إسرائيل والكيانات: خطتها لتقسيم الشرق الأوسط وتحقيق السيطرة.. والانطلاقة من سوريا

إسرائيل والكيانات: خطتها لتقسيم الشرق الأوسط وتحقيق السيطرة.. والانطلاقة من سوريا

 

د. شهاب المكاحله
على مدى عقود، تكررت الحروب والنزاعات في الشرق الأوسط، لكن ما يلفت النظر اليوم ليس فقط المواجهات المسلحة، بل الخطة الاستراتيجية التي تقف وراءها إسرائيل، والتي تهدف إلى فرض هيمنتها المطلقة على المنطقة.
المشكلة هنا لا تكمن فقط في الحروب أو الغارات، بل في الهندسة السياسية التي يجري تمريرها بصمت: دويلات طائفية، سلطات أمر واقع، كيانات بلا مقومات اقتصادية أو عسكرية كبرى، لكنها تبقى بحاجة إلى مظلة أمنية أو حليف دولي. بهذه الطريقة، تجد إسرائيل نفسها في قلب منطقة “مفككة”، تتقدم عليها في الشرعية والعمر والبنية.
إسرائيل، التي تُعد أقدم كيان حديث في المنطقة، لا تكتفي بالبقاء كدولة ذات حدود واضحة فحسب، بل تسعى لأن تحكم واقع الشرق الأوسط الجديد من خلال إحاطة نفسها بدويلات صغيرة، أو “كانتونات”، تتحكم بها أو على الأقل تُبقيها في حالة تبعية مستمرة. هذه الكانتونات ليست دولاً مستقلة بمفهوم السيادة الحقيقية، بل مناطق ضعيفة منقسمة طائفياً وعرقياً، تنشأ بهدف منع أي قوة عربية أو إقليمية من أن تصبح منافسا أو تهديدا لاستقرار إسرائيل وأمنها.
المفارقة أن هذه الدويلات المصغرة تفتقر إلى مقومات البقاء الفعلي: لا قوة اقتصادية، ولا قوة عسكرية، ولا مقومات استراتيجية. كل ذلك يجعلها دائما بحاجة إلى دعم خارجي، وتحديدا إلى الرعاية الإسرائيلية التي تضمن بقاءها وتحافظ على توازن القوى في صالح إسرائيل.
وبحسب هذه الرؤية، لا يمكن أن تسمح إسرائيل لأي دولة في المنطقة بأن تتجاوز حجمها أو نفوذها، حتى وإن كانت دولا تاريخية عريقة مثل سوريا أو العراق أو لبنان. فحجم “إسرائيل الكبرى” يجب أن يبقى هو المعيار، والحفاظ على هذه الهيمنة يتطلب تفتيت الدول الكبرى إلى كيانات صغيرة تُدار بحسب مصالح إسرائيل الأمنية والسياسية.
آخر تجليات هذه السياسة هو ما نشهده في سوريا ولبنان واليمن، حيث التوترات المستمرة، والحروب المشتتة، والمشاريع الانفصالية التي تخرج من تحت الطاولة، كلها تسير ضمن مخطط أوسع يراد له أن يبقي المنطقة في حالة هشاشة وعدم استقرار.
في هذا السياق، جاءت تصريحات السفير الأمريكي الجديد لدى سوريا، توماس براك، والتي حملت رسالة غير مسبوقة: رفض العودة إلى صيغة سايكس بيكو القديمة التي فرضت خارجيًا تقسيم المنطقة دون اعتبار لمصالح شعوبها، والالتزام بمبدأ أن أبناء المنطقة وحدهم هم من يقررون مصيرهم.
سوريا، التي كانت لقرنٍ كامل قلب التوازن العربي، أصبحت الآن ميداناً لتحولات هائلة تُدار بدم بارد. وليس من قبيل المصادفة أن يرفع السفير الأميركي الجديد إلى سوريا، توماس باراك، علم بلاده فوق مقر إقامته في دمشق، في مشهد رمزي يوازي رمزية دخول دمشق ذاتها إلى عهد انتداب جديد، وإن بدا هذه المرة بصيغة أقل وضوحاً من سايكس بيكو عام 1916.

السفير باراك دخل المشهد السوري برمزية لافتة، عندما رفع بنفسه العلم الأميركي فوق مقر إقامته هناك، في لحظة لم تخلُ من الرسائل. لكنه لم يكتفِ بالإشارات، بل كتب بوضوح على منصة “إكس”:

“قبل قرن من الزمان، فُرضت حدودٌ واتفاقات كسايكس بيكو خدمة لمصالح الخارج، لا للسلام. وقد دفعت شعوب المنطقة ثمن ذلك. لن نسمح بتكرار هذا الخطأ.”

