جورج كرزم: الديناميات الهيدروسياسية: استنزاف إسرائيلي كبير للموارد المائية العربية وضعف ادعاءات الاحتلال بعدم توفر المياه في فلسطين

جورج كرزم: الديناميات الهيدروسياسية: استنزاف إسرائيلي كبير للموارد المائية العربية وضعف ادعاءات الاحتلال بعدم توفر المياه في فلسطين

 

جورج كرزم

على ضوء ممارسة دولة الاحتلال الإسرائيلي سياسة تعطيش الملايين في قطاع غزة، وغزوها، خلال الأشهر الأخيرة، لمناطق شاسعة غنية بالموارد والأحواض المائية والأنهار والسدود في جنوب سوريا، واستخدامها المياه كأداة ضغط سياسية وسلاح ضد العرب، يعالج المقال التحليلي التالي الوقائع الهيدرولوجية على الأرض، وعمليات النهب الإسرائيلي الضخم للموارد المائية الفلسطينية والعربية، والتي تُكَذِّب المزاعم الإسرائيلية حول الجفاف المائي. فالمعدل السنوي طويل الأمد (عشر سنوات) لهطول الأمطار في منطقة القدس على سبيل المثال لا الحصر، قريب جدا من معدل الأمطار في العواصم الأوروبية؛ إذ أن كمية الأمطار في القدس أعلى من برلين، وكمية الأمطار في رام الله أكثر من باريس! (مسرشمد، كلمنس. أزمة المياه في فلسطين، 2011).
سياسة الاحتلال الإسرائيلي الإجرامية المتمثلة بحظر الوصول إلى المياه عن طريق قطع الكهرباء والوقود عن قطاع غزة، وبالتالي تعطيش وتجويع أهالي القطاع، تسببت في انتشار سوء التغذية الحاد، وخاصة بين الأطفال، علما أن 97% من مياه الخزانات الجوفية غير صالحة للاستهلاك الآدمي. وحاليا، يشرب معظم أهالي غزة، مُرغمون، مياه غير صالحة للاستخدام البشري، بينما يفتقر البعض الآخر حتى للمياه الملوثة أصلا. وبسبب عدم قدرتهم على الاستحمام، أصيب العديد من أهالي قطاع غزة، وبخاصة الأطفال، بأمراض جلدية مثل الجرب، بالإضافة إلى اليرقان والإسهال، وهي أمراض ناتجة عن غياب المياه النظيفة الآمنة. وبالطبع، استمرار نفاد الوقود الموجود في قطاع غزة من شأنه أن يتسبب بـانهيار كامل لنظام المياه المتبقي، ما سيؤدي إلى قطع وصول الناس نهائيا للمياه.
الاحتلال دمر أكثر من 700 بئر مياه و73 محطة لضخ المياه العادمة في قطاع غزة (المكتب الإعلامي لحكومي في غزة)، وعرقل حصول المدنيين على المياه، ما أدى إلى تفاقم أزمة المياه وتزايد معدلات الأمراض المرتبطة بتلوثها. وحاليا، حصة الفرد الغزي من المياه نحو 3 لترات يوميا، وإنتاج المياه المحلاة انخفض في مناطق وسط وجنوب القطاع بأكثر من 80%.
وفي ظل صمت دولي وعربي مريع، يواجه نحو 2.3 مليون فلسطيني كارثة إنسانية غير مسبوقة، من حيث حرمانهم المياه النظيفة وارتفاع معدلات الجوع والعطش وسوء التغذية الحاد، خاصة بين أكثر من مليون طفل وكبار السن في القطاع، جراء مواصلة الاحتلال حصاره المطبق للقطاع وإغلاقه المعابر ومنعه إدخال المساعدات الإنسانية.
قطاع غزة يعاني من أزمة مياه خانقة تهدد حياة الملايين الذين يواجهون الموت البطيء، في ظل انعدام مصادر المياه الصالحة للشرب وتفشي الأمراض بسبب التلوث وانعدام الخدمات الصحية.
وبحسب سلطة المياه الفلسطينية والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، دمر الاحتلال أكثر من 85% من مرافق خدمات المياه والصرف الصحي بشكل كلي أو جزئي، وأخرجها عن الخدمة.
وبدعم أميركي ترتكب إسرائيل منذ 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023 جرائم قتل جماعي في قطاع غزة، خلّفت أكثر من 172 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود؛ أي أن أكثر من 8% من سكان قطاع غزة هم في عداد الشهداء والجرحى والمفقودين.
مغالطات وتشويه الحقائق
المفارقة المثيرة أن إسرائيل، خلال العقود الأخيرة، مارست عملية تهويل منهجية حول شح المياه المزعوم. إذ طالما حاولت أوساط إسرائيلية رسمية تسويق الزعم القائل بأن فلسطين (التاريخية) تعاني من الجفاف المائي، لتبرير مواصلة هيمنتها المطلقة على المياه الفلسطينية، وحجبها بالتالي عن الفلسطينيين الذين يعانون من العطش الحقيقي، كما في قطاع غزة (قبل عدوان 7 أكتوبر 2023) ومنطقة الخليل في فصل الصيف على سبيل المثال؛ علما أن أكثر من 97% من المياه “العذبة” في غزة ملوثة وغير صالحة للشرب.
