محمد سعد عبد اللطيف: “ليل زيورخ… وسرّ السرايا”!

محمد سعد عبد اللطيف
كانت السماء السويسرية تتلألأ بأضواء زيورخ، مدينة المال والنظام، بينما تمضي خطواتي على الأرصفة النظيفة كأنها توقّع نوتة موسيقية صامتة. كل شيء حولي يبدو محسوبًا، دقيقًا، باردًا… لكن داخلي كان يمشي في ممرٍّ آخر، دربٍ يشبه طرق قريتي تلبانة، التي تعرف طعم الخطى ودفءَ الحكايات القديمