مجزرة المساعدات: عندما تكشفت الحقائق عن المسرحية الأمريكية في رفح

د. أميرة فؤاد النحال
في مشهدٍ يُجسّد قمة المأساة والخذلان، تحوّلت ساحات توزيع المساعدات في رفح ونتساريم إلى ميادين للموت الجماعي، حيث قُتل وجُرح المئات من المدنيين الفلسطينيين العُزّل برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، أثناء محاولتهم الحصول على لقمة عيش تسد رمقهم.
هذه المجازر لم تكن سوى الفصل الأخير في مسرحية “الإغاثة الإنسانية” التي روّجت لها الولايات المتحدة، والتي انكشفت حقيقتها أمام وعي الشعب الفلسطيني، الذي أدرك أن هذه المساعدات لم تكن سوى أداة جديدة لإحكام السيطرة والتهجير القسري، إنّ ما حدث في رفح ونتساريم يُعدّ فشلاً ذريعاً للمشروع الإغاثي الأمريكي، الذي سقط قناعه الزائف أمام صمود الشعب الفلسطيني ورفضه للذل والهوان.
لم يكن مشهد الدماء التي سالت في رفح ونتساريم مجرد حدثٍ عابر في ذاكرة الحرب الصهيونية ضد غزة، بل كان علامة فارقة في سجل جرائم الحرب المتواصلة، حيث وقف الفلسطينيون في طوابير المساعدات، يظنون أن كرتونة الدقيق أو كيس الأرز سيمنحهم هدنةً قصيرةً من الجوع والقصف، ولكن الرصاص الصهيوني اخترق الخبز قبل أن يلامس موائدهم، ليمتدّ القتل هذه المرة إلى ساحات يفترض أن تكون آمنة بحماية العمل الإنساني المفترض.
لقد سقط أكثر من 30 شهيدا في ضربة رفح، وأصيب المئات، تحت راية الإغاثة، لتسقط معها آخر الأقنعة التي حاول الاحتلال الصهيوني والولايات المتحدة ارتداءها: قناع الإنسانية، فتحوّلت المساعدات إلى فخ دموي؛ لا غطاء صحي ولا ملجأ آمن، بل محرقة جماعية نفّذتها آلة الاحتلال بدم بارد، وكأن توزيع الطعام أصبح مناسبة لتصفية الحسابات مع شعبٍ صامدٍ منذ أكثر من سبعة عقود.
هذا المشهد الدموي يعيدنا إلى حقيقة الاحتلال، الذي لا يرى في الفلسطيني سوى هدفٍ قابل للتصويب، حتى لو كان أعزلاً ينتظر كيس طحين، إنها ليست المرة الأولى التي يحوّل فيها الاحتلال الإغاثة إلى مسرح للجريمة؛ فمنذ دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا، سجلهم أسود في استغلال التجمعات المدنية لضرب وتهجير وفرض السيطرة.
أما ردود الفعل الدولية، فجاءت باهتةً ومترددةً، تتلو بيانات الإدانة بلغةٍ دبلوماسيةٍ خاليةٍ من أي التزام، فترى عبارات مثل: “نشعر بالقلق”، و”نحث على ضبط النفس”، تتكرر وكأنها صدى ممل لبيانات سابقة، لا يرقى إلى مستوى الفعل الجاد لوقف هذه المجازر، حتى المؤسسات الأممية لم تخرج عن كونها شاهداً أخرس على جريمة موصوفة، تُرتكب تحت سمعها وبصرها.
هكذا تتحول المساعدات من حبل نجاة إلى مشنقة سياسية وأمنية، حين يستخدمها الاحتلال كسلاحٍ يضرب به الشعب الفلسطيني مرتين: مرة حين يمنع عنه الطعام، وأخرى حين يقتله وهو يطلب لقمة العيش، وهكذا.. تحوّلت رفح ونتساريم إلى مسرحٍ لجريمة حربٍ جديدة، تُضاف إلى سجل الاحتلال الأسود، بينما يقف العالم في مقاعد المتفرجين، يصفق أحياناً للقاتل، وأحياناً يتظاهر بالبكاء.
المسرحية الأمريكية: كيف استخدمت المساعدات كأداة للتهجير؟
فمنذ اللحظة الأولى لم تكن المساعدات سوى مشهد في مسرحية كُتبت فصولها بعناية في دهاليز السياسة الأمريكية، حيث هناك في الغرف المكيّفة، صيغت فكرة “الإغاثة الاستراتيجية” ذلك المفهوم الذي يجعل من كيس الدقيق خريطة جديدة لإعادة توزيع البشر على أرضهم، فلم يكن المقصود إطعام الجائع بقدر ما كان الهدف صهر وعيه في قالب جديد اسمه: الاحتواء الإنساني.
في رفح ونتساريم، نزل الستار على فصلٍ دمويٍ لهذه المسرحية، ظهر الممثلون الأمريكان بأقنعة الراعي الإنساني يوزعون المساعدات في مشهدٍ يُذكّر بمسرحيات الإغاثة في حروب البلقان وإفريقيا؛ حيث المساعدات لا تطعم بل تُهندس، والهندسة هنا ليست هندسة غذائية فقط، بل هندسة ديمغرافية.. هندسة تُعيد رسم خارطة السكان، تُرغّمهم على الرحيل نحو الكانتونات الجديدة.