الحقيقة أن حوض المياه الجوفية الجبلي الغربي الذي يمتد على طول الضفة الغربية والجليل، يعتبر الحوض المائي الأكبر والأغنى والأكثر جودة في فلسطين ويتمتع بتغذية عالية، وتنهب إسرائيل جل مياهه. وهذا يفسر الهدف الهيدرو-سياسي الاستراتيجي لمسار جدار الفصل العنصري تحديدا؛ إذ تَحَدَّد مساره على طول الحوض الغربي والآبار الإسرائيلية التي تمتص مياهه. وضمت إسرائيل المستوطنات الواقعة فوق مناطق هذا الحوض الغنية بالمياه إلى غرب الجدار؛ علما أن هذه المناطق تحديدا تحوي أضخم احتياطي من المياه يمكن أن تعتمد عليه أي “دولة فلسطينية مستقبلية”.  وبالتالي، فإن سلخ هذه المناطق لصالح إسرائيل، يعني منع الفلسطينيين من تطوير مصادرهم المائية في الحوض الغربي، وبالتالي فإن مثل هذه “الدولة” ستكون دون مخزون استراتيجي من المياه.
إذن، يرتكز الجدار بالأساس إلى ضم أراضٍ واقعة في الحوض الغربي، ما يعني سيطرة الاحتلال سيطرة مطلقة على مصادر المياه في هذا الحوض، ومنع أي تأثير فلسطيني عليه.  وليس الادعاء الإسرائيلي الأمني لإنشاء الجدار سوى ستار مضلل لإخفاء حقيقة الأهداف الجيوسياسية – الإستراتيجية الحقيقية المتمثلة أساسا في تخليد السيطرة على الموارد الطبيعية والمائية ونهبها.
كما يتم نهب المياه من جبال الضفة الغربية وربطها بنفس الخطوط. وتُضخ مياه طبرية أيضا على هذه الخطوط الرئيسية. ومع ذلك، يزعم الاحتلال الإسرائيلي بأنه لا توجد أحواض مائية يمكن أن “يمنحها” للفلسطينيين.
الضفة الغربية تحديدا، تتمتع بكميات كبيرة من المياه الجوفية، والقليل من المياه السطحية مثل الأنهار والبحيرات؛ بمعنى أن معدل الجريان السطحي فيها منخفض، بينما معدل تغذية المياه الجوفية مرتفع.  وفي الواقع، المقولة الشائعة بأن فلسطين بلد جاف مائياً عبارة عن مغالطة، وبخاصة لدى الحديث عن المناطق الجبلية مثل الضفة الغربية والجليل؛ إذ أن فلسطين تعد من بلدان المشرق العربي القليلة التي تحوي كميات مستدامة من مصادر المياه المتجددة (المصدر السابق).
حاليا، تنهب إسرائيل أكثر من 85% من المياه الجوفية في الضفة الغربية، أي أكثر من 460 مليون متر مكعب سنويا(معظمها من الحوض الغربي)، لتغطية أكثر من 25% من استعمالات المياه في إسرائيل، تاركة أقل من 15% فقط (أقل من 118 مليون متر مكعب سنويا) لتلبية جميع الاحتياجات المائية الفلسطينية.  وبالطبع، يحرم الفلسطينيون من حقهم في استخدام ثروتهم المائية المتمثلة في نهر الأردن والتي كانوا يستخدمونها جزئيا قبل حزيران عام 1967.
وحسب مصادر هيئة المياه الإسرائيلية (قبل عدوان أكتوبر 2023)، يستخدم، أكثر من 5 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة نحو 328 مليون متر مكعب سنويا من مصادرهم المائية، وذلك لتلبية الاحتياجات المنزلية والصناعية والزراعية. وفي المقابل، يستخدم أكثر من 6 ملايين إسرائيلي أكثر من ملياري متر مكعب من المياه سنويا. ويبلغ استهلاك الفرد الفلسطيني للمياه 83 متراً مكعباً سنويا، مقابل نحو 400 متر مكعب للفرد الإسرائيلي (في إسرائيل). أي إن استهلاك الفرد للمياه في إسرائيل أعلى بنحو 4 – 5 مرات من استهلاك الفرد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة (قبل عدوان أكتوبر). حصة الفرد الفلسطيني لا تتجاوز ربع المعدل الموصى به من قبل منظمة الصحة العالمية.
ومن أبشع الوقائع الكولونيالية في فلسطين، رؤية نحو 700 ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية يتمتعون بوفرة غزيرة وغير محدودة من المياه. وفي المتوسط، يستهلك المستوطن الفرد في الضفة الغربية نحو 9 – 10 مرات ما يستهلكه الفرد الفلسطيني.
اللافت أن إسرائيل لا تمتلك كميات كبيرة من الموارد المائية في نطاق حدود إسرائيل، وإنما تعتمد على مصادر مائية خارج هذه الحدود، وتحديدا في الضفة الغربية وحوض نهر الأردن ولبنان وسوريا.  ويقدر حجم المياه المنهوبة إسرائيليا من مصادر تقع خارج إسرائيل بأكثر من 1103 مليون متر مكعب سنويا، منها حوالي 460 مليون متر مكعب من أحواض الضفة الغربية، والباقي، أي أكثر من 640 مليون متر مكعب، من حوض نهر الأردن.  وتعادل هذه الكميات ما يقارب 57% من مجمل الاستهلاك الإسرائيلي.
