محمد عزت علي الشريف: العلاقة بين مبارك وصدام وثروات النفط المهدرة

محمد عزت علي الشريف: العلاقة بين مبارك وصدام وثروات النفط المهدرة

محمد عزت علي الشريف
  كانت لصدام حسين رحمه الله رؤيةٌ عميقةٌ، تنظر إلى الموارد والقدرات الاقتصادية العربية نظرةً كُليّةً شاملة لا تتعدد ولا تتجزأ، وكان مؤمناً رسيخاً  بالوحدة الاقتصادية العربية حتى وإنْ تعثرت أو تعطلت الوحدة السياسية، ويقول أنّ قدرة الأمة ككل ليست محصلة جمع قدرات كل قُطر على حِدَةٍ، بل هي أكبر من ذلك بكثير؛ إنها مُحصِّلة تفاعل تلك القدرات المتعددة والمتنوعة، وشتان – حسابياً –  بين حاصل الجمع وحاصل الضرب.
 ورغم وضوح رؤية صدام حسين الاقتصادية في التفاعل والتكامل للاقتصاد العربي والتخطيط له كوحدة واحدة، إلا أن الكثيرين من الحكام والحكومات لم ينصتوا إليه بما يكفي لأن يفهموا ويستوعبوا أفكار وأُطروحات الرجل الاقتصادية رغم أنه كان أستاذاً في الاقتصاد، وله كُتُبٌ تُدَرّس في كليات الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد وغيرها من الجامعات، إلا أنهم لم يأخذوا ما يقوله ويطرحه الرجل بعناية وجدّيّة؛ حتى أنّ مَقولته الشهيرة وقتئذ: “نفط العرب للعرب” تَلَقّاها الكثيرون في وقتها للأسف  بلا مبالاةٍ  ولا مسئوليةٍ حدّ السخرية، و كثيراً ما كانوا يتداولون في أحاديثهم و أسمارهم نادرة المحاسب المصري الذي عبّأ بحقائبه كل الأموال التي كانت في عُهدته بخزينة البنك العراقي الذي كان يعمل به، ورحل تاركاً بالخزينة قصاصة ورق مكتوباً عليها :”نفط العرب للعرب”.
 وبعد أزمنة مديدة وأحداث عديدة مرّت على المقولة بل وعلى رحيل قائلها رحمه الله؛ و بعدما رأينا ما يحدث الآن لنفط العرب وأموال نفط العرب، وأين تذهب وفيما تُستَخدَم، ومَن المستفيد منها ومَن المتضرر بها، ومَن جاع ومَن تَعَرّى ومَن قُتل ومَن تَشَرّد من أبناء أمة العرب على مرأى ومَسمع حكومات وحكام وملوك وأمراء وسلاطين النفط و قناطير أمواله المُقنطرة؛ أقول بعد كل هذا العبث والسفه الشائع في كل تَفصِيلَةٍ من تفاصيل المشهد الحاضر الآن:
  إنني أرى أنّ صدام حسين رحمه الله عندما قال “نفط العرب للعرب” كان قد قال نصفَ الحقيقة، أما تمام الحقيقة التي كان على الرجل أن يُصَرِّح بها ولا يَكتُمُها أنه كما أنّ نفط العرب للعرب فإنه من تمام الحكمة أيضاً أنّ “نفط العرب على العرب”.
 وأنا اليوم إذ أُُعلنها من بعده، فإنني هنا لا ألوم أو أنتقد أو أُنَظِّرُ- بل أُرهِصُ و أُؤشِّر وأُحذر من وبالٍ قادم سيحل بنا حتماً من هذا النفط السائل والمُخَزَّن وذلك المال السائب والمُحَصّن.
فبزيارة خاطفة من ترامب الأمريكان انسابت عليه الأموال من ممالك الخليج العربي – في الوقت الذي امتنعت فيه تلك الأموال وتَحَصّنَت واحتجبت عن أن يراها بعينه أو يَشُمُّها بأنفه  طفل غزاوي واحد جائع أو مُتَعَرٍّ، أو مُصاب، أو مَطاردٌ مُشَرَّد!.
ما ألمح إليه صدام حسين أحياناً وما صرّح به في حواراته الثنائية مع قادة ومسئولين عرب قبل أكثر من 30عاماً بل وما أذاعه أحيانا بوسائل الإعلام العراقية المحلية آنذاك – لم يكن فلسفة عندما قال أن حالة الثراء الفاحش لدى الشاب الخليجي هي ما تخلق حالة الفقر المُقْعِد للشاب المصري أو السوداني أو السوري  أو الموريتاني؛ عن المشاركة الفعالة في دفع قطار التنمية في بلاده والأمة وتَبَنِّي مشاريعها وقضاياها القومية.
ولكل مقام مقال ولكل مقال مجال، ولا يتسع لي هنا المجال لأشرح ما أراها اليوم بديهية اقتصادية – تلك التي طرحها صدام حسين ولم يأخذها الحكام والمسئولون العرب مأخذ الجدّ؛ حتى أنّ الدكتور مصطفى الفقي مستشار الرئيس مبارك في حينها يقول أنه عندما كان حاضراً لقاء مبارك وصدام في بغداد سمع من صدام حسين ما قاله لمبارك من أنه  إنما يريد بذلك أن تعيش المرأة المصرية الفقيرة في أقاصي الصعيد في بحبوحة وسعة وكفاية مادية لا تقل عن قرينتها المرأة العربية في الخليج – فما كان ردّ مبارك عليه إلاّ أن قال له وبحدّه : لا عليك من فقر المرأة في الصعيد ولا في غير الصعيد، نحن في مصر كُفلاء بمعالجة تلك الأمور!
