مجد شاهين: “الكارما الفلسطينية” في ذاكرة الأمم من برتقال يافا إلى ساحات النضال من أجل الحرية

مجد شاهين: “الكارما الفلسطينية” في ذاكرة الأمم من برتقال يافا إلى ساحات النضال من أجل الحرية

مجد شاهين

منذ أن وُلدت فلسطين تحت وهج الوعي الجمعي، وهي لا تقاتل وحدها.
لا لأنها تطلب ذلك، بل لأن فيها شيئًا يجعل الآخرين يقاتلون معها… أو من أجلها… أو عبرها.
و القصد هنا الشعوب .. لا الانظمة التي خذلتها لا بل وتأمرت عليها حتى وصل الامر بالبعض ان سلم للصهاينه بعض الاحزاء من فلسطين .

لم تكن فلسطين مجرّد ضحية.
بل كانت في لحظات كثيرة “المانِح”، حتى وهي تحت الاحتلال.
كانت تتبرع، وترسل، وتجمع، وتُصدّر..
تُصدّر البرتقال، وتُصدّر الدم، وتُصدّر الحلم.
كانت تخرج من مساجد غزة والقدس ونابلس مسيرات تضامن لأجل نيكاراغوا، ولأجل فيتنام، ولأجل أي شعب يقاتل استعمارًا أو طغيانًا.
كان طلاب فلسطين يجمعون التبرعات لدعم مصر بعد النكسة، ويشترون الطعام من رواتب الفقراء لإرساله إلى لبنان أثناء الحرب الأهلية، ويتشاركون الرغيف مع شعوب لم ترَ فلسطين أبدًا لكنها رأتها فيهم.

كانت فلسطين تكبر في الآخرين، كما لو أنها الذاكرة التي تَذكُر عن الجميع.
وقدّمت من مخزونها الأخلاقي ما يكفي ليكون العالم مدينًا لها، لا العكس.

حين وُلدت التنظيمات من رحم فلسطين

لم يكن غريبًا أن تكون حركة “القوميين العرب” من أوائل التنظيمات التي حملت على أكتافها فكرة الوحدة والتحرر والاشتراكية والمقاومة ضد الاستعمار.
لكن التحول الأبرز جاء بعد نكسة 1967، حين أعادت الحركة تموضعها ميدانيًا، فتفجّر من رحمها أحد أبرز التنظيمات الثورية في تاريخ الكفاح الفلسطيني:

الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – بقيادة جورج حبش – والتي لم تكن مجرد تنظيم فلسطيني، بل أيقونة ألهمت تشكيل “جبهات شعبية” أخرى في دول عربية عديدة.

انطلاقًا من نموذج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ظهرت لاحقًا جبهات شعبية تحمل نفس الاسم أو المضمون في أكثر من بلد عربي..
الجبهة الشعبية لتحرير البحرين
الجبهة الشعبية في عمان والخليج العربي المحتل
الجبهة الشعبية في السودان
الجبهة الشعبية في تونس والمغرب العربي

فكرة “الجبهة الشعبية” باتت رمزًا للتمرد على الاستعمار والأنظمة التابعة، ومعبّرًا عن امتداد الكارما الثورية الفلسطينية في جسد الأمة.

هذه التنظيمات – وإن تفاوت أداؤها ومآلاتها – كانت مستلهمة من القضية الفلسطينية تنظيميًا وأخلاقيًا.
كانت فلسطين مُلهمة، لا بخطاباتها فقط، بل ببنيتها السياسية وقدرتها على خلق إطار جامع للمقاومة.