الوضع المائي الذي كان سائدا منذ ما قبل اتفاقيات أوسلو (عام 1993) وحتى اليوم لم يتغير في الجوهر، بل وضعت تلك الاتفاقيات قيودا ضخمة على أية عملية تطوير لقطاع المياه الفلسطيني، وثبتّت وكرّست الهيمنة الإسرائيلية المطلقة على مصادر المياه في الضفة الغربية والتي كانت قائمة أصلا قبل الاتفاقيات؛ إذ أقرت تلك الاتفاقيات للاحتلال تحكمه الكامل بسقف المياه “المسموح” للفلسطينيين؛ فهو يرفض مطلقا ليس فقط “السماح” للفلسطينيين بحفر آبار مياه جديدة، بل يرفض أيضا “منح” تصاريح لترميم الآبار المتهالكة.
 أي أن إسرائيل تسيطر وتتحكم بشكل فعلي وكامل ومطلق بموارد المياه الفلسطينية واستخداماتها وإدارتها وتوزيعها.
خلاصة القول، تتعامل إسرائيل مع موارد المياه الفلسطينية باعتبارها مسألة أمنية استراتيجية وجودية من الدرجة الأولى.  وهذا يؤكد ما قاله، في حينه، شمعون بيرس: “إن إسرائيل لن تسمح للفلسطينيين بالحصول على أية قطرة ماء إضافية من المصادر المائية التي تسيطر عليها إسرائيل حاليا”.
فائض مائي إسرائيلي كبير
الخبير الاقتصادي الإسرائيلي المعروف “يوفال إليتسور” كشف قبل أكثر من عشر سنوات (“هآرتس، 24/1/2014) بأن إسرائيل تتمتع حاليا بفائض مائي للاستهلاك البشري وللزراعة؛ وذلك، إلى حد بعيد، بسبب إقامتها بضع منشآت جديدة لتحلية المياه، وتطويرها حقول الغاز الطبيعي الذي يمكنه تشغيل تلك المنشآت بثمن بخس. لكن، رغم ذلك، ولأسباب سياسية واقتصادية واضحة، تحرص الجهات الحكومية الإسرائيلية على التقليل من شأن هذه الحقيقة، وتواصل زعمها بأن “البلاد” (أي فلسطين التاريخية إجمالا) تعاني من شح الموارد المائية، ويجب، لذلك، “الحفاظ على كل قطرة ماء”.
ومنذ حقبة الاحتلال البريطاني (1917-1948)، لعب الشح المزعوم للمياه في فلسطين ومحيطها دورا وتأثيرا حاسمين في الصراع السياسي بين الحركة الصهيونية والعرب. بل شكل الصراع على المياه أحد الأسباب الرئيسية لشن إسرائيل حربها العدوانية التوسعية في حزيران 1967. وفي ما سمي “معاهدة السلام” التي وقعت عام 1994 بين الأردن وإسرائيل، “تعهدت” الأخيرة بنقل 50 مليون متر مكعب من المياه سنويا إلى الأردن من روافد بحيرة طبريا.
ومنذ إنشائها، اعتبرت إسرائيل الموارد المائية مسألة أمنية استراتيجية من الدرجة الأولى، ودأبت باستمرار على زيادة الكميات المنهوبة ليس فقط من فلسطين، بل ومن سائر الأراضي العربية، وبخاصة لبنان وسوريا.  لذا، فإن الحكومة الإسرائيلية وحدها هي التي تقرر مباشرة كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالسياسة المائية.
لكن، وبحسب “إليتسور”، ولأغراض تعزيز الاستيطان الصهيوني في فلسطين خلال فترة الاحتلال البريطاني، دأب خبراء المياه في الحركة الصهيونية آنذاك، على تزويد البريطانيين بتقديرات مغلوطة ومبالغ فيها حول الاحتياطي المائي في فلسطين، زاعمين أن حجم الموارد المائية في فلسطين أكبر بكثير مما ورد في التقارير البريطانية ذاتها. هكذا فعل المهندس الإسرائيلي “سيمحا بلاس” الذي عمل لفترة طويلة في شركة المياه القطرية الإسرائيلية (“ميكوروت”) وفي سلطة تخطيط المياه (“طاهَل”)؛ إذ زعم بأن إمكانيات إسرائيل المائية تجاوزت 3 مليار متر مكعب سنويا (المصدر السابق).
ويوضح “إليتسور” بأن المبالغة في تقديرإمكاناتمصادرالمياه كانتأداة فعالةبيد التجمع الاستيطاني الصهيوني آنذاك (“الييشوف”) لدى تعاملهمعالبريطانيين.  كما هدفت تلك المبالغة إلى التقليل من مخاوف مجاميع اليهود الذين عملت الحركة الصهيونية على استجلابهم إلى فلسطين؛ وذلك قبل عام 1948وخلال السنوات الأولى التي أعقبت إنشاءالدولة اليهودية (المصدر السابق)؛ إذ تميزت تلك الفترة بالهجرات اليهودية الاستيطانية الواسعة إلى فلسطين وبالمصاعب الاقتصادية.
