د. نعمان ثابت: الروبوت في رواية “الإسكندرية 2050” لصبحي فحماوي

د. نعمان ثابت
يعرض صبحي فحماوي التطور التقني والتكنولوجي في هذه الرواية, ويركز في أغلب نصوص الرواية على (المرأة الآلية) فيعطيها صفات واسماء تميزها عن غيرها من الروبوتات, فيقول الراوي: “تتقدم امرأة آلية باسمة, فتضع حقائبنا في العربة, ويقفز كنعان بخفة محتضناً كلبه…, ويتبعه برهان الذي تمسك المرأة الآلية بيده, ثم تجلسك بهدوء إلى جوارهما”([1]), يحاول الكاتب أن يضيف إلى الإنسان الآلي صفات إنسانية كـ(الابتسامة), فهو يهتم بتعظيم القدرات الميكانيكية والوراثية للجسم البشري التي تجلت في شخصية (الإنسان الآلي). ويسترسل الراوي في ذكر صفات هذا (الروبوت), “نطلق المركبة الجوية سابحة في الفضاء, والمرأة الآلية تقودها وتتحدث معنا, وإذا سألها أحدنا تجيب بقدر السؤال… تسألها عن المكان الذي نحن فيه, والمكان الذي نتجه إليه, فتجيبك بانضباط وصوت رقيق, ولكنه يخلو من الروح, ومن حيوية المرأة (اسمي شي. نحن الآن ياسيدي في منطقة مريوط, ونتجه شمالاً باتجاه البحر)”([2]). تتحول المرأة الآلية شيئاً فشيئاً, إذ أصبح لها اسم وثقافة و وكيان وهوية خاصة بها, إنها الروبوت (شي). إذن ثورة الذكاء الاصطناعي أنتجت أشكالاً هجينة ومعقدة ومصممة بايولوجياً ومزودة ميكانيكياً على شاكلة الإنسان, هو الإنسان الذي “اشتدت قواه الجسمانية بفعل المعدات التكنولوجية بحيث تجاوزت القدرات البشرية العادية”([3]), كقدرتها على الإحاطة بمعلومات كثيرة, وهذا ما تم تأكيده من الراوي “يبدو أنَّ الآلية تعرف ما تخفي صدور المدينة, فتشاركنا الحديث, كي تشعرنا بحيويتها, وأنها ليست صنماً يقود مركبتنا الفضائية”([4]).
فقدرة المرأة الآلية على الحفظ تجاوزت قدرة الإنسان الطبيعي, بل تفوقت عليه في كثير من الأحيان, وهذا ما دعا (هاراواي) للقول بإمكانية “إنزال السايبورج منزلة الابن غير الشرعي للمجتمع الذكوري والعلم والرأسمالية”([5]), وهذا يرغمنا على إعادة النظر في مفهوم الهوية برمته, مسفراً عن “تفكيك ثم إعادة تجمع للذات الشخصية والجمعية, على الطريقة ما بعد الحداثية”([6])
كما نجد أنَّ ارتباط الإنسان بالرجل الآلي الذي بدأ يُستخدم خادماً أو حارساً أو ممرضاً أو سكرتيراً يقدم خدماته وعلومه للإنسان العادي, فيقول الروي “وفي الساحة التي تظهر خارج الفندق, تشاهد خادماً آلياً يسير مرافقاً لرجل عجوز وهو يحمل صندوقاً تحت إبطه, وترى رجالاً آليين يخرجون ويدخلون من وإلى العمارات…”([7]), وفي مقطع سردي آخر “فبعد مرور عشر سنوات على وفاة زوجتك أميمة, تضطر للتعامل مع هذه المرأة الآلية نرجس, المرافقة لك في الحل والترحال. ففي الوقت المحدد تأتيك ومعها حاجاتك: جاء الآن موعد حبة دواء الضغط ( تقول وهي تداعبك)… وحسب ما تطلبها تجدها ترحب بك قائلة: دعني أردُ لك على رسالة سمر…وتقول لك: لقد غسلت الغسيل… تدخل معك إلى الحمام وتساعدك في خلع ملابسك, وتفرك ظهرك, ثم تجفف جسدك, وتعود بك إلى سريرك قائلة بحنان: أرجوك أن تتمدد على السرير, ودعني أدلك لك عضلاتك, فتتنهد: الله يا نرجس لقد استرخيت, وزالت كل توتراتي. لولا هذه النرجس الآلية, التي تسألها, فتجيبك, وتطلب منها, فتفتح لك ذاكرتها الرقمية على المجلد الأول من رواية ألف ليلة وليلة …”([8]). وهكذا نجد أنَّ الإنسان الآلي يقود الطائرة التي تقل الراوي(المهندس مشهور) من دبي، والمرأة الآلية تقود المركبة الفضائية التي تحل محل سيارة الأجرة الحالية، فتنقلهم من المطار إلى الفندق، وتجدها في كل مكان؛ في استقبال الفندق، وفي خدمة الغرف، وهندسة الفندق, وتجد المرأة الآلية ترافق العجوز مشهور في حمامه وملبسه، وقراءة رسائله، ومتابعة قراءة الكتب له، إذ تقرأ له فصلاً من رواية ألف ليلة وليلة قبل أن ينام، فتنام إلى جواره.
ولعل المعنى الكامن وراء فكرة الرواية أننا بتنا اليوم نعيش في مجتمع يزداد فيه الاعتماد على التكنولوجيا ووسائل الرفاهية التي باتت متعددة ومتاحة بفضل تقدم وسائل الاتصال والتواصل, ولكن هذه الوسائل خلقت أيضاً مشكلة العزل والتفكك وانعدام الاتصال المباشر.
