محمد حُستِي: توثيق مُميز للذاكرة النسائية الأمازيغية

محمد حُستِي: توثيق مُميز للذاكرة النسائية الأمازيغية

  

محمد حُستِي
مقدمة
في عمق جبال الأطلس المتوسط بالمغرب، حيث تلتقي الجغرافيا والتضاريس القاسية بالذاكرة الشعبية الخصبة للأمازيغ ، برز صوت نسائي شجِيٌّ حَفَر لنفسه مكانة في وجدان الأمازيغ والمغاربة على حد سواء: إنه صوت الفنانة الأمازيغية حادة أوعكي، الذي لم يكن ولم يولد كأداء فني بدون هوية بل هو فعل وجودي مشبع بالرموز المختزلة للأطلس وللأساطير الأمازيغية ، محمّلٌ كذلك بصرخات الألم والحب والخيانة والحرمان والابعاد الاجتماعي والثقافي  والتعليمي . وسط مجتمع تقليدي يفرض على النساء الصمت والانكماش، اختارت الفنانة  حادة أوعكي أن تُغنّي، لا لتطرب فقط، بل لتتكلم باسم وصوت ملايين النساء المهمشات في الجبال والسهول، فصارت بذلك رمزًا ثقافيًّا بامتياز.
إن دراسة تجربة حادة أوعكي لا تقتصر على تحليل نتاجها الغنائي أو صوتها القوي، بل تمتد نحو تفكيك البُنى الرمزية والثقافية التي شكّلت حضورها. فهي تمثل ظاهرة سوسيولوجية معقدة تختزل تحولات المجتمع الأمازيغي عبر الزمن والمكان ، من التقاليد الصارمة إلى الانفتاح الحذر، ومن الصمت القسري إلى النطق الجمالي. لقد مزجت بين الخاص والعام، بين السيرة الذاتية والذاكرة الجمعية، وبين الشجن الفردي والهمّ الجماعي.
وتُعدُّ الفنانة حادة أوعكي نموذجًا فريدًا في الثقافة الشفوية الأمازيغية، إذ وظفت الأغنية كفضاء بديل للبوح والتمرد، وجعلت من صوتها أداة مقاومة ضد الهيمنة الذكورية والوصاية المجتمعية، في زمن لم يكن يعترف للمرأة بحق الكلام أو الحضور الفني. وهذا ما يجعل تجربتها مفتاحًا لفهم العلاقة بين الفن والهامش، الهوية والجسد، السلطة والصوت في المجتمعات الأمازيغية الجبلية.
بناء على ذلك، يسعى هذا العمل إلى تحليل تجربة حادة أوعكي من خلال مقاربات متعددة: سيميائية، أنثروبولوجية، وسوسيولوجية، مع التركيز على رمزية صوتها في حفظ الذاكرة الثقافية، وعلى أبعاد الطلاق والزواج المبكر في تشكيل ملامح سيرتها الفنية. كما سيتم تتبع أثرها في التمثلات المعاصرة للمرأة الأمازيغية، ورصد موقعها داخل الحقل الغنائي المغربي، بوصفها أيقونة ترمز إلى التحول، والجرأة، والمقاومة الوجدانية.