وقد تسبب هذا التوجه الكولونيالي في الضخ (الإسرائيلي) المفرط للمياه، وما ترتب عليه من تملح آبار خزان المياه الجوفية الساحلية؛ ما أدى إلى إقامة مشاريع مائية إسرائيلية مكلفة، مثل نقل المياه من بحيرة طبريا إلى النقب؛ إضافة إلى زراعة محاصيل تستهلك كميات ضخمة من المياه، مثل بنجر السكر (الشمندر السكري)، القطن والفول السوداني.   وعلى سبيل المثال، بنجر السكر كان يُستخدم مادة خام لإنتاج السكر في مصنعي السكر الإسرائيليين في العفولة ومستوطنة “كيريات غات”، وقد أغلقا لاحقا حينما توقفت زراعة البنجر بسبب استهلاكه الكبير للمياه.
وفي المقابل، كانت صناعة القطن الإسرائيلية أفضل حالا، إذ تميز القطن بإمكانية ريه بالمياه المالحة. ورغم أن مصانع القطن الكبيرة التي بنيت في المدن الإسرائيلية الجنوبية النائية وفرت العمل للمستوطنين اليهود في الفترة بين الخمسينيات والسبعينيات؛ إلا هذه القطاع لم يستطع لاحقا الصمود أمام القطن المستورد من الشرق الأقصى.
الاستيطان الإسرائيلي الواسع الذي رافق إنشاء دولة إسرائيل، أثبت أن موارد المياه التي كانت قائمة في فلسطين المحتلة عام 1948 (أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات) لم تكن كافية لإشباع احتياجات المجتمع الاستيطاني الجديد، سواء للاستخدامات المنزلية أو للصناعة أو للزراعة التي كان لها آنذاك حصة كبيرة في الاقتصاد الإسرائيلي. فقد تبين أن المياه الجوفية (في إسرائيل) لا تستطيع تزويد إسرائيل بأكثر من مليار متر مكعب سنويا، حتى لو تم استغلال الآبار استغلالا جائرا. كما أن مياه الأمطار، وتدوير المياه الناتجة عن الصناعة، ومصادر المياه المالحة والمياه العادمة (التي بدأت إسرائيل بتكريرها في مرحلة مبكرة) لم تتمكن من توفير زيادة إضافية في المياه بأكثر من 350 مليون متر مكعب سنويا. من هنا جاء القرار الإسرائيلي بإقامة “ناقل المياه القطري” بهدف نقل المياه من بحيرة طبريا نحو الجنوب (بمسافة طولها 130 كيلومترا). قرار إنشاء الناقل اتخذ عام 1948، لكن في عام 1964 نُفِّذ فعليا المشروع الذي ينطوي على تحويل المياه من ثلاثة أنهار في الشمال (الأردن، اليرموك والليطاني) إلى الجنوب.
في الواقع، كان الخبير في الحركة الصهيونية “والتير كلي” هو أول من طرح عام 1939 فكرة نقل المياه إلى النقب؛ وذلك كما جاء في كتابه: “فلسطين أرض الميعاد”.  بل إن فكرة مشروع قناة البحرين (الأحمر-الميت) جاءت أيضا قبل قيام الدولة اليهودية بكثير، وقبل أن تبدأ إسرائيل أصلا بسرقة المياه العربية، وبالتالي قبل بروز مشكلة جفاف البحر الميت. بمعنى أن فكرة إنشاء قناة البحرين، تاريخيا، لا علاقة مباشرة لها بمسألة “إنقاذ البحر الميت من الجفاف”، حيث إن المشروع البريطاني– الصهيوني القديم لإقامة دولة يهودية في فلسطين، أخذ في الاعتبار أن مثل هذه الدولة العصرية المزمع إنشاؤها على أنقاض الوجود البشري للشعب الفلسطيني، سوف تستهلك كميات ضخمة من المياه الفلسطينية المغذية للبحر الميت، الأمر الذي يستلزم لاحقا عملية تعويض مائي للأخير، وذلك من خلال شق ما يسمى قناة البحرين. أي أن فكرة القناة جاءت أصلا، وبشكل مخطط له بدقة، بهدف تعويض ما كان مبرمجا أن تنهبه الدولة اليهودية المزمع إقامتها، من مياه.
حاليا، تنهب إسرائيل عبر الناقل القطري والسدود التي أقامتها على طول نهر الأردن لتحويل مياه النهر إلى النقب وغيره، أكثر من 600 مليون متر مكعب من المياه سنويا (من بحيرة طبريا ونهر الأردن اللذين يغذيا البحر الميت)، أي ما يعادل نحو ثلث الاستهلاك الإسرائيلي من المياه.  ويعترف “إليتسور” (مصدر سابق) بأن هذا النهب الإسرائيلي لمياه حوض نهر الأردن طيلة الخمسين سنة الماضية، سبب أضراراً هائلة لحوض النهر، وبخاصة تدهور أوضاع البحر الميت بسبب الهبوط المريع في كمية المياه المغذية له من نهر الأردن.
