصبح اللغة أداة سيادة أو خضوع، تحرّر أو طمس، توكيد للحق أو تزوير للتاريخ؛ فالذي يملك حق التسمية يملك مفتاح التأويل، وفي السياق الجزائري، لا تزال المفردات المستخدمة في توصيف التجربة الفرنسية على الأرض الجزائرية محلّ جدل عميق، يتجاوز المستوى اللساني إلى التأثيرات القانونية والسياسية والرمزية.
لقد دأب الخطاب العام، حتى الرسمي منه، على استخدام مصطلح “الاستعمار الفرنسي” للإشارة إلى الفترة الممتدة من 1830 إلى 1962، دون تمحيص دقيق لما تحمله الكلمة من حمولات أيديولوجية مغلوطة، أو لما تفترضه ضمنيًا من “شرعية حضارية” زائفة؛ وفي المقابل، هناك اتساع في الدعوة، داخل الأوساط القانونية والحقوقية الجزائرية، إلى اعتماد مصطلح “الاحتلال الفرنسي” بصفته الأدق، من حيث الواقع التاريخي، والدلالة القانونية، والمكانة السياسية في القانون الدولي.
ومن هنا تنبع إشكالية هذا المقال: إلى أي مدى يُعدّ استخدام مصطلح “الاحتلال” بدل “الاستعمار” ضرورة قانونية وتاريخية في السياق الجزائري؟ وما هي الأبعاد الرمزية والسياسية لهذه الدقة المفاهيمية؟
وللإجابة على هذه الإشكالية، نقترح تفكيك المفهومين لغويًا وقانونيًا، ثم عرض السياق الجزائري كمثال واضح على الغموض الاصطلاحي الذي يُخفي مسؤولية قانونية وسياسية، وصولًا إلى إبراز آثار هذا التوصيف على الحق في العدالة والذاكرة.

أولًا: تفكيك المصطلحين: من اللغة إلى القانون
قبل أن نحكم على وجاهة استخدام أي من المصطلحين، لا بد من العودة إلى جذورهما اللغوية والتاريخية والقانونية، لأن كلًّا من “الاستعمار” و”الاحتلال” يحمل خلفه سياقًا مفاهيميًا مختلفًا تمامًا، والخلط بينهما لا يؤدي فقط إلى تمييع المسؤوليات، بل إلى تشويه توصيف الواقعة التاريخية ذاتها، بما ينعكس على كل تحليل سياسي أو قانوني لاحق.
المصطلح ليس بريئًا، إن استخدام مصطلح “الاستعمار” عند الحديث عن ما جرى في الجزائر منذ عام 1830 وحتى 1962 يُخفي خلفه حمولة أيديولوجية وظيفتها تلطيف الجريمة وتبريرها، بل وتحويلها أحيانًا إلى مشروع “تمديني” يحمل بعدًا حضاريًا مزعوماً، وقد كان هذا، بالضبط، جزءًا من بروباغندا الاستعمار الفرنسي، الذي وصف نفسه بأنه جاء “ليُنقذ الجزائر من التخلف” و”ينشر التمدّن والحضارة”.
وهنا تكمن الخطورة السياسية للمصطلح: فبينما يُعبّر “الاحتلال” عن عنف السيطرة العسكرية والإلحاق القسري، يُستخدم “الاستعمار” (خصوصًا في الأدبيات الأوروبية) للإيحاء بـ”الرسالة الحضارية” التي يحملها المستعمِر، وكأنّ فرنسا لم تكن تنهب الأرض وتستعبد الإنسان، بل كانت تؤدي واجبًا أخلاقيًا تجاه شعب “قاصر”.

المصطلح كأداة سيادة : من الاستعمار إلى الاحتلال

في تاريخ الشعوب، لا تكون اللغة مجرد أداة تعبير، بل ميدان نضال، فاختيار المفردات يعكس موقعًا من الصراع: هل نحن ضحايا جريمة تاريخية، أم أطرافٌ في تجربة “تمدينية” مزعومة؟ هذا السؤال ليس لغويًا صرفًا، بل قانوني وسيادي بامتياز، خصوصًا في الحالة الجزائرية.
إن الخلط بين مفهومي “الاستعمار” و”الاحتلال” لا ينطوي فقط على سوء تعبير، بل يحمل في طياته انحيازًا ضمنيًا قد يُفضي إلى تمييع الجريمة وتخفيف وطأتها القانونية والرمزية، ويأخذ هذا الخلط في الجزائر طابعًا مركبًا، إذ يُستبدل مصطلح “الاحتلال” بمفردة “الاستعمار” حتى في الخطاب الرسمي، على الرغم من أن الواقع التاريخي وما ترتّب عنه من انتهاكات جسيمة لا يترك مجالًا للبس.