الكارما الإيجابية: حين كانت فلسطين المُصدّر الأخلاقي

صدّرت فلسطين فكرة “التحرير الكامل” من الاستعمار، لا “التحايل” ولا “التطبيع”.
صدّرت حركة شعبية مسلحة لا تشبه الأنظمة ولا تتودد للعروش.
منحت اللجوء للثوار في الأردن ولبنان وسوريا وتونس واليمن، واحتضنت المقاومين من الجزائر إلى كولومبيا.
رفضت – في بداياتها – أن يكون الاحتلال مدخلًا للكراهية الطائفية، بل حتى استوعبت بعض المهاجرين اليهود الشرقيين الذين لم يكونوا صهاينة، وفي عز انشغالها بدمها، كانت ترسل رسائل تضامن إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتُدرّب من يستطيع أن يحمل البندقية.

الكارما المرتدة: حين تُصبح فلسطين ضمير العالم

وفي أيامنا هذه، تتجلّى هذه الكارما الإيجابية بأوضح صورها..
رغم الحصار، والقصف، والتشويه الإعلامي، فإن فلسطين – وخصوصًا غزة – أصبحت تُلهِم ضمير العالم الحرّ.
ففي وجه العدوان الوحشي، خرجت الملايين في كل قارات الأرض – من نيويورك إلى جوهانسبرغ، ومن إسطنبول إلى سانتياغو – تهتف لفلسطين، وتُدين الاحتلال، وتُحرج حكوماتها المتواطئة.

نُظّمت المسيرات الكبرى في العواصم الغربية التي لطالما تجاهلت الصوت العربي.
رأينا طلاب الجامعات الأمريكية يعتصمون لأيام، ويواجهون السجن والطرد دفاعًا عن غزة.
رأينا نقابات عمّالية في أوروبا تعلن مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال.
رأينا عائلات يهودية تُعلن رفضها للصهيونية.
رأينا إفريقيا تعود لفلسطين بعد عقود من الخذلان الرسمي.

إن هذا التفاعل العالمي لا يأتي من فراغ، بل هو جزء من تلك الكارما القديمة التي زرعتها فلسطين في الضمير العالمي، يوم كانت تمدّ يدها للجميع… فحصدت اليوم من بقي من الأحرار في هذا العالم.

الكارما السلبية: حين خان الحلم أبناءه

لكن الكارما لا تعود دائمًا بنفس الجمال.
فكما أن فلسطين زرعت الوعي في محيطها، فإنها دفعت أحيانًا ثمن أخطاء غيرها… أو أخطائها.
انقسمت التنظيمات التي كانت تُرعب العدو، فصار العدو يتفرج.
اغتيل الحلم الوطني لحساب سلطات تحت الاحتلال، لا تحته فقط بل في خدمته، صارت بعض الفصائل نسخة باهتة عمّا كانت عليه… أو مطية لمشاريع لا علاقة لها بالتحرر.
خرجت من بعض الأجساد الفلسطينية أصواتٌ تُبرّر للتطبيع، وتُهذّب للاحتلال، وتُخرس كل من يصرخ.

النهاية المفتوحة: فلسطين التي أعطت… هل من يُعيد لها النداء؟
إن الكارما – بمفهومها الفلسفي – ليست عدالة حتمية، بل طاقة دائرية.
وفلسطين التي منحت الكثير، قد لا تنتظر المقابل، لكنها بالتأكيد تُطالب بألا يكون المقابل خذلانًا.
هذه الأرض التي خرجت منها الجبهات، والتضحيات، والمفكرون، والحكايات، ليست فقط ضحية استعمار، بل كانت معلمًا لكل من أراد أن يتعلم كيف تكون الكرامة.
والتاريخ، مهما اختلطت فصوله، لن ينسى أن أول من حمل السلاح بعد النكبة، كان من أطفالها.
وأول من صدّر الوعي الثوري العربي، كان من مقاتليها.

هذه هي الكارما الفلسطينية:
دمٌ لم يُهدَر، بل سُقيت به أرض الآخرين.
وعيٌ لم يُصدَّر، بل نبت تلقائيًا في ضمائر الأحرار.
وخيبة، لا من العدو… بل ممن ظنناهم أبناء الثورة.