لم يكن مبارك يخلو من فهلوة مصرية تصل حدّ الأوانطة والمغالطات الكلامية التي يجيدها أبناء الشوارع في الحواري والأزقة المصرية العشوائية.
  وأنا أتَذكّر جيداً تتمة تلك الحوارات والجدالات والتي وصلت حدّ الملاسنات في ذلك الوقت – حتى أن مبارك ما كاد يصل القاهرة بعد لقائه بالرئيس صدام حتى أدلى لوسائل الإعلام المصرية بعبارات لا تليق بمستوى ملاسنات الحريم في أي حارة شعبية مصرية، لقد خاطب مبارك الرئيس صدام حسين من خلال وسائل الإعلام المصرية خطاباً لا يخلو من “تَرْمِية مصرية” وتلميحات استفزازية قائلاً بالحرف: ” المرأة المصرية فقيرة، ولكن لديها كرامة”!.
  تَلَقّى صدام حسين الرسالة جيداً وفهم مراميها وتلميحاتها، و ردّ على مبارك في رسالة مفتوحة واصفاً إياه بـ “الخفيف” قائلا: كلنا كنا فقراء، فأمّا أنا فلم أكن  من طبقة مرتفعة مادياً وحتى أنت لا أظن أباك كان ” بِيْه أو باشا” أو اقطاعياً مصرياً، ولكن على كل حال لا علاقة للمستوى المادي بالوضع الاجتماعي، فأنا على سبيل المثال وإن كان وضعي الاجتماعي مُشَرَّفاً بالانتساب إلى جَدِّنا الإمام الحسين عليه السلام؛ إلا أنّ وضعي المادي كان متواضعاً وبسيطاً، ولكن على كل حال  أنا وأنت الآن أصبحنا في موقع المسئولية، وعلينا أن نكون الأكثر إحساساً بالفقر، وقُرباً من الفقراء والمحتاجين من أبناء شعوبنا الكريمة.
 عندها، ترك مبارك كل ما جاء في رسالة صدام حسين من تفاصيل، ومن ثم أمسك بعبارة الرئيس صدام التي ذكر فيها نسبته إلى مولانا الإمام الحسين، وعلّقَ مبارك على ذلك أمام حشدٍ من أتباعه وإعلامييه – باستخفاف يليق بوصف صدام حسين له بالخفيف قائلا في سخرية: صدام حسين لم يهتم بكل تفاصيل حلول أزمة الكويت المقترَحة، واهتمّ فقط بأن يُعْلِمَنا أنّ جدّه هو الإمام الحسين، واستطرد مبارك وسط ضحكات أتباعه الساخرة: خلاص يا سِيْدي، مادام جدّك الحسين، يحق لك أن تقول فينا ما تشاء، ولا يحق لنا الردّ عليك بالمثل، فنحن لا يمكننا أن نشتم رجلاً جَدّه الحسين – وإلا دَخَلنا النار!.
ومن ثم أطلق مبارك العنان للأصوات والأقلام في كل وسائل إعلامه تنسج على منواله في الاستفزاز والسخرية والاستخفاف.
ويمر الزمان وتتكاثر الأحداث ويذهب صدام إلى ربه مدافعاً عن الأرض والعرض والمبادئ والقِيَمِ ثابتاً مِقداماً غير ناكصٍ ولا متراجع.
فيما بقى مبارك في الحكم ثلاثين عاماً ولم يَحُلّ مشكلة الفقر والاحتياج التي يرزح تحتها الغالبية المغلوب على أمرها من أبناء شعبه.
وبقى المؤشِّر الذي حَذَّرَ منه صدام حسين في اطّراد، فملوك وأمراء النفط العربي تتضخم ثرواتهم، وسواد أبناء الأمة العربية يتفاقم فقرهم واحتياجهم، وتزداد معاناتهم وتتعمق جراحهم.
  وأنا هنا، لم آتِ سارداً  للأقوال و معلّقاً على الأحداث فحسب..
بل جئت صارخاً أن هذا المال الخليجي السائب  لن يتوقف دورُه على مَلء الخزائن والمصارف الأمريكية فَحسْب، بل سيتعدى دوره إلى شراء الضمائر والذمم، ويتجاوز إلى شراء أراضٍ وحكامٍ وحكومات تكون مؤيِّدةً ومستعدة لاستقبال مئات آلاف الفلسطينيين؛ لحشرهم جميعاً في وطنٍ بديل، وليكن ذلك الوطن ما يكون –  شرط أن يكون خارج حدود دولة فلسطين التاريخية؛ التي أعملوا فيها معاول الهدم منذ زمن، ليعيدوا بناءها من جديد؛ وطناً صهيونياً خالِصاً يليق بهم، على قياس أطماعهم ووَصْفِ أحلامهم، ووَفْقَ شروطهم، و رضاء غرورهم.
أديب وكاتب مصري