هذه الكلمات، على بساطتها، تعني الكثير. فهي تقر ضمنا بأن الحقبة التي رسمت فيها القوى الكبرى خرائط المنطقة من دون اعتبار للتاريخ أو الاجتماع أو المصلحة المحلية، قد ولّت. لكنها في الوقت ذاته تفتح الباب أمام نمط جديد من التفاعل: شراكة، لا وصاية. استقرار، لا إعادة تفكي وهنا يُدس السم بالعسل.
ما يثير الانتباه أكثر، هو أن هذا التصريح يأتي في لحظة بالغة الحساسية: سوريا تقف على عتبة تحول، ولبنان في مفترق حاسم، والعراق في حالة اختبار دائم. في كل هذه الدول، هناك من يروّج لحلول “الدويلات” و”الحكم الذاتي” و”الفيدراليات المجزأة”، بحجة التعايش أو إنهاء الصراع. لكن الحقيقة أن التشرذم لم يكن يومًا طريقًا إلى السلام.
إسرائيل قد تستفيد من هذا التفتت. لكن شعوب المنطقة – من بيروت إلى دمشق، ومن بغداد إلى غزة – وحدها من سيدفع الثمن. ولذلك، فإن اللحظة اليوم تفرض إعادة تفكير جدية في مشروع الدولة: دولة المواطنة، لا المذهب. دولة المؤسسات، لا السلاح. دولة التعددية، لا الطوائف.
هذه الرسالة تمثل فرصة نادرة أمام شعوب الشرق الأوسط للخروج من فخ “الكانتونات” والسياسات التفتيتية التي طالما قيدتها. فبدلاً من الانجرار إلى مشاريع تُقسّم الوطن الواحد إلى أجزاء صغيرة تتحكم فيها قوى خارجية أو كيانات متحالفة مع إسرائيل، يجب أن يكون الطموح بناء دول موحدة قوية ذات سيادة.
إسرائيل تريد أن تحيط نفسها بأطراف صغيرة تحت سيطرتها، كي تضمن بقاءها من دون منافس حقيقي. لكن التحدي الأكبر أمام الشعوب العربية هو استعادة الوعي بأهمية الوحدة الوطنية والمواطنة الجامعة، والتمسك بدولتها التي هي إطارها الطبيعي وحصنها الحقيقي ضد التشرذم.
الرسالة واضحة: لا مستقبل للمنطقة إلا بوحدة الدول واستقلالها، لا بالتقسيم والضعف. وهذا ما يجب أن يعيه الجميع في زمن تتجدد فيه صراعات النفوذ، وتزداد فيه المحاولات لتفتيت الشرق الأوسط إلى رقع صغيرة لا تملك من أمرها شيئاً.
الملاحَظ أن الاستراتيجية الإسرائيلية باتت تركز على أمرين متوازيين: إشعال الجبهات المحيطة (غزة، لبنان، وسوريا) وإبقاء هذه الدول في حالة انقسام داخلي دائم يمنعها من تشكيل تهديد حقيقي. فدول الطوق التاريخية إما تدمر ذاتها ذاتياً أو تُدار من الخارج عبر “نُخب” لا تملك مقومات، مما يجعلها دائماً بحاجة إلى قوة خارجية تنظم شؤونها… وهذه القوة، بلا شك، ستكون إسرائيل أو من يدور في فلكها وسط صمت عالمي وتواطؤ إقليمي.
المنطقة اليوم أمام مفترق طرق جديد: إما أن تستعيد الدول المركزية (هويتها الوطنية العابرة للطوائف، أو تستسلم لنموذج “الدولة الممزقة” التي تحكمها الميليشيات تحت غطاءات دستورية شكلية.
ما تسعى إليه إسرائيل، هو شرق أوسط متنافر ومجزأ، تكون فيه الدولة العبرية هي الوحيدة المتماسكة، ذات الجيش الموحد، والاقتصاد الصاعد، والعلاقات الدولية المتينة، في مقابل دويلات تحتاج وصايات خارجية للبقاء.
لقد آن الأوان للدول العربية أن تتجاوز أوهام الأيديولوجيات القديمة، وتبني دولها على أساس المواطنة، لا الطائفة. المطلوب ليس فقط إعادة الإعمار المادي، بل إعادة الإعمار السياسي والفكري والاجتماعي.
كاتب اردني