تغيير جذري في الوضع المائي الإسرائيلي
خلال العقدين الأخيرين أنشأت الحكومة الإسرائيلية خمس منشآت تحلية كبيرة على طول الساحل الفلسطيني، وذلك بهدف توفير أكثر من 750 مليون متر مكعب سنويا من المياه المحلاة.  ومنذ عام 2008، طرأ تحولان تكنولوجيان نوعيان انطويا على آثار سياسيةبعيدة المدى، وغيراجذرياالوضع المائيفي إسرائيل.
التحول الأول تمثل في الهبوط الكبير بتكلفة عملية التحلية، وذلك من دولار واحد سابقا للمتر المكعب، إلى أقل من 40 سنتاً في منشآت التحلية الكائنة في الخضيرة وعسقلان ومستوطنتي “بلماخيم” و”سوريك”. ومن المتوقع أن تزداد أكثر الوفورات بفضل استخدام الغاز الطبيعي المنهوب من الأرض الفلسطينية لتشغيل منشآت التحلية، بدلا من الكهرباء.
أما التحول الثاني فتمثل في نجاح عمل محطات معالجة المياه العادمة، والتي (أي المحطات) أقيمت بمحاذاة المدن والبلدات. وبفضل تكرير المياه العادمة واستعمالها الفعال، فإن معظم المحاصيل الحقلية الإسرائيلية تروى حاليا بالمياه العادمة المعالجة. الغريب في الأمر، أن الجهات الإسرائيلية التي جلبت “الوفرة” المائية للمجتمع الإسرائيلي، وهي تحديدا الحكومة، شركة “مكوروت” والشركات التي استثمرت المليارات في إنشاء مرافق التحلية والتنقية، تحافظ على نبرة منخفضة.
بحسب “إليتسور”، يوجد على الأقل ثلاثة تفسيرات لهذا الصمت الإسرائيلي غير المعهود، رغم النجاح ووفرة المياه التي تتمتع بها إسرائيل الآن. التفسير الأول يقول بأنه رغم الهبوط الكبير في تكلفة تحلية المياه، إلا أن الحكومة الإسرائيلية وعدت المستثمرين بسعر مرتفع للمياه؛ فالحكومة يمكنها أن تقلل كمية المياه التي تشتريها من مرافق تحلية المياه، إلا أنه لا يمكنها أن تدفع أقل مما وعدت به (المصدر السابق).
تفسير “إليتسور” الثاني (المصدر السابق) يتعلق بخوف السلطات من معرفة الجمهور الإسرائيلي لحقيقة الوضع المائي؛ عندئذ سوف يطالب ذلك الجمهور بخفض كبير في أسعار المياه.
كما يطرح “إليتسور” تفسيرا ثالثا للتكتم الإسرائيلي على الحقائق، بقوله إن هناك قلقا رسميا من أن الإسرائيليين سوف يهدرون المياه إذا عرفوا مدى وفرتها الحقيقية. لكن، يتساءل “إليتسور”: هل هذا يبرر سياسة السلطات بإخفاء الحقيقة كاملة عن الجمهور؟
ويشير “إليتسور” أيضا إلى السبب السياسي الكامن خلف الغموض الإسرائيلي الخاص بحقيقة الواقع المائي الإسرائيلي؛ ذلك أن إسرائيل تستخدم مسألة المياه كوسيلة ضغط على العرب؛ فتستغلها لتحسين موقعها التفاوضي وعلاقاتها مع كل من الأردن والفلسطينيين وابتزاز الأخيرين (المصدر السابق).
اختراع شركة “ميكوروت” الخاص بالأردن
كما نعلم، يعاني الأردن وفلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة من نقص مريع في المياه؛ بل إن الأزمة المائية تفاقمت في الأردن نتيجة تدفق اللاجئين من سوريا (منذ أكثر من عشر سنوات). إسرائيل تستغل نهبها للمياه العربية، من ناحية، وتقنياتها الخاصة بإنتاج المزيد من المياه المحلاة، من ناحية أخرى، كي تبيع المياه للعرب مباشرة من محطات التحلية، أو كي تنخرط في إنشاء مرافق تحلية مماثلة في البلدان العربية.
وبحسب اتفاقية “وادي عربة” (بين إسرائيل والأردن) تزود إسرائيل الأردن بفتات مائي مقداره 50 مليون متر مكعب من المياه سنويا من نهري الأردن واليرموك، في حين يضخ الأردن المياه من المنطقة المقابلة لوادي عربة في جنوب فلسطين لري المحاصيل الإسرائيلية هناك.  وفي الآونة الأخيرة، قررت إسرائيل في الخفاء تقريبا، زيادة المعروض من مياه نهر الأردن (إلى الأردن) بمقدار20 مليون متر مكعب سنويا.
كما أن النظام الهاشمي اتفق مبدئيا مع إسرائيل على حل مشكلة عجزه المائي من خلال عملية تبادل مياه عربية بمياه عربية أخرى، وذلك عبر إقامة الأردن لمنشأة تحلية في العقبة تزود المستوطنات الإسرائيلية في جنوب فلسطين بالمياه، وتحديدا مستوطنات جنوب العربة. ومقابل كل متر مكعب من المياه التي يزودها الأردن للمستوطنات الإسرائيلية الجنوبية، تزود إسرائيل الأردن بالمياه من بحيرة طبرية المنهوبة إسرائيليا أصلا، أو من منشآت التحلية الإسرائيلية.