أثر الفنان حادة أوعكي في الذاكرة الثقافية والهوية الأمازيغية

لا يمكن قراءة تجربة حادة أوعكي بمعزل عن السياق الثقافي والهوياتي الأمازيغي. فقد لعبت دورًا محوريًّا في حفظ الذاكرة الغنائية الشفوية، وساهمت من خلال صوتها في ترسيخ حضور المرأة في الساحة الفنية، حيث لم تكن فقط مُغنية، بل ناقلة للقصص، وللوجدان الجمعي، ولتجربة إنسانية تعكس حياة الأمازيغ في الجبال، بين القهر والعشق، بين الصبر والنضال.
لقد غنّت عن الحب، والخذلان، والغربة، والانكسارات العاطفية بلغة أمازيغية قوية نحتت كلماتها من صخور جبال الأطلس، وعزفت ألحانها على إيقاع الدفوف التي تهز القلوب قبل الأجساد.
لا يمكن فصل تجربة حادة أوعكي عن سياقها الهوياتي العميق، فهي لم تكن مجرد فنانة شعبية تغني للتسلية أو الطرب، بل شكّلت صوتًا جمعيًا يعيد إنتاج المعيش اليومي للإنسان الأمازيغي في جبال الأطلس، ويجسد مآلات وجوده بين قسوة الطبيعة وضيق الواقع الاجتماعي والثقافي. لقد تحوّلت أغاني حادة إلى مرآة عاكسة لذاكرة جماعية، تُمثل أرشيفًا شفويًا للمرأة الأمازيغية بوجه خاص، وللثقافة الأمازيغية بوجه عام. ومن خلال هذا الامتداد الصوتي، باتت فنانة تؤسس لنمط غنائي يتجاوز الترفيه نحو استعادة سرديات التجربة الأمازيغية المحفوفة بالتهميش، والاحتقار المؤسساتي، والاغتراب في وطن لا يمنحها الاعتراف الكافي.
لقد غنّت حادة أوعكي عن الحب والخيانة والفقد والخذلان، عن معاناة الفتاة الأمازيغية وسط أعراف الزواج المبكر والصمت القاسي، عن الجبل كأب حنون وكسجان في آن، وعن الرجل كعاشق غادر أو كأخ حارس للعرض والحدود. كانت أغانيها بمثابة خطاب نسوي مقاوم داخل البنية الثقافية التقليدية، تتسلل فيه الذات النسوية إلى صدارة المشهد الغنائي، لا بوصفها موضوعًا، بل كفاعل شعري وسردي يمتلك صوته، وحقه في البوح والرفض.
إن اللغة الأمازيغية التي اعتمدتها حادة لم تكن مجرد وعاء لغوي، بل كانت حاملًا هوياتيًا مكثفًا، تنقش به تفاصيل اليومي الأمازيغي، وتستدعي من خلاله رموزًا أنطولوجية عميقة تتصل بالأرض، والطبيعة، والدم، والزمن الدائري للمجتمع القروي. ولذلك، تُعدّ تجربتها مساهمة فنية في الحفاظ على “الذاكرة الثقافية”، بحسب تعبير “يان آسمن” (Assmann)، والتي تُعرّف بأنها نوع من الذاكرة الجماعية التي تُنتجها النصوص والرموز والاحتفالات والأصوات، وتعمل على نقل الهوية عبر الأجيال. فبفضل صوتها الفريد، استطاعت أن تحتفظ بموروث أمازيغي شعبي مهدد بالاندثار، وتمنحه بعدًا معاصرًا يصل إلى جمهور يتجاوز حدود الجغرافيا الأمازيغية.