المصطلحات ليست بريئة: تفكيك لغوي وقانوني

من منظور لغوي وتاريخي، يُحمّل مصطلح “الاستعمار” دلالة توسعية ذات نزعة تحديثية، تُغلّف الحضور العسكري والسياسي بقناع “التمدّن”، في المقابل، يُعدّ “الاحتلال” وصفًا قانونيًا دقيقًا لفرض السيطرة بالقوة، دون رضى الشعوب، وبما يخرق السيادة الوطنية.

الاستعمار (Colonisation): مصطلح ذو خلفية أيديولوجية، يُشيع صورة مضللة عن نقل الحضارة والحداثة.

الاحتلال (Occupation): توصيف قانوني يحمّل الدولة المُحتلّة مسؤوليات محددة بموجب اتفاقيات لاهاي وجنيف.

التمييز بين المصطلحين لا يتعلق بالتفاصيل اللفظية، بل بتوصيف الجريمة، وتحديد المسؤول، وصياغة المطالب المستقبلية؛ كل مصطلح ينتج خطابًا سياسيًا وقانونيًا مغايرًا، ويؤسس لوعي جمعي مختلف.

الاحتلال الفرنسي للجزائر: توصيف لا مجاز

ما حدث في الجزائر بين 1830 و1962 لم يكن مجرد سيطرة سياسية ذات غطاء إداري، لقد كان احتلالًا دمويًا، تحوّل إلى مشروع استيطاني قائم على الإبادة والاقتلاع والتطهير الثقافي؛ من المجازر إلى التفجيرات النووية، ومن مصادرة الأراضي إلى محو الهوية، حملت فرنسا صفة المحتلّ لا المستعمِر، بحكم الواقع والقانون معًا.
لكن، رغم هذه الحقيقة الدامغة، لا يزال مصطلح “الاستعمار الفرنسي” يُستخدم في الإعلام، والمناهج التعليمية، وأحيانًا في الوثائق الرسمية، مما يُفرغ الواقعة من دلالتها القانونية ويُضعف خطاب المطالبة بالعدالة.

