رانية مرجية: زهير أندراوس… القلم المتمرد يتحول إلى سلاح على المذبح

رانية مرجية
ليس سهلاً أن تكتب عن زهير أندراوس، لأنك ببساطة لن تكتب عن شخص، بل عن جبهة فكرية كاملة، عن قلم فلسطيني أرثوذكسي، جليليّ الجذور، مشتبك مع اللحظة، لا يهادن ولا يجمّل. أندراوس ليس مجرد صحفي، بل ضميرٌ حيّ في جسد شعبٍ مثقلٍ بالمنافي الداخلية والخارجية. هو النموذج الحي للكاتب الذي يقاوم لا بالبارودة بل بالحرف، لا يكتب ليُعجب، بل ليُزعج، ولا يراهن على الجوائز ولا على المنابر، بل على ذاكرةٍ وطنية لا تصدأ.
الجليليّ الذي أفلت من أسر التصنيف
ولد زهير أندراوس في ترشيحا الجليلية، البلدة المتجذرة في الروح والممتدة في الأسطورة، وتربّى على أن يكون صادقًا أولاً، وفلسطينيًا قبل أي تصنيف. لم يُخفِ يومًا انتماءه الطبقي، ولا لغته الحادّة، ولا رفضه المطلق لسياسات الأسرلة والتدجين الفكري.
لا تفتّشوا عنه في بلاط الأنظمة، ولا في صالونات المثقفين المدجّنين. زهير أندراوس ظلّ حرًا كما ولدته ترشيحا، متمردًا على المعجم الرسمي، ناقمًا على كل خطاب ملوّن بلون “الواقعية السياسية”، تلك الواقعية التي تُطبع فيها النكبات وتُغلف بها الخيانات.
الحرف سلاح والفكرة خندق
من يقرأ مقالات زهير أندراوس، يخرج منهكًا ولكن يقظًا، كأنما صفعه التاريخ. لا يقدم لنا تحليلاتٍ ناعمة، بل تفكيكًا مريرًا وموجعًا لعلاقات القوة، ولسياسات الاحتلال، ولانحطاط الحالة العربية والفلسطينية.
في أحد أعمدته على صحيفة (رأي اليوم)، يكتب: “إسرائيل لم تكن يومًا دولة ديمقراطية… بل هي غيتو عنصري مدجج بالأسلحة والإعلام والمال”.
وهنا تتجلى شجاعة أندراوس في تشريح ما يخجل الآخرون من مجرد التلميح إليه. هو لا يخاف من وصف إسرائيل بدولة الإرهاب، ولا يتردّد في فضح دور النخب العربية في تسويق الهزيمة تحت عباءة الواقعية، ولا يمرّ مرور الكرام على سلطة فلسطينية باتت – بحسب وصفه – “وكيلة أمنية للاحتلال بثوب وطني”.
القضية عنده ليست خطابًا بل وجعًا
زهير أندراوس ليس هاوي مقاومة لفظية، بل حامل وجع. كل كلمة يكتبها مسنودة بشعور ثقيل بأن الذاكرة تُغتال، وبأن فلسطين تُجفّف من داخلها. حين يكتب عن غزة، لا يُغرق القارئ في خطاب عاطفي سطحي، بل يُعيد تظهير المجازر، ويكشف تواطؤ الجميع في حصارها:”غزة لا تُحاصر من إسرائيل فقط، بل من منظومة عربية كاملة تطبّعت مع الاحتلال عقلاً وقلبًا”.
كلماته لا تهادن، وهي لهذا السبب تتعرض دائمًا للملاحقة. فتاريخ أندراوس المهني مليء بالتحقيقات والمضايقات من قِبَل سلطات الاحتلال، التي لم تتحمّل صراحته ولا التزامه.
في عام 2009، فتحت الشرطة الإسرائيلية تحقيقًا معه بتهمة “التحريض”، لمجرد أنه تجرأ على القول إن “جيش الاحتلال جيش قتلة، لا أخلاق له ولا ضمير”. وكأنّ قول الحقيقة صار جريمة في بلاد ترضع الأكاذيب.
المثقف المشتبك… بلا خوف
زهير أندراوس يكتب بمنطق المثقف المشتبك، ذلك الذي أشار إليه غسان كنفاني ذات مرة، حين قال إنّ وظيفة الكاتب ليست تزيين المشهد، بل اقتحامه. أندراوس يكتب كمن يعرف أنه على حافة الخطر دائمًا، لكنه لا ينحني، بل يزداد شراسة. هو ابن المدرسة التي ترى في الكتابة فعل انحياز، لا حياد.
في أحد مقالاته الأخيرة، كتب: “من يطلب منا أن نكون حياديين في حضرة الاحتلال، يشبه من يطلب من الضحية أن تبتسم للجلاد”. هكذا يفكك أندراوس المفارقات الأخلاقية، ويعيد توجيه البوصلة حين تتوه بين النفاق والركاكة.
مواقف لا تتزحزح
لا يمكن الحديث عن زهير أندراوس دون التوقف عند مواقفه الصلبة من التطبيع، ورفضه لأي خطاب يتبنى نظرية “حل الدولتين” كأنما هي الخلاص، في وقتٍ تتحول فيه فلسطين إلى كانتونات محاصرة ومفتتة.
يرى أندراوس في (أوسلو) خيانة موصوفة، وفي التنسيق الأمني انحطاطًا وطنيًا، وفي الاحتلال كيانًا استيطانيًا لا يمكن إصلاحه بل يجب اقتلاعه. وفي وجه من يقول إنّ حلّ الدولتين هو الممكن الوحيد، يردّ بسخرية مرة: “الممكن الوحيد في قاموس الأنظمة هو ما يرضي السيد الأمريكي، أما فلسطين، فليست بندًا في جدولهم”.
الإنسان خلف الحبر
ورغم صرامته في المقال، فإنّ زهير أندراوس في كتاباته الشخصية، يبدو كإنسان هشّ، موجوع، ابن وطن ضائع. يكتب أحيانًا عن أمه، عن ترشيحا، عن الحنين، عن الغضب الذي لا يهدأ، عن الطفولة التي اختطفها الجنود ذات يوم. هو المثقف الذي ما زال يؤمن بأن الكلمة يمكن أن تحرّر، إذا لم تساوم، ولم تبتلعها المؤتمرات.
خاتمة لا تختم
أنْ تكتب عن زهير أندراوس، هو أنْ تكتب عن المعركة التي لم تنتهِ، وعن فلسطين التي تسكن بين ضلوعنا رغم كل الخرائط. هو الكاتب الذي لم يصعد على أكتاف أحد، ولم يمدح زعيمًا، ولم يتلوّن بلون المرحلة. بقي حبره أحمر، دمه جليليًا، صوته مشرقيًا، كأنما وُلد ليقول ما لا يُقال.
في زمن يتسابق فيه الكتّاب على نيل الرضا، يظل زهير أندراوس يكتب ليوقظ، لا ليرضي.
فله الحبر… ولنا أنْ نتعلم.
كاتبة فلسطينية