ومن المثير أن “إليتسور” كشف بأن فكرة بناء محطة التحلية في العقبة جاءت أصلا من شركة “ميكوروت” الإسرائيلية؛ إذ عرض وفد الشركة الأخيرة على الأردن فكرة بناء محطة التحلية و”مساعدته” في تنفيذ المشروع، وذلك في منطقة تبعد نحو 50 كيلومترا إلى الشمال من العقبة، بحيث تغذيها مياه البحر الأحمر. وهذا المشروع تحديدا يشكل جوهر ما يسمى “مذكرة التفاهم” التي وقعت بواشنطن في كانون اول 2014 (بين إسرائيل-الأردن-السلطة الفلسطينية) لإنتاج مياه محلاة في منطقة العقبة. وهذا يؤكد ما ذكره أكثر من مرة كاتب هذه السطور من أنه ليس فقط فكرة المشروع الكامل لقناة البحرين (البحر الأحمر-البحر الميت) هي أصلا اختراع إسرائيلي، بل أيضا ما يسمى المرحلة التجريبية أو المرحلة الأولى لمشروع القناة الكامل، والمتمثلة بإنشاء محطة التحلية المذكورة في منطقة العقبة، حسب مواصفات شركة “ميكوروت”!
ورغم التعتيم الإسرائيلي الذي لا يزال يجعل من الصعب على إسرائيل أن تصبح قوة مائية إقليمية، لم يعد هناك أدنى شك (كما الغاز الطبيعي الذي تضخه حاليا إسرائيل من البحر المتوسط​​) في أن الوفرة المائية الإسرائيلية المتوقع تعاظمها، ستحدث تغييراً كبيرا في الوضع الاقتصادي والسياسي لإسرائيل.
كل هذا يحدث، بالرغم من أن إسرائيل تهيمن على فائض مائي جوفي وسطحي ضخم، وهي لا تحتاج أصلا إلى تحلية المياه؛ بل هي تتحدث عن مشاريعها المائية العدوانية علنا، وتستخدم مسألة المياه كأداة ضغط سياسية وسلاح ضد العرب في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان. فإسرائيل تمنع الأردن الذي يعاني من العطش بسبب جفاف معظم أحواضه المائية وارتفاع نسبة الملوحة في مياه الشرب، من تحويل بعض مياه نهر الأردن إلى الأراضي الأردنية، ناهيك عن سرقة إسرائيل لمياه وادي عربة والمياه الجوفية في الحمة، علما أن اتفاق وادي عربة “يمنح” الأردن نظريا “حصصا” من مياه نهري الأردن واليرموك ومياه وادي عربة الجوفية.
واللافت أن إسرائيل تعد أكبر “المتحمسين” لحث الفلسطينيين على شراء المياه المحلاة منها، أو تحلية مياه بحر غزة.  ويكمن وراء هذه “الحماسة” دافع سياسي-أمني-استراتيجي يتمثل في ضمان إسرائيل مواصلة نهبها شبه المطلق للمياه الفلسطينية العذبة، وبالتالي مطالبة الفلسطينيين بسد عجزهم المائي الخطير الناجم عن السرقة الإسرائيلية المفتوحة للمياه، من خلال شراء المياه المحلاة؛ وبالتالي تكريس النهب الإسرائيلي للمياه العذبة.
أكاذيب
يعاني الأردن وفلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة من نقص مريع في المياه؛ وتفاقمت الأزمة المائية في الأردن نتيجة تدفق أكثر من مليون لاجئ سوري إلى شمال الأردن، وبخاصة في محيط مدينة إربد، فيما تستغل إسرائيل نهبها للمياه العربية، من ناحية، وتقنياتها الخاصة بإنتاج المزيد من المياه المحلاة، من ناحية أخرى، كي تبيع المياه للعرب مباشرة من محطات التحلية، أو كي تنخرط في إنشاء مرافق تحلية مماثلة في البلدان العربية.
معهد “هيلمهولتز” لأبحاث البيئة، والذي يعمل في جامعة لايبزيغ الألمانية، نشر مؤخرًا تقريرًا شاملاً يتناول تأثير وجود اللاجئين على مصادر المياه في الأردن، ويشير التقرير إلى أنه في العقد الأخير ارتفع استهلاك المياه في شمال الأردن بنسبة 40٪.
الوضع حرج أيضًا في العاصمة عمان، إذ يحصل السكان على المياه مرة واحدة أسبوعيًا؛ ويستغل السكان الساعات القليلة التي تتدفق خلالها المياه كي يملئوا أوعية تخزين المياه المثبتة على أسطح منازلهم (كما حال الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل عدوان أكتوبر 2013)، وبالتالي تُستخدم مياه الخزانات (على الأسطح) حتى وصول إمدادات المياه في الأسبوع التالي.