ثانيًا: لماذا نرفض مصطلح “الاستعمار” في الحالة الجزائرية؟
ليس كل استعمارٍ احتلالًا من الناحية الاصطلاحية، لكن في الحالة الجزائرية، كل ما فعله الفرنسيون كان احتلالًا بمواصفات صارخة؛ ومع ذلك، لا تزال مفردة “الاستعمار” تتكرر في الخطاب الإعلامي والأكاديمي وحتى السياسي، وهو ما يدعونا إلى تفكيك هذا الاستخدام وكشف مخاطره الرمزية والقانونية.
قد يُجادل البعض بأن الخلاف في التسمية لا يغيّر من فظاعة الجرائم المرتكبة، لكن الردّ على ذلك يكمن في الواقع ذاته: التسمية الخاطئة تؤدي إلى تقليص حجم الجريمة، وإلى إعادة تأويل دوافعها ومآلاتها؛ وما جرى في الجزائر لم يكن مجرّد “حكم استعماري”، بل احتلال دموي متكامل الأركان، تحوّل إلى مشروع استيطاني اقتلاعي.
في السياق الجزائري بالذات، حيث ما تزال الذاكرة التاريخية حية، وما تزال آثار الاحتلال ماثلة في النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، فإن الدقة في اختيار المفردات ليست مجرد مسألة أكاديمية أو لغوية، بل هي مسألة سيادة رمزية وتاريخية.
ولذلك، فإن الحديث عن “الاستعمار الفرنسي” يجب أن يُستبدل، في الأدبيات القانونية والسياسية الجزائرية، بـ”الاحتلال الفرنسي”، لأنه:
– يعكس الحقيقة التاريخية للقوة المفروضة بالقهر.
-يُحمّل الطرف الفرنسي مسؤولية قانونية كاملة عن الجرائم المرتكبة، ومنها: الإبادة، السجن، النفي، التعذيب، والتفجيرات النووية.
– يفكّك خطاب “التمدين الاستعماري” الذي ما يزال يُروج له حتى اليوم في بعض الدوائر الفرنسية.
1-  السياق الجزائري : بين الغموض الاصطلاحي والحق في العدالة
                                                   توصيف مضلل = مسؤولية مهدورة
وقد يُجادل البعض بأن تغيير المصطلح من “استعمار” إلى “احتلال” لا يغير شيئًا من فظاعة الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر، لكن هذا الادعاء يغفل أمرًا جوهريًا: أن اللغة ليست انعكاسًا محايدًا للواقع، بل وسيلة لتأطيره قانونيًا وتاريخيًا؛ والتسمية الخاطئة تؤدي إلى تغييب المسؤولية، وإعادة تأويل دوافع الجريمة ومآلاتها.
فمصطلح “الاستعمار” يُستخدم كثيرًا في الأدبيات الغربية للدلالة على علاقة إدارية أو وصائية، بينما “الاحتلال” يُشير إلى وضع عدائي قائم على العنف العسكري وفرض السيطرة بالإكراه، كما تُحدده نصوص القانون الدولي.
وبالتالي، فإن الإصرار على توصيف الحضور الفرنسي في الجزائر بأنه “استعمار” هو في حقيقته إعادة إنتاج للرواية الفرنسية التي طالما ادّعت أن دخولها كان من أجل “تمدين” السكان ونشر “الحضارة الغربية”.
2-   الاحتلال كجريمة لا تقبل التجميل
ما جرى في الجزائر لا يندرج ضمن مفهوم “الاستعمار التقليدي” كما حدث في بعض المستعمرات التي حافظت على كياناتها السياسية المحلية؛ فرنسا لم تكتفِ بالحكم، بل:

صادرت الأراضي بشكل شامل.

هجّرت السكان الأصليين وأحلت محلّهم مستوطنين.

ارتكبت مجازر ممنهجة ضد المدنيين.

شنّت حربًا ثقافية ضد اللغة والدين والهوية.

قامت بتفجيرات نووية كارثية في الصحراء الجزائرية.

كل هذه الأفعال تُدرج في القانون الدولي ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهي تنتمي لمجال “الاحتلال القهري” لا “الاستعمار الإداري”.
3-   من ديباجة الدستور إلى التأسيس القانوني للخطاب
رغم هذا الوضوح التاريخي، بقي الخطاب الرسمي الجزائري لفترة طويلة يُكرر توصيف “الاستعمار الفرنسي”، ما فتح المجال أمام تأويلات تُضعف الموقف القانوني والدبلوماسي الجزائري. حتى التعديل الدستوري الأخير (دستور 2020) أبقى على هذا التوصيف، حيث ورد تعبير “الاستعمار” في الفقرة الثالثة من ديباجة الدستور.
وهذا ما يتطلب إعادة النظر في هذا التعبير لأنه ليس مجرد تفصيل لفظي، بل يساهم في:

إعادة توصيف الجريمة بصيغة قانونية دقيقة.

يعزز حق الجزائر في المطالبة بالاعتذار والتعويض.

يشكّل أرضية قوية للمرافعة أمام المؤسسات الدولية.

لكن مقترح هذا التعديل، رغم أهميته، لا يكفي إذا لم يُترجم إلى سياسات تعليمية وإعلامية ودبلوماسية متكاملة.
ثالثًا: دقة المصطلحات في خطاب الدولة الجزائرية:
لماذا يصر البعض على “الاستعمار”؟

رغم السردية الشعبية الحازمة تجاه فرنسا، فإن الخطاب الرسمي الجزائري تأخر في استخدام مصطلح “الاحتلال” لفترة طويلة؛ ما يدعونا إلى تحليل أهمية اعتماد المصطلحات القانونية الدقيقة في الوثائق الدستورية والسيادية.
إن الإصرار على استخدام مفردة “الاستعمار” (في الإعلام، وفي بعض النصوص الرسمية وحتى في المناهج) هو في جزء منه وراثة لغوية لما فرضته الآلة الفرنسية، وفي جزء آخر سوء فهم قانوني لمعنى المصطلحين.

