محمد باهي: قراءة تحليلية لرواية ” نطفة ” لأدهم شرقاوي تحدي نوعي للصمود والبقاء لتستمر الحياة

محمد باهي
في واحدة من أبرز الروايات العربية التي تحمل عنوان “نطفة ” للروائي أدهم شرقاوي، وبسرد مشوق وحكي مشوب بمنسوب عال من الأحداث والوقائع ،التي تندرج في سياق ماتعج به الذاكرة التاريخية الفلسطينية من نضال متواصل ومستميث ، وما يتبدى من تحديات نوعية على مستوى الصمود والمقاومة، والارتباط بالأرض رغم همجية الاحتلال وتماديه في التقتيل والتدمير ، بهذا النفس العميق الدلالات تحيلنا رواية “نطفة” المكونة من 326 صفحة في طبعتها السابعة الصادرة عن دار كلمات للنشر والتوزيع على جزء من تفاصيل المقاومة الفلسطينية بقطاع غزة ،وتكشف لنا بعضا من أنماط الأساليب التي يلجأ إليها الفلسطينيون الأسرى داخل السجون الإسرائيلية ،للبحث عن سبل وآليات متجددة لتطويرمرتكزات المقاومة وأصنافها من داخل الأسر.
في هكذا سياقات، لجأ الروائي أدهم شرقاوي إلى جعل روايته التي تحمل عنوان “نطفة ” تسير على إيقاع ووثيرة فصل واحد مطول غير خاضع للتجزيء، مفتوح على صيرورات وقائع وأحداث بالغة التشويق والإثارة، وهي بذلك تجعل القارئ يلتهم الصفحات بهدف استيعاب كلي لتفاصيل أحداث الرواية، والانصهار مع شخوصها إلى حد التماهي مع ذاكرة تحمل قضية الأرض والوطن.
ولعل الروائي أدهم شرقاوي كان متألقا في منح جوهر العمل الروائي عمقا رومانسيا ضمن علاقة الشخصيتين الرئيسيتين: حمزة وأسماء، اللذان اتسمت بداية علاقتهما بتقاسم مشاعر عاطفية مبهرة ، توطدت إلى أبعد الحدود لتتوج بعشق سرمدي متبادل ، وكان مآله التعاقد على تتويج العلاقة العاطفية بزواج ينهي محنتهما ،وييسر السبل أمامهما لجمع الشمل وتكوين أسرة تضمن استمرارية النسل والخلف ، باعتباره رهان الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للتقتيل الممنهج.
ويروي بطل الرواية: حمزة على لسانه باعتباره واحدا ممن كانوا يشتغلون على حفر الأنفاق :”في ذلك اليوم ،كنت عائدا من حفر نفق ،فكما تعرفين أنه بعد أن ضاقت بنا الحياة على ظهر الأرض صرنا نبحث عن حياة في بطنها ،أنفاق نهرب بها حليب أطفالنا خلسة تحت جنح الظلام ،كأننا تجار مخدرات لا طالبي حياة، ونهرب الأسلحة استعدادا للمعركة القادمة ، فقدر غزة أن تحارب ،إنها كالمجالدين في زمن الرومان، عليها كل مرة أن تنزل إلى ساحة المبارزة ،وليس أمامها خيار إلا أن تقتل أو تموت “.
وكان السبيل متيسرا أمام بطلي الرواية حمزة وأسماء ،حيث قدر لعلاقتهما العاطفية أن تجد لها حلا من خلال عقد قران أدخل البهجة والفرح على أسرتي العاشقين ، وبمرور عدة أشهر ،وجد حمزة نفسه مضطرا لمصاحبة جدته العليلة إلى مستشفى بالضفة الغربية ، وكانت خيبة الأمل بالنسبة له ولأسماء ذات وقع كبير ،بعد أن تم توقيفه بحاجز أمني ،حيث خضع للاستنطاق مطولا ،ومورست عليه شتى أصناف ووسائل التعذيب ،إلى أن انتهى به المطاف أسيرا لدى قوات الاحتلال الإسرائيلي ،وحوكم بعقوبة سالبة للحرية كانت مدتها ثمان سنوات .
وفي سياق هذه الأحداث ،كان الروائي بارعا في جعل القارئ منصهرا مع وقائع مثيرة بتفاصيلها الجزئية داخل مدينة غزة ، حيث كشف المستور وأزاح الأقنعة عن وضع كان لابد أن تعتريه من حين لآخر اختلالات تفرضها الظرفية ،وعلى هذا الأساس ،يحكي حمزة بطل الرواية لأسماء :”استرجعت شريط حياتي كله وأنا أمشي ،وعرفت أننا لسنا ملائكة ، منا شياطين أيضا ، وبيننا جواسيس لولاهم ماكان لهؤلاء أن يعرفوا عني شيئا ،هؤلاء المرضى الذين باعونا لأعدائنا بالمال ، عرفت وأنا أمشي ياأسماء صدق المقولة : القلاع الحصينة لاتسقط إلا من الداخل “.