كما أنّ الطابع الشفوي لأغاني حادة، وانتقالها من الأعراس والمناسبات العائلية إلى التسجيلات الحديثة، يكرسها كحلقة وصل بين نمطين ثقافيين: الثقافة التقليدية المنغلقة والثقافة العامة المنفتحة المعاصرة ، مما يجعلها نموذجًا للتحوّل داخل الثقافة الأمازيغية المعاصرة. وفي هذا السياق، تُسجّل حادة أوعكي موقعًا متفردًا داخل “الهوية الثقافية الأمازيغية المؤنثة”، إذ تُضفي على هذه الهوية صوتًا شعريًا وأدائيًا يعبر عن القهر ولكن أيضًا عن القدرة على التكيف والإبداع، وهو ما يجعلها تُقارب مفهوم “الأنثروبولوجيا الأدائية” كما بلوره الباحث ريتشارد شيشنر (Richard Schechner)، حيث تُصبح الموسيقى والغناء أداة للتعبير عن الذات الجماعية ومقاومة سلط الهيمنة.
إن تجربة حادة أوعكي، إذًا، هي حكاية صوت تمرد على الصمت، وصوت نسوي استطاع أن يخترق البنية البطريركية للثقافة الأمازيغية المصطنعة التي لم تكن كذلك في الزمن الغابر ، ويحتل مركزًا في المتخيل الجمعي الأمازيغي، عبر الغناء والشعر والحكي. لقد أعادت الاعتبار لكرامة الذات النسوية، لا في خطابها فقط، بل في حضورها، ومكانتها، وجرأتها على مساءلة الواقع، كل ذلك من موقع الهامش لا من المركز.
تُعدّ الفنانة الأمازيغية حادة أوعكي من أبرز الأصوات النسائية التي ساهمت في حفظ وتوثيق الذاكرة الثقافية الأمازيغية، خاصة في منطقة الأطلس المتوسط. من خلال مسيرتها الفنية، استطاعت أن تُعبّر عن تجارب المرأة الأمازيغية، وتنقل معاناتها وآمالها عبر الغناء، مما جعلها رمزًا للهوية الثقافية والنسوية في المغرب.
أثر حادة أوعكي في الذاكرة الثقافية والهوية الأمازيغية
لا يمكن فهم تجربة حادة أوعكي بمعزل عن السياق الثقافي والهوياتي الأمازيغي. فقد لعبت دورًا محوريًا في حفظ الذاكرة الغنائية الشفوية، وساهمت من خلال صوتها في ترسيخ حضور المرأة في الساحة الفنية. لم تكن فقط مُغنية، بل ناقلة للقصص، وللوجدان الجمعي، ولتجربة إنسانية تعكس حياة الأمازيغ في الجبال، بين القهر والعشق، بين الصبر والنضال.
لقد غنّت عن الحب، والخذلان، والغربة، والانكسارات العاطفية بلغة أمازيغية نحتت كلماتها من صخور الأطلس، وعزفت ألحانها على إيقاع الطبول التي تهز القلوب قبل الأجساد. من خلال أغانيها، استطاعت أن تُعبّر عن تجارب المرأة الأمازيغية، وتنقل معاناتها وآمالها، مما جعلها رمزًا للهوية الثقافية والنسوية في المغرب.
ظاهرة الزواج والطلاق المبكرين في حياة حادة أوعكي
تُعتبر تجربة الزواج المبكر لحادة أوعكي في سن الرابعة عشرة، ثم طلاقها بعد فترة قصيرة، انعكاسًا للواقع الاجتماعي والثقافي الذي كانت تعيشه النساء في المناطق الأمازيغية خلال تلك الفترة. هذا الزواج المبكر كان نتيجة للضغوط الاجتماعية والتقاليد التي كانت تفرض على الفتيات الزواج في سن مبكرة، خاصة إذا كنّ يظهرن ميولًا فنية أو سلوكًا يُعتبر غير تقليدي.
طلاقها المبكر كان خطوة جريئة في مجتمع يُقيّد حرية المرأة، ويُحاول كبح طموحاتها. هذا القرار لم يكن سهلًا، لكنه كان ضروريًا لتتمكن من متابعة شغفها بالفن، والبحث عن ذاتها، وتحقيق استقلاليتها. تجربتها تُبرز التحديات التي تواجهها النساء في المجتمعات التقليدية، وتُسلّط الضوء على أهمية تمكين المرأة، ومنحها الحق في اتخاذ قراراتها المصيرية..