كما أن بعض الباحثين الذين ينقلون عن الأدبيات الغربية، أو يتأثرون بالنزعة “الأكاديمية المحايدة”، قد يختارون مصطلح “colonialisme” دون وعيٍ بكامل أبعاده الأيديولوجية، غير أن هذه “الحيادية” تصبح انحيازًا حين تسوّي بين الضحية والجلاد، أو حين تصف الاحتلال العسكري بعبارة مخففة أو مضلّلة.

لماذا لا يزال البعض يصرّ على مصطلح “الاستعمار”؟
يمكن تفسير استمرار هذا الاستخدام بعدة عوامل:

إرث لغوي فرضه الاحتلال الفرنسي نفسه، حيث تم ترسيخ مفردات تُخفي طبيعة الجريمة.

التأثر بالأدبيات الغربية التي غالبًا ما تستخدم “Colonisation” دون حس نقدي.

محاولة “أكاديمية” للحياد، تُغفل أن الحياد في قضايا الذاكرة والسيادة قد يتحوّل إلى انحياز غير مباشر للمحتل.

هنا، لا بد من التأكيد: من يتحدث عن الاحتلال بمصطلحات المستعمِر، لا يُحرّر الخطاب، بل يُعيد إنتاج الهيمنة بصيغة رمزية.
رابعًا: بين القانون الدولي والعدالة التاريخية
التسمية لا تنتهي عند الحدود الرمزية، بل تتجاوزها إلى الإجراءات القانونية الدولية، فحين نصف ما جرى بأنه “احتلال”، نفتح المجال أمام منظومة كاملة من المطالبات التي ترتكز على المسؤولية القانونية للدولة الفرنسية؛ أما مصطلح “الاستعمار”، فلا يوفّر الإطار القانوني ذاته للمطالبة بالحقوق أو ملاحقة الجريمة.

-توصيف “الاحتلال” يُحيل إلى قواعد قانونية واضحة في اتفاقيات لاهاي وجنيف.

-يسمح بالمطالبة بتعويضات عن الأضرار المادية والبيئية والبشرية.

-يفتح المجال أمام إثارة الملف في المحاكم الدولية أو اللجان الحقوقية.

-يساعد في بناء قضية ذاكرة جماعية مشروعة أمام الرأي العام العالمي.
أ‌-      في القانون الدولي: لكل كلمة تبعات
في منظومة القانون الدولي، لا يُعدّ “الاستعمار” توصيفًا قانونيًا قائمًا بذاته، بل هو وصف تاريخي عام، يُستخدم لوصف أنظمة السيطرة الأجنبية دون أن يترتب عليه إطار قانوني محدد، أما “الاحتلال”، فهو وضع قانوني مضبوط بأدوات واضحة في:

اتفاقيات لاهاي (1907)

اتفاقيات جنيف (1949)

البروتوكولات الإضافية

قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة حول عدم شرعية الاحتلال الأجنبي وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

وعليه، فإن اعتماد وصف “الاحتلال الفرنسي للجزائر” يتيح:

فتح ملفات الانتهاكات أمام الهيئات الحقوقية الدولية.

إسناد مطالب التعويض والاعتذار إلى أساس قانوني معترف به.

التصدي للروايات الفرنسية التي تُروّج لـ”الدور الحضاري” لفرنسا في الجزائر.

تعزيز المطالب التاريخية للجزائر بشأن الأرشيف، واستعادة الجماجم، والتعويض عن الجرائم النووية.

خامسًا: من أجل سيادة لغوية وعدالة رمزية
إن استخدام مصطلح “الاحتلال” لا يجب أن يقتصر على الوثائق الدستورية، بل يجب أن يتحول إلى سياسة لغوية شاملة تشمل التعليم، الإعلام، والدبلوماسية.
1- نحو استراتيجية وطنية للمصطلحات السيادية
اللغة ليست أداة حياد، بل ميدان نضال، ومعركة المصطلحات هي وجه من وجوه معركة التحرّر المستمرة، لا سيما في البلدان التي لم تنتهِ تجربتها بانسحاب المحتل، بل ما تزال تعاني من بقايا خطاب هيمنته، ومصطلحاته، ورواياته.

-استعمال “الاحتلال” هو تمكين للذاكرة وتحرير للوعي.