المفارقة أن الحكومة الأردنية تشتري من الاحتلال الإسرائيلي المياه التي يسرقها الأخير أصلًا من أصحابها الفلسطينيين، بينما ترفض الحصول على نفس كمية المياه وأكثر، عبر نهر اليرموك من سوريا (حتى ما قبل سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024).
وبالرغم من هيمنتهم المطلقة على الموارد المائية وحوض نهر الأردن، ونهبهم للمياه الجوفية والسطحية، وتعطيشهم للفلسطينيين والأردنيين، يعمد الإسرائيليون إلى ترويج أكاذيب من قبيل أن جميع مواطني المنطقة (عرب وإسرائيليين) يعانون من أزمة المياه بشكل متساوٍ. لذا، وتحت مظلة هذه الأكاذيب، عملت وتعمل إسرائيل عبر منظماتها البيئية والسياسية المختلفة، على تجنيد متواطئين فلسطينيين وأردنيين “للتعاون المشترك” لحل هذه المسألة الحساسة التي افتعلها الإسرائيليون أنفسهم.
من يتحمل مسؤولية تدهور أوضاع البحر الميت؟
تتحمل إسرائيل مسؤولية تدهور أوضاع البحر الميت، رغم زعمها المتكرر بأنها تعمل على إنقاذه من التدهور البيئي (الذي تسببت به إسرائيل أصلا)، حيث تنهب سنويا مئات ملايين الأمتار المكعبة من مياه بحيرة طبريا ونهر الأردن اللذين يغذيا البحر الميت. كما أقامت إسرائيل ما يزيد على 18 مشروعا وسدا لتحويل مياه نهر الأردن إلى مشروعاتها الزراعية في صحراء النقب وغيرها؛ وحولت الأودية الجارية التي تتجمع فيها مياه الأمطار وتجري باتجاه الميت إلى المناطق المحتلة عام 1967، خصوصا إلى المستوطنات، وقد وصلت نسبة المياه المحجوزة والمحولة عن البحر الميت إلى حوالي 90% من مصادره. كما حفرت إسرائيل ما يزيد على 100 بئر لسحب المياه الجوفية من المناطق القريبة التي تغذي أيضا البحر الميت بالمياه، إضافة إلى إقامة المصانع ومراكز استخراج الأملاح، وبخاصة البروميد، بصورة كبيرة، من البحر الميت، والتي تؤدي حسب آراء الخبراء إلى ارتفاع مستوى التبخر.
وحتى أواسط الستينيات، كان نحو مليار و300 مليون متر مكعب من المياه يصب سنويا على طول الجزء الجنوبي من النهر، في جريان سريع، علما بأن عرض النهر كان يتراوح بين 40-60 متراً.  أما اليوم، وبسبب النهب الإسرائيلي أساسا، فلا يصب في ذلك الجزء من النهر سوى كميات هزيلة جدا من المياه، لا تتجاوز 20 – 40 مليون متر مكعب، بينما يتراوح عرض النهر بين نصف متر إلى ستة أمتار فقط!  أي أن كميات المياه التي كانت تجري تاريخيا في النهر انخفضت بنحو 98%. وحاليا، لا تتجاوز المياه الطبيعية التي تصب في الجزء الجنوبي من النهر 2% من المياه التي كانت تصب فيه في الماضي.
باعتقادنا، حل مشكلة استمرار تراجع مستوى البحر الميت، وبالتالي “جفافه”، يكمن في أن تتوقف إسرائيل عن نهبها لمياه بحيرة طبريا ونهر الأردن؛ بمعنى أن توقف إسرائيل حجبها لتدفق مياه بحيرة طبرية في نهر الأردن (ملايين الأمتار المكعبة تُنْهَب سنويا من حوض نهر الأردن)، فضلا عن وقف نشاطات المصانع الإسرائيلية المستنزفة لمياه البحر الميت (أكثر من 250 مليون متر مكعب تستنزفها المصانع الإسرائيلية من البحر).  وهذا يعني توفير نحو 900 مليون متر مكعب سنويا من المياه المنهوبة مباشرة من البحر الميت أو من الروافد المغذية له، وهذه الكمية أكبر مما يحتاجه البحر لحل ما يسمى “مشكلة جفاف البحر الميت”، علما أن البحر الميت يحتاج إلى نحو 800 مليون متر مكعب سنويا من المياه لوقف استمرار تراجع مستواه، وهذه الكمية تتناسب مع سرعة التبخر السنوية للبحر الميت. يضاف إلى ذلك، حصول الفلسطينيين على كامل حقوقهم المائية من حوض نهر الأردن.
أي أن وقف تدهور البحر الميت يكمن في انتزاع الفلسطينيين وسائر العرب لحقوقهم المائية في حوض نهر الأردن المحتل، وإعادة الحياة إلى نظام الجريان الطبيعي لسلسلة بحيرة طبرية – نهر الأردن – البحر الميت، الأمر الذي سيساهم في إعادة أكبر قدر من التوازن البيئي الطبيعي الأصلي لحوض النهر، وبالتالي تقليص المخاطر وعدم اليقين.
تعطيش الشعوب التي أبرمت حكوماتها اتفاقات “تطبيع” مع إسرائيل!