حادة أوعكي إرث صوتي ورمزي في الذاكرة الجماعية الأمازيغية

اليوم، وبعد عقود من العطاء، أصبحت حادة أوعكي أيقونة فنية وصوتًا لا يُنسى في الذاكرة المغربية والأمازيغية الجماعية. تُدرَّس تجربتها بالانتقال بين الاجيال الجديدة من الفنانين والفنانات  بالمغرب ، وتُستعاد أغانيها في الحفلات والمناسبات، كما يُحتفى بها من قبل المهتمين بالثقافة الشفوية الامازيغية ، والباحثين في الموسيقى الإثنية والسوسيولوجيا الغنائية.لقد كسرت حادة الصمت، وغنّت وهي تبكي وتُبكي، وصارت رمزًا لأنوثة لا تُختزل في الجسد، بل تُعاد صياغتها في اللحن والكلمة والرسالة.
وبعد مسيرة فنية طويلة تجاوزت حدود الإبداع الشخصي لتتحول إلى ظاهرة ثقافية، أصبحت حادة أوعكي تُجسّد اليوم أحد أبرز الرموز النسائية في الثقافة الأمازيغية والمغربية عمومًا. فهي ليست مجرد صوت نسائي صادح، بل تمثل ذاكرة جمعية محمولة على نبرات الألم والحب والاحتجاج الصامت. وقد ارتقى حضورها إلى مستوى الرمز الثقافي، لما تختزنه من دلالات حول موقع المرأة، والتعبير الفني، والمقاومة الثقافية في المجتمعات الهامشية.
يُنظر إلى أغاني حادة اليوم باعتبارها أرشيفًا شفهيًا غنيًا، يحمل في طياته أنساقًا سردية وشعرية شفوية، ساهمت في نقل نمط العيش، والوجدان الجماعي، وتحولات الحساسية الثقافية لدى سكان الأطلس المتوسط. وبذلك، لم تعد مجرد “مغنية شعبية”، بل باتت مرجعًا سيميائيًا في فهم التحولات التي مست الذائقة الفنية الأمازيغية، والتعبيرات النسائية خارج المركز الثقافي الرسمي.
لقد كسرت حادة أوعكي جدار الصمت بصوتها القوي الذي جمع بين الانكسار والتمرد، بين الحنين والاحتجاج، وخلقت لنفسها مكانة استثنائية في ذاكرة المستمعين، نساءً ورجالًا، ممن وجدوا في أغانيها صوتًا لمآسيهم وتجاربهم الفردية والجماعية. فهي حين تغني، لا تكتفي بإيصال اللحن، بل تُفعّل “وظيفة الطقس الغنائي” (fonction rituelle du chant)، حيث تتحول الأغنية إلى وسيلة لتطهير الذات، وإعادة ترميم الذاكرة الجمعية  بالأطلس المتوسط عبر الإيقاع والكلمة.
ولعل أهم ما ميز تجربة حادة هو قدرتها على إعادة صياغة الأنوثة خارج الأطر التقليدية، حيث لم تُختزل المرأة عندها في الجسد أو الشكل، بل تجلّت كذات فاعلة، معبّرة، قادرة على تحويل الألم إلى صوت، والمحنة إلى معنى. من خلال غنائها المتمرد ، استطاعت أن تهزّ القوالب الجاهزة للأنوثة، وأن تؤسس لخطاب رمزي يربط المرأة الأمازيغية بالجبال، بالأرض، بالقسوة، ولكن أيضًا بالحب والمقاومة.
لقد تحولت حادة أوعكي، بصوتها وإرثها الغنائي ، إلى “أيقونة سيميائية” تعبّر عن مرحلة مفصلية في تاريخ الغناء الأمازيغي النسائي المتجذر بالاطلس المتوسط ، وعن جيل من النساء اللواتي قاومن الصمت بالتعبير الغنائي ، والإنكار بالتوثيق، والهامش بالصوت.
تُعدّ تجربة الفنانة الأمازيغية حادة أوعكي نموذجًا فريدًا في تاريخ الموسيقى الامازيغية المغربية، حيث تجاوزت حدود الفن لتصبح رمزًا للهوية الثقافية والنضال النسائي في المجتمع الأمازيغي. من خلال صوتها العذب وكلماتها المعبرة، ساهمت في حفظ الذاكرة الغنائية الشفوية وترسيخ حضور المرأة في الساحة الفنية عامة ، معبرة عن معاناة وآمال المجتمع الأمازيغي.
الزواج المبكر والطلاق: تحليل اجتماعي وثقافي
تزوجت حادة أوعكي في سن الرابعة عشرة، وهو ما يعكس ظاهرة الزواج المبكر المنتشرة في بعض المجتمعات التقليدية المركبة ، حيث تُعتبر الفتاة جاهزة للزواج بمجرد بلوغها سن البلوغ. هذا الزواج المبكر غالبًا ما يكون نتيجة لضغوط اجتماعية وثقافية دخيلة تهدف إلى حماية “شرف” الأسرة وضمان مستقبل الفتاة.
ومع ذلك، فإن هذا النوع من الزواج يحمل في طياته مخاطر كبيرة، منها انعدام النضج العاطفي والنفسي للفتاة، وعدم قدرتها على تحمل مسؤوليات الزواج في قرى جبال الأطلس الصعبة . في حالة الفنانة حادة أوعكي، أدى هذا الزواج إلى طلاق مبكر، مما يعكس عدم توافقها مع هذا القرار المفروض عليها، ورغبتها في تحقيق ذاتها بعيدًا عن القيود الاجتماعية.
تُظهر هذه التجربة الشخصية القوية و الفريدة لحادة أوعكي التحديات التي تواجهها النساء في المجتمعات التقليدية، حيث تُفرض عليهن أدوار محددة دون اعتبار لرغباتهن وطموحاتهن في الحياة الاجتماعية . كما تسلط الضوء على أهمية التمكين والتعليم للنساء كوسائل لمواجهة هذه التحديات وتحقيق الاستقلالية.