على أية حال, يبدو واضحاً أنَّ التكنولوجيا الراهنة المفتقدة للحكمة, تدفع البشر لا محالة نحو مستقبل قريب سيتم فيه إنتاجهم في مختبرات الهندسة الوراثية والعلم الجيني, وهذا ما أكدته الرواية على لسان (برهان): “والأخطر من هذا يا أبي, ظهرت شركات مُدمرة لكل المبادئ والأعراف, لا تنتج الأعضاء, بل تنتج بشراً بمواصفات محددة بهدف بيعهم لمن يشتري. (عاد الرقيق من جديد), البعض يشتري طفلاً لأنه لا يريد حبلاً ولا ولادة, والبعض يريد مرافقاً لأنه يعيش وحيداً, والبعض يريد شراء خادم له. والأخطر من هذا وذاك, أنَّ الجيوش الحديثة معظمها صار يشتري عساكره بمواصفات قتالية من هذه الشركات”([9]), يصور الكاتب في هذا النص مدى تغول رأس المال وهيمنته على أدق تفاصيل الإنسان عبر الهندسة الوراثية والجينية من خلال استخدام التكنولوجيا التي تمكنت من التغلب على الأمراض والأوبئة وزيادة معدلات الحياة, هذه التكنولوجيا تتطور الآن بسرعة كبيرة “وبدأت تمكننا من تغيير بيئتنا وزيادة وعينا بالقدرة على تغيير مصائرنا البيولوجية”([10]), لكن هذه التطورات والإبدالات الجينية سوف تقضي على حرية الإنسان, وتدمر علاقات الحب والتعاطف بين البشر, وتحل مكانها نزعة الاستهلاك والتملك الشخصي, وهذا ما أشار إليه النص: (البعض يشتري طفلاً, والبعض يريد مرافقاً, والبعض يريد شراء خادم له) كل هذا سببه المصالح الاقتصادية الضخمة للرأسمالية, فضلاً عن البشر الذين سيولدون من رحم هذه الشركات, لن يكونوا بشراً طبيعيين, وإنما سيكونون جسماً هجيناً “ثلثهم سيكون جسماً حياً, ثلثهم الثاني سيكون آلة, أما الثلث الثالث فسيتحكم به العلماء الذين سيكونون قادرين, بحكم اطلاعهم على الخرائط الجينية والرقاقات الإلكترونية على التحكم بسلوكياتهم”([11]).
إنَّ معطيات التطور العلمي والتكنولوجي يجعلها, إذن, سيفاً ذا حدين: يمكن أن تكون نعمة, كما يمكن أن تنقلب إلى نقمة, وهذ ما أشار إليه (فرانسيس فوكو) في كتابه (نهاية التاريخ): “لا أحد يعرف أي احتمالات تكنولوجية ستنبثق من التعديل الذاتي للجنس البشري. لكن الحركة البيئية على حق حين تعلمنا ضرورة التواضع واحترام الطبيعة. نحن في حاجة الآن إلى تواضع مماثل في ما يتعلق بالطبيعة البشرية وطبيعة الحياة. وما لم نفعل, سنكون قد فسحنا في المجال واسعاً أمام ما بعد الإنسانيين لتشويه البشرية ومسخها بجرافاتهم الجينية”([12]).
ويسترسل (برهان) المتخصص في الهندسة الوراثية, فيقول “حين لم تفلح الأديان ولا الأمم غير المتحدة في زراعة المحبة بين الناس, وفي تقليم أظافر النهش والقتل والتدمير والاستيلاء على الآخرين, نحن نقوم بالمهمة.
الوراثة تقوم الآن بتحويل جينات الإنسان والحيوان القائمة على الاعتداء على الآخر, إلى جينات محبة للآخر, وتقوم بإطالة عمر الإنسان وكل الكائنات الحية, لتغيير فلسفة الحياة, وتحويل الصراع إلى التناغم والتكامل. نحن نسعى لخلق الجنة على الأرض”([13]), يبذل (صبحي فحماوي) جهداً في تمكين فكرة اتحاد الخلية (الحيوانية/الإنسانية)، بالخلية النباتية، مستفيداً من خبرته العلمية في دراسته بكلية الزراعة، وفي علاقته العلمية العملية بالنبات في الحدائق التي يحترف تخطيطها وتنسيقها, ويطيل التمهل عند هذه الفكرة المؤسسة لمفهوم تحول الكون إلى خضرة.
إنَّ رؤية الكاتب تتوافق تماماً مع حركة (ما بعد الإنسان), إذ بدأت هذه الحركة بالمطالبة بتطور (تسريع) الإنسان إلى (ما بعد الإنسان), أو حتى إلى مخلوق جديد لا علاقة له بالبشر, فتتغير الطبيعة البشرية نفسها عن طريقتي الهندسة الوراثية وتكنولوجيا الكومبيوتر, وهذا ما تحقق في رواية (الإسكندرية 2050) لصبحي فحماوي.
العراق
[1])) الإسكندرية 2050: 39.
[2])) نفسه: 40.
[3])) دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي: 184.
[4])) الإسكندرية 2050: 41.
[5])) العلم والمكان والطبيعة في النقد البيئي: 398.
[6])) نفسه من الصفحة نفسها.
[7])) الإسكندرية 2050: 44.
[8])) نفسه: 84.
[9])) الإسكندرية 2050: 89.
[10])) الخروج من جهنم: 132.
[11])) الخروج من جهنم: 135.
[12])) نفسه من الصفحة نفسها.
[13])) الإسكندرية 2050: 97.