تستخدم دولة الاحتلال الإسرائيلي المياه سلاحاً للتنكيل المنهجي والمنظم بالفلسطينيين، والتلذذ بتعطيشهم وإذلالهم، لتخليد تبعيتهم لها، ليس فقط في لقمة عيشهم، بل أيضا في قطرة مياههم.  بل، ويُستخدم سلاح التعطيش أيضًا لإخضاع الفلسطينيين وإرغامهم على الرضوخ للاحتلال ومشاريعه. وحاليا، ممارسة دولة الاحتلال جريمة التعطيش الجماعي في قطاع غزة، تحت سمع وبصر العالم، تتحدث عن نفسها.
وفي هذا السياق، من المفيد التذكير بأنه أثناء حصار الجيش الإسرائيلي لبيروت عام 1982، نصح يتسحاق رابين زميله أريئيل شارون وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، بأن يبادر الأخير إلى قطع الماء والكهرباء عن بيروت الغربية وتعطيشها، بهدف إخضاع المقاتلين الفلسطينيين المحاصرين هناك. وقد أخذ بالنصيحة، إذ قطع الماء والكهرباء لبضعة أسابيع أثناء الحصار.
الرفاهية المائية التي يتمتع بها الإسرائيليون هي الوجه الآخر البشع للمشروع الاستيطاني الاقتلاعي الذي وكي يتمتع بالوفرة الرخيصة غير المحدودة من المياه العربية المسروقة، وكي يضمن تعزيز هذا المشروع واستمراريته، يجب عليه ضمان استمرارية التسول الفلسطيني والعربي لمياهه المنهوبة من المحتل.
ولو استعرنا جوهر قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (ما جاع فقير إلا بما متع به غني) وطبقناه على حالتنا العربية، لأصبح القول كما يلي: “ما عَطِش طفل عربي إلا بما مُتِّعَ به مُسْتَعْمِرٌ إسرائيلي”.
المفارقة المثيرة للاشمئزاز أن إسرائيل تستخدم سلاح المياه لتُعَطِّش ليس الفلسطينيين فقط، بل الشعوب العربية التي وَقَّعَت حكوماتها معها اتفاقات “تطبيع” وتتعاون معها أمنيًا ومخابراتيًا، مثل الأردن ومصر؛ علمًا أن إسرائيل دعمت أثيوبيا فنيا وتقنيا لإنشاء سد النهضة الذي في حال إنجاز كافة مراحل إنشائه، من حيث عملية تغذيته بمياه نهر النيل، فسيتسبب ذلك في تعطيش ملايين المصريين وجفاف مساحات زراعية مصرية واسعة. كما أن لإسرائيل وجود أمني وعسكري في أثيوبيا، فضلًا عن الدفاعات الجوية الإسرائيلية لحماية السد الإثيوبي.
سوريا ساحة نفوذ إسرائيلية جديدة
منذ احتلالها هضبة الجولان السورية عام 1967، هَجَّرَت دولة الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 140 ألف سوري، ودمرت عشرات القرى السورية وأقامت عشرات المستوطنات على أنقاضها. وفي عام 1981 أعلنت ضم الجولان رسميا، متحدية المجتمع الدولي، ومتذرعة بـ”الأمن القومي”.
وإثر سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، أطلق الاحتلال اسم “سهم باشان” على عملياته العسكرية في جنوب سوريا وصولا إلى ريف دمشق، مستحضرا رواية أسطورية من العصور التوراتية. “باشان” هي المنطقة الواقعة شمال شرق نهر الأردن وتضم مرتفعات الجولان السوري، وتمتد إلى سهل البقاع اللبناني الغربي، وترمز إلى “الحق التاريخي” و”السيطرة الإلهية” على الأرض. هذه الشعارات والمصطلحات ليست مجرد أحلام سياسية، بل تجسد تخطيطا مدروسا لتغيير الخريطة الجيو-سياسية والهيدرو-سياسية للمنطقة، واستراتيجيات عسكرية وطموحات توسعية؛ وبخاصة أن الجولان عبارة عن خزان مائي ضخم ومنبع نهر الأردن، يزود دولة الاحتلال بحوالي 30% من احتياجاتها المائية. علاوة على الأرض الخصبة لتربية المواشي؛ فهي تزود إسرائيل بنصف احتياجاتها من اللحوم، إضافة للميزة السياحية والتجارية، وحقول النفط والغاز في جنوب الجولان.
كما يوفر موقع الجولان وجبل الشيخ والمناطق السورية الجنوبية الشاسعة التي احتلتها إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة، قدرة مراقبة استراتيجية، ما يعزز قدرة الاحتلال على التصدي لأي تهديد محتمل.
وبالطبع، دولة الاحتلال لا تكتفي بالجولان، بل تسعى لجعل سوريا بأكملها ساحة نفوذ، وتقسيمها بالتالي، بدعم من حلفائها، وتحويلها إلى كيانات طائفية متصارعة لا تشكل أي تهديد مستقبلي. إذن، الجولان بالنسبة لإسرائيل ليس مجرد نزاع حدودي، بل حلقة في صراع أكبر يستهدف مستقبل المنطقة بأكملها، بما في ذلك مواردها الطبيعية والمائية.
خاص بآفاق البيئة والتنمية