أثرها في الذاكرة الثقافية والهوية الأمازيغية

لا يمكن فصل تجربة حادة أوعكي عن السياق الثقافي والهوياتي الأمازيغي  بالمغرب. فقد لعبت دورًا محوريًا في حفظ التراث الغنائي الشفوي  الأمازيغي، حيث كانت أغانيها تعبيرًا صادقًا عن الحياة اليومية، والمعاناة، والأفراح، والأحزان التي يعيشها المجتمع الأمازيغي، خاصة في المناطق الجبلية القاسية .
من خلال صوتها القوي وكلماتها المؤثرة، استطاعت حادة أوعكي أن تنقل قصصًا وتجارب حقيقية، مما جعلها تحظى بمكانة خاصة في قلوب المستمعين المستهلكين لهذا النمط الغنائي الكلاسيكي بالاطلس المتوسط   .كما ساهمت في تعزيز الهوية الأمازيغية، والحفاظ على اللغة والثقافة الأمازيغية من خلال منجزها الغنائي .
تُعتبر حادة أوعكي مثالًا للمرأة القوية والمبدعة التي تحدّت القيود الاجتماعية، وأثبتت أن الفن يمكن أن يكون وسيلة للتعبير عن الذات، والمقاومة، والحفاظ على الهوية الثقافية.

حادة أوعكي والتمثلات المعاصرة للمرأة الأمازيغية:

من التهميش إلى الرمز

شكّلت تجربة الفناة حادة أوعكي نقطة انعطاف حاسمة في التمثلات الفنية والاجتماعية للمرأة الأمازيغية. ففي مجتمع يتوارث نماذج تقليدية صارمة لأنوثة مقموعة ومُنْضَبِطة، فجّرت حادة تلك القوالب من خلال أدائها الغنائي الجريء الذي لم يكتفِ بالبُعد الجمالي، بل حمل معه طاقة رمزية تعبّر عن مكبوتات جماعية ومآسي نسوية عميقة. لقد تحوّلت إلى رمز نسائي تجاوز الجسد ليعانق القضية، والبوح الفردي ليختزل مصير جماعي.
في هذا السياق، لم تعد المرأة الأمازيغية تُرى فقط ككائن منزوي في المجال الخاص أو ضحية أعراف قهرية، بل أصبحت – من خلال نموذج حادة – صوتًا يمكنه أن يقف، يواجه، يفضح، ويشدو بالحقيقة الموجعة. وبهذا، ساهمت الفنانة في إعادة تشكيل التمثلات الرمزية للأنوثة الأمازيغية، ليس في المجتمع المحلي فقط، بل في المخيال الثقافي المغربي الواسع.

الموقع داخل الحقل الغنائي المغربي: هامش يخلق المركز

إذا كان الحقل الغنائي الأمازيغي المغربي محكومًا تاريخيًا بهيمنة الأساليب الغنائية من العامية المغربية  الحضرية (كفن العيطة والطرب الغرناطي والملحون…)، فإن صوت الفناة حادة أوعكي انبثق من الهامش الأطلسي، ليؤسس لنوع جديد من الحضور الفني: حضور لا يطلب الاعتراف بقدر ما يفرض ذاته بقوة التجربة وصدق الألم. لقد غنّت بلغة “المُهَمَّشين”، عن قضايا “غير المغنّى عنها”، خارج صناعة النجومية، لكنها دخلت وجدان الجماعة الأمازيغية والمغربية بعمق.
وقد ساهم هذا الحضور في بلورة نوع من “الشرعية الرمزية” لصوت المرأة الريفية، الأمازيغية، التي لا تملك مسارح ولا إعلامًا، لكنها تملك الحقيقة. وهنا تكمن قوة حادة أوعكي : في قدرتها على تحويل الهامش الثقافي إلى مركز وجداني، وتحويل الألم الشخصي إلى رمز جماعي.