-هو استعادة للسيادة الرمزية، وإدانة قانونية، وتأطير لمطالب مستقبلية.

-يجب أن يتحول هذا الوعي إلى سياسة لغوية وإعلامية وتعليمية ثابتة.

ولعل أوّل خطوة في هذا الاتجاه، أن لا نقول بعد اليوم “الاستعمار الفرنسي للجزائر”، بل “الاحتلال الفرنسي”، دون تردّد أو مجاملة لفظية.
2-الكلمة التي تسترجع السيادة
إن التحرر لا يكتمل بالانسحاب العسكري فقط، بل يتحقّق باسترجاع الذاكرة، وتحرير الخطاب، وإعادة تسمية الأمور بمسمياتها العادلة؛ فمصطلح “الاستعمار” لا ينقل الحقيقة التاريخية للفظائع المرتكبة في الجزائر، بل يُجمّلها ضمن إطار توسعي مموّه، أما “الاحتلال”، فيُجسّد واقع السيطرة بالقوة، ويُمهّد لمرافعة قانونية منصفة.
إن المعركة من أجل دقة المصطلح ليست مجرد جدل لغوي، بل هي حلقة في سلسلة معركة الاستقلال الكامل: استقلال الأرض، والذاكرة، والوعي، وإذا كانت الشعوب تُقاس بقدرتها على الدفاع عن تاريخها، فإن أول ما يجب الدفاع عنه هو لغة هذا التاريخ.

لنقلها بوضوح: لم يكن الأمر استعمارًا حضاريًا، بل كان احتلالًا إجراميًا.

ولن تتحقق العدالة، حتى نسمّي الأشياء بأسمائها.

الخاتمة: المصطلح كمعركة سيادة وذاكرة وعدالة

في نهاية هذا المسعى التحليلي، تتضح لنا حقيقة مركزية وهي أن المصطلحات ليست محايدة، وأن استعمالها الخاطئ لا يقتصر على مجرد هفوة لغوية، بل يتعدى ذلك إلى كونه فعلاً سياسيًا وتاريخيًا له ما بعده من تبعات قانونية ورمزية.

لقد أثبت أن توصيف ما حدث في الجزائر بين 1830 و1962 على أنه مجرد “استعمار فرنسي” لا يعبّر بدقة عن واقع الاحتلال العسكري والاستيطاني القسري الذي فُرض على الشعب الجزائري، فمصطلح “الاستعمار” يوحي غالبًا بنوع من الحضور الإداري المرتبط بنزعة تمدينية أو تحديثية، وهو ما تستغله بعض الخطابات الفرنسية لتبرير جرائم لا تقبل التبرير، في المقابل، فإن مصطلح “الاحتلال” يحيل إلى وضع قانوني دقيق في القانون الدولي الإنساني، يرتب مسؤوليات واضحة ويمنح ضحاياه حق المطالبة بالتعويضات والاعتذار والاعتراف.

كما بيّن التحليل أن اختيار المصطلح يحدد طبيعة الخطاب الوطني والسيادي للدولة الجزائرية، فإما أن يكون خطابًا يطالب بـ”تصحيح التاريخ والعدالة الرمزية”، أو يكون خطابًا يتساوق (من حيث لا يدري) مع سرديات المستعمِر حول “الرسالة الحضارية”.

وعليه، فمسألة استخدام مصطلح “الاحتلال” بدل “الاستعمار” ليست ترفًا لغويًا، بل ضرورة قانونية واستراتيجية خطابية، وموقف منصف للضحايا، ومكوّن من مكوّنات العدالة التاريخية، وضمن هذا الإطار، يقترح توصيات ختامية الآتية :

تقنين المصطلح الصحيح:

ندعو إلى إدراج مصطلح “الاحتلال الفرنسي” بشكل صريح ومنهجي في جميع الوثائق الدستورية والقانونية والسيادية الجزائرية، وخاصة في ديباجة الدستور مستقبلاً(عند أي مراجعة دستورية محتملة)، تأكيدًا على التوصيف القانوني الدقيق للوجود الفرنسي في الجزائر.
أما اليوم في الجزائر، ونحن بصدد مناقشة مقترح قانون يُجرّم الاحتلال الفرنسي، مما يمنح هذه الدعوة راهنية خاصة، وفي هذا السياق، نوجّه دعوة إلى اللجنة البرلمانية المختصة لأخذ هذا المقترح بعين الجدية، والعمل على اعتماد مصطلح “الاحتلال” بدلًا من “الاستعمار” في نص القانون وفي سائر النصوص القانونية، والدبلوماسية، والبرامج التعليمية، تعزيزًا للسيادة الرمزية والتأصيل القانوني لمطالب العدالة والاعتراف.

تعديل المناهج التربوية والإعلامية:

ينبغي على وزارة التربية والتعليم ووسائل الإعلام الوطنية مراجعة المقررات والبرامج لتفادي استعمال مصطلح “الاستعمار الفرنسي” واستبداله بـ”الاحتلال الفرنسي”، وذلك لضمان التنشئة على الوعي القانوني والدلالي الصحيح.

إلزامية المصطلح في الخطاب الدبلوماسي:

ينبغي أن يتبنّى الخطاب الدبلوماسي الجزائري في المنابر الدولية، وفي كل المراسلات مع فرنسا أو الأمم المتحدة، تعبير “الاحتلال الفرنسي للجزائر”، بوصفه تعبيرًا قانونيًا دقيقًا يرتّب تبعات حقوقية.

ترجمة المصطلح بدقة في اللغات الأجنبية:

يجب أن تُترجم عبارة “الاحتلال الفرنسي” إلى ما يقابلها قانونًا في الفرنسية (occupation française) والإنجليزية (French occupation)، لا إلى “colonisation” أو “colonial rule”، لأن ذلك يُخفي الطابع القهري للاستعمار.

إنشاء هيئة وطنية لمصطلحات السيادة والذاكرة:

نقترح إنشاء هيئة علمية قانونية ولغوية تعمل على ضبط استعمال المصطلحات السيادية والتاريخية في الفضاء العام، على غرار “مجلس أعلى للذاكرة والمصطلحات”، يربط بين التأصيل العلمي والقرار السياسي.

ربط المصطلح بحقوق التعويض والاعتذار:

إن اعتماد مصطلح “الاحتلال” يؤسس قانونيًا لمطالبات رسمية أمام المحاكم الدولية أو الهيئات الأممية بالتعويض عن الجرائم المرتكبة، بما فيها التفجيرات النووية، ونهب الثروات، والقتل الجماعي، وهي ملفات لم تغلق بعد.

تجريم التبرير الرمزي للاحتلال:

على غرار بعض التشريعات الأوروبية التي تجرّم إنكار المحارق، يمكن اقتراح نص قانوني جزائري يُجرّم خطاب تبرير الاحتلال الفرنسي أو تقديمه في صورة “مهمة حضارية”، لما في ذلك من طمس للجرائم والمساس بالكرامة الوطنية.

خاتمة الختام:
إذا كنا نريد خطابًا قانونيًا وسياسيًا يسترجع السيادة الرمزية والتاريخية للجزائر، فعلينا أن نكون دقيقين في المفاهيم،  فـ”الاستعمار” هو مصطلح استخدمه الفرنسيون لتزييف واقع الاحتلال، بينما “الاحتلال” هو المفردة الأصوب قانونيًا وتاريخيًا لتوصيف ما جرى.
إن كل كلمة تحمل ذاكرة، وتحمل موقفًا، ولذا فإن إعادة الاعتبار لمصطلح “الاحتلال” ليس فقط مسألة لغوية، بل هو خطوة في سبيل العدالة التاريخية والسياسية.
إذا كانت الدول تُقاس بمدى قدرتها على تحرير أرضها، فإن الأمم تُقاس بمدى قدرتها على تحرير لغتها وخطابها وذاكرتها، وقد حرّرت الجزائر ترابها بالدم، ولكن عليها أن تحرّر مصطلحاتها بالوعي، وتستكمل معركتها القانونية والسيادية بترسيخ الحقيقة كاملة: لم يكن الأمر استعمارًا حضاريًا، بل كان احتلالًا إجراميًا، ويجب أن يُقال ذلك دون تحفّظ، لأنه جزء من العدالة، والعدالة لا تتحقق إلا إذا سُمّيت الأشياء بأسمائها.

باحث في القانون العام والنظم السياسية المقارنة – جامعة عنابة

عضو مخبر القانون والعمران والبيئة

الايميل: [email protected]