ولعل متعة رواية :”نطفة ” لأدهم شرقاوي تتخذ لها منحى عابرا بين الرومانسية والعشق المتوج بالزواج ،إلى تراجيديا الأسر ومحكومية ثمان سنوات قضاها حمزة داخل زنزانة ضيقة المساحة ،لكنها كانت واسعة بالرفاق ، إذ صار له صحبة ، كانوا مختلفين ، منهم الإسلامي والليبرالي ،واليساري ،ومنهم من ليس له معتقد غير حب هذه الأرض ،وهو المعتقد الذي يتقاسمه الجميع، فبقدر ما فرقتهم الأفكار وحدهم الوطن والأرض .
ويسترسل الروائي أدهم شرقاوي في بسط تفاصيل روايته “نطفة ” ليجعلها مفتوحة على أحداث بالغة التشويق ، مع توالي أفكار مبهرة ومدهشة، امتزجت فيها الصلابة والقوة والصمود برفع التحدي لبطلي الرواية: أسماء وحمزة ، حيث أمام ضيق السبل وعزلة الأسر ،وطول مدة الحكم ،ورغبة في تجسيد الرهان الفلسطيني المتمثل في استمرار النسل والخلف ،كان لابد لهما من البحث عن ملاذ لتحقيق ذاك المبتغى ،فكانت الفكرة في سموها اللافت ،تهريب نطفة من داخل السجن ،وتمكين أسماء من إنجاب طفل في مسعى لتكسير نمطية الحياة ،وإعادة الدفء لعلاقة الزوجين بطلي الرواية، وأسرتيهما ومجتمع مدينة غزة بشكل عام .
ويحكي الروائي تفاصيل عملية تهريب النطفة من داخل المعتقل بوتيرة امتزج فيها عنصرا التشويق والرهبة على مآل الفكرة المبهرة ، حيث تسارعت الأحداث من خلال تكليف أسماء بعد الاتفاق على تنفيذ الخطة بالقيام بكافة الترتيبات الطبية بالضفة الغربية ،باعتبارها أقرب نقطة لتوصيل النطفة لمركز صحي ،على أساس أن هذه الأخيرة لا يمكنها العيش أزيد من أربع ساعات ، وتم الإعداد لخطة تقتضي ملاءمة تاريخ زيارة أسماء لحمزة بالمعتقل ،خلال اليوم الذي تكون متزامنة مع يوم الإباضة ،وذلك بهدف إنجاح عملية تخصيب النطفة بنسبة موثوقة ،وهي عملية ترتبط بما يصطلح عليه بالتلقيح الاصطناعي داخل المركز الصحي، الذي تم الاتفاق مع طاقمه الطبي مسبقا على تنفيذ الخطة.
وفي تسلسل للوقائع ،جعل الروائي أدهم شرقاوي ذروة الرواية تكمن في فترة الزيارة العابرة التي خصت به أسماء زوجها حمزة داخل الأسر ، حيث تمكن من تسريب أنبوب تتواجد به النطفة أثناء تبادل التحية من خلال كم قميصه ،لتغادر أسماء على عجل مقر السجن في اتجاه المركز الصحي ،حيث تمت عملية زرع النطفة بنجاح ، وبعد مرور شهر ،أكد الفحص الطبي حمل أسماء ،وهو حدث خلف فرحة عارمة داخل أسرتي الزوجين ،وبمرور تسعة أشهر ،أنجبت أسماء مولودا أنثى اختير له إسم أمل ، ومرت الشهور بنفس طويل على حمزة داخل الأسر ،وهو العاشق الولهان لزوجته أسماء ،والمتعطش لرؤية ومعانقة مولودته الصغيرة أمل .
وختم الروائي أدهم شرقاوي رواية “نطفة ” بتفاصيل تحمل آفاقا مبهجة ،حيث تمكن حمزة بطل الرواية من مغادرة السجن بعد أن ورد إسمه ضمن لائحة لصفقة تبادل الأسرى بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي ،وهو حدث كبير توج بالإفراج ومعانقة الحرية والالتقاء بالزوجة أسماء والطفلة أمل ،وباقي أفراد أسرتي البطلين وعموم ساكنة غزة .
هذه الأحداث بتفاصيلها المتعاقبة والمشوقة، جعلت من رواية “نطفة” للروائي أدهم شرقاوي عملا إبداعيا مبهرا، باعتباره يكشف عن واحدة من أبرز القضايا التي عمرت طويلا، القضية الفلسطينية حين ترتبط في صيرورتها التاريخية بتطوير أساليب الدفاع ومواجهة الاحتلال، واللجوء إلى تحدي نوعي للصمود والبقاء، لتستمر الحياة./ محمد باهي/كاتب من المغرب .