أ. د. هاني الضمور: صراعات السياسة: بين الفوضى السياسية وافتقار القيم الإلهية

ا د هاني الضمور
في خضم الصراع المحموم على السلطة، وفي زمنٍ ضاعت فيه القيم، وتبدّلت فيه المفاهيم، تخرج إلينا رواية “الصرصور” للروائي البريطاني إيان ماكيوان، لا بوصفها نصًا أدبيًا ساخرًا فحسب، بل بوصفها مرآة مُرّة لحال السياسة في عالم اليوم. في الرواية، يستيقظ صرصور في جسد رئيس وزراء، ويتسلل إلى مفاصل الدولة، ويبدأ في فرض نظام جديد قائم على مبدأ “اقتصاد الانعكاس”، حيث تنقلب المعايير، ويُكافأ المستهلك، ويُعاقب المنتج، وتُختزل الكرامة في الحيلة، وتُستبدل الحكمة بالدهاء.
ولعل ما يثير الأسى، أن هذا الخيال الساخر لم يعد خيالًا. فالعالم اليوم يشهد صعود نوع من القيادات لا تختلف كثيرًا عن الصرصور في طباعه ودوافعه. قادة لا يرون في شعوبهم سوى وسيلة للبقاء، ولا يحكمون بعقل رشيد، بل بغرائز بدائية: التسلّط، الإقصاء، الجشع، والخوف من النور — النور الذي هو في نظرنا، نور الحق، والعدل، والهدى.
من منظور إسلامي، فإن هذا الانحدار ليس مجرد أزمة سياسية، بل هو اختلال في فهم معنى الإنسان، ووظيفته في الأرض. فالخلافة التي شرف الله بها الإنسان، وجعلها سبب وجوده، لم تكن تفويضًا مطلقًا للعبث، بل أمانة عظيمة، تستوجب العدل، والمراقبة، وإقامة القسط بين الناس. يقول الله عز وجل:
{إني جاعل في الأرض خليفة}،
ويقول أيضًا:
{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
لكن ما نراه اليوم هو نقيض ذلك. لقد تحولت السياسة في كثير من دول العالم إلى مستنقع، تزحف فيه “الصراصير البشرية” — أولئك الذين لبسوا ثياب البشر، لكن دوافعهم لم ترتقِ عن مستوى الحشرة: التكاثر العددي بلا غاية، الولاء الأعمى، والبحث عن السلطة بأي ثمن. وهنا نستحضر قول الله تعالى:
{أولئك كالأنعام بل هم أضل}،
ليس لأنهم بلا عقل، بل لأنهم عطلوا عقولهم، واتبعوا أهواءهم، واتخذوا من المناصب مظلة للظلم والاستعلاء.
في الرواية، يحاول الصرصور أن يُعيد تشكيل المجتمع وفق منطق حشري، لكنه يجد تجاوبًا عجيبًا من الناس. وهذا ليس استهزاءً بالناس بقدر ما هو نقد مرير لحالة الانقياد الجماعي حين يغيب الوعي، ويُغيّب الخطاب الأخلاقي. فالخطر ليس في وجود الفاسد على الكرسي، بل في قبول الأمة له، وتصفيقها له، وتبرير أفعاله، كما جاء في الحديث النبوي الشريف:
“كما تكونوا يُولّى عليكم”.
ولا نبالغ إن قلنا إن كثيرًا من الشعوب اليوم أصبحت تُحكم بنفس منطق الصرصور في الرواية. يُروَّج فيها لسياسات الفوضى تحت اسم الحرية، وللعنصرية تحت شعار الوطنية، وللاستهلاك المحموم تحت مسمى الرفاه، بينما يُحارب العلم، وتُهمّش القيم، ويُسحق الضعيف باسم “القانون”.
لقد حذرنا القرآن الكريم من هذا الانقلاب في المعايير، فقال:
{أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسنًا؟ فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء}.
إنها مشكلة التزييف، لا في الأقوال فقط، بل في الضمائر، حين يُصبح الباطل حقًا، والحق سخرية، كما فعل الصرصور في الرواية حين جعل من الجنون سياسة دولة، ومن اللامعقول منطلقًا للإصلاح.
الإسلام لا ينظر إلى السياسة كفن للمراوغة، بل كأداة لإقامة العدل. وقد وصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم الإمامة بأنها أمانة، وقال:
“إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها.”
فكيف إذن نرضى أن يتولاها صرصور؟ أو أن نُبرر لصرصور آخر لأنه “يشبهنا” أو “يعبر عنا”؟
إن رواية “الصرصور”، برغم خلفيتها الغربية، تدق ناقوسًا عالميًا، ينذر بسقوط الإنسان يوم يتنازل عن عقله، ويتخلى عن قيمه، ويُسلّم قياده لحاكم لا يعرف من الإنسانية سوى الشكل.
ولذا فإن أول الطريق نحو الخروج من هذا المستنقع ليس في الثورة على الصراصير فحسب، بل في الثورة على أنفسنا، في مراجعة معاييرنا، في استعادة مفهوم الخلافة الحقّة، التي تُقيم العدل، وتخشع لله، وتحكم بما أنزل، لا بما تهوى النفوس.
فهل آن للناس أن يميزوا بين الخليفة والصرصور؟
وهل آن لنا أن نُدرك أن الحُكم، في ميزان الله، عبادة ومسؤولية، لا مكيدة سياسية ولا مسرحية انتخابية؟