الأيقونة الرمزية: التحول والجرأة والمقاومة

بكل تجلياتها، تقف حادة أوعكي اليوم بوصفها أيقونة رمزية تمثل ثلاثية نسوية عميقة:

التحول: من امرأة مغلوبة على أمرها، إلى فنانة تصوغ ذاتها من خلال الفن، وتعيد كتابة مصيرها خارج شروط الهيمنة الذكورية.

الجرأة: في التعبير عن قضايا “محرّمة”، من الحب إلى الخيانة، من الطلاق إلى الوحدة، من العنف إلى التمرد.

المقاومة الوجدانية: حيث لا سلاح سوى الكلمة واللحن، ولا منبر سوى القلب، ولا خطاب سوى الحنين، لتصبح الأغنية شكلًا من أشكال المقاومة الوجدانية ضد التهميش والإنكار والتجاهل المجتمعي.

هكذا تتجاوز تجربة حادة أوعكي البعد الفني لتتجذر في التربة الثقافية الأمازيغية كعلامة دالة على التحول المجتمعي، وكرمز نسوي يعيد الاعتبار للصوت الأنثوي الغائب في المشهد السوسيو- ثقافي المغربي.

خاتمة
تشكل تجربة حادة أوعكي أكثر من مجرد مسار فني نسوي فردي؛ إنها اختزال لتاريخ من الألم الجماعي، والأمل الثقافي، والمقاومة الرمزية في وجه التهميش والسلطة الذكورية. لقد جسدت حادة، من خلال صوتها وإرثها الغنائي، صورة المرأة الأمازيغية وهي تنحت حضورها وسط صخور الأطلس، متحدية القيود الاجتماعية التي حاولت اختزالها في أدوار محددة داخل مؤسسة الزواج أو في الهامش الفني.
لقد تحول صوت حادة إلى ذاكرة جماعية، ونقل معاني الحب والخيانة، العزلة والانتماء، مما جعل من فنها أرشيفًا حيويًا يعيد صياغة التاريخ الثقافي الأمازيغي من منظور نسائي وشعبي. كما أن حضورها القوي في الذاكرة الثقافية المغربية يثبت أن الغناء ليس فقط أداة طربية، بل وسيلة للتوثيق، وللمقاومة الثقافية، ولتثبيت الهوية.
زواجها المبكر وطلاقها السريع لم يكونا سوى نقطة انطلاق لمسار تحرري جعل من الألم طاقة تعبيرية ومن الكلمة المغمسة بالدمع فلسفة فنية، وهو ما يمنح سيرتها بُعدًا أنثروبولوجيًّا يعكس ديناميات التحول داخل المجتمعات الجبلية الأمازيغية.
إن إعادة قراءة تجربة حادة أوعكي من منظور سوسيولوجي وثقافي يُبرز الحاجة الملحّة اليوم إلى الحفاظ على هذا التراث الشفهي، وتدريسه، والاعتراف به داخل مؤسسات التكوين الفني والثقافي. فتجربتها لا تنتمي فقط إلى الماضي، بل تطرح أسئلة راهنة حول مكانة المرأة، والهوية، واللغة، والتمثلات الثقافية في مغرب اليوم. وبهذا المعنى، فإن صوت حادة أوعكي لم يكن مجرد غناء، بل شكلًا من أشكال المقاومة الرمزية، يُعيد للأمازيغية أنوثتها، وللمرأة الأمازيغية صوتها، وللمهمشين كرامتهم المفقودة.

المراجع

Pierre Bourdieu, “La Domination masculine”, Paris, Seuil, 1998.

عبد الرحمان المودن، “الصوت النسائي في الثقافة الأمازيغية: قراءة أنثروبولوجية”، مجلة الثقافة المغربية، عدد 75.

زهرة حجي، “المرأة الأمازيغية بين الجسد والهوية: دراسة في المتخيل الغنائي”، مجلة أنثروبولوجيا المغرب، عدد 12. Bas du formulaire

صورة للفنانة الأمازيغية حَادة أُوعكِّي