لقد تحولت المساعدات في يد الأمريكان إلى ما يمكن تسميته “سلاح الكرتونة”؛ كرتونة تُوزّع مرة في الأسبوع، في نقطة توزيع محددة، تحت أعين المحتل وكاميراته، وهكذا تتحول اللقمة إلى تذكرة عبور: من مدينتك المدمّرة إلى المعسكر الإغاثي، ومن ثم يُعاد تعريف الإنسان الفلسطيني كلاجئ في أرضه، في عملية تهجير مقنّعة.
السياسة الأمريكية هنا لم تكن مجرد داعمٍ سياسيٍ للاحتلال، بل شريكاً متكاملاً في رسم خريطة السيطرة: خطة خنق غذائي على مستوى القطاع، ثم توزيع المساعدات في مراكز محددة لفرض حركة السكان باتجاه رفح؛ حيث يتحول الناس إلى “لاجئين إداريين” في كانتونٍ مغلق.
هكذا تكشف المسرحية الأمريكية عن وجهها القبيح: مساعدة مشروطة بالولاء، إغاثة تُفضي إلى التهجير، وكأن الفلسطيني إذا أراد أن يأكل فعليه أن يترك بيته ومدينته، وأن يُسجّل في قوائم الطاعة، لكنّ الوعي الفلسطيني الذي قاوم عبر التاريخ كل وسائل التهجير، لن يقف صامتاً أمام هذا الفصل الجديد من الخداع.
إنها ليست مجرد مسرحية إنسانية، بل “أمريكية التهجير” بوجهها المعولم، وأدواتها المُصمَّمة بعناية: “سلاح الكرتونة”، “المعسكر الإغاثي”، و “الهندسة الديمغرافية”، كلها مصطلحات تكشف أنّ الدعم الأمريكي في غزة ليس مجرد عونٍ إنساني، بل مشروعٌ استعماريٌّ بثوبٍ جديد.
في المقابل، ظهر المجتمع الدولي في صورة الإدانة الباردة: بيانات شجب وقلق جوفاء، خالية من أي التزام حقيقي، تُعيد تدوير عبارات خشبية تفضح عجز المنظومة الدولية، وبقيت دماء الضحايا شهادة دامغة على نفاق عالمي يعجز عن وقف الجريمة، بل يُطبعها بالصمت المريب، وأمام مشهد المجزرة في رفح ونتساريم، يتبيّن أن المجتمع الدولي لم يغادر مربع “التقاعس الأخلاقي”، تاركاً أهل غزة وحدهم في مواجهة سلاح الكرتونة ورصاص الاحتلال، ليكتب وحده تاريخ مقاومته في زمن الخذلان من القريب والبعيد، خذلان من المؤسسات صاحبة القرار ومن الشعوب المُلتهية بنفسها فقط.
بعد مجزرة المساعدات في رفح ونتساريم، لم يعد الحديث عن العدالة ترفاً سياسياً أو شعاراً عابراً في نشرات الأخبار؛ بل أصبح ضرورة إنسانية وتاريخية تُفرَض بقوة الدم المسفوك على قارعة الإغاثة، إنّ ما حدث كشف حقيقة الاحتلال ككيانٍ قائمٍ على “هندسة الموت”، يستخدم الطعام كسلاح، ويحوّل المساعدات إلى “مشروع إبادة بطيئة”.
هنا يبرز الطريق إلى العدالة، لا بوصفه مساراً قانونياً فحسب، بل بوصفه “مسار تحرّر” يكسر صمت المجتمع الدولي، ويُعيد الاعتبار للشهداء الذين تحوّلوا إلى أرقام في نشرات الإدانة الباردة، فالمطلوب الآن تحقيقٌ دوليٌّ مستقل، غير خاضع لوصاية الأطراف الداعمة للاحتلال، كي لا يُدفن دم الأبرياء تحت ركام البيانات الدبلوماسية، وهذا التحقيق يجب أن يتجاوز مجرد وصف الجريمة، ليكشف منظومة الاحتلال الأمنية والسياسية التي جعلت من “المعسكر الإغاثي” منصةً للتهجير والموت، ويفضح أدوات التهجير الجديدة التي توظفها أمريكا وشركاؤها.
والأهم أن تتحوّل هذه الجرائم إلى أدلة إدانة تُعرض أمام العالم، ليُحاسَب الاحتلال الصهيوني على جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، وليدرك العالم أن العدالة لا تتحقق بالصمت ولا بالبيانات الدبلوماسية، بل بملاحقة القتلة وتفكيك منظومتهم.
نعم.. هكذا يسقط القناع عن وجه الاحتلال، ويظهر المشهد جلياً: دماء تُراق، وخطط تهجير تُنفَّذ، وسط صمتٍ دوليٍ مخزٍ، لكن الشعب الفلسطيني، الذي واجه التهجير بالمقاومة، وفضح “سلاح الكرتونة”، يثبت مرةً أخرى أن وعيه هو السلاح الأقوى، فالطريق إلى العدالة يبدأ من هنا: من مساءلة الجلاد، ومن رفض تحويل دماء الأبرياء إلى مشهد عابر، ورغم ذلك سيظل الشعب الفلسطيني يطالب بحقه في أرضه، وبحقه في العدالة، لأن الحقيقة أقوى من الرصاص، ولأن الدم الفلسطيني لا يقبل أن يكون مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار.
كاتبة فلسطينية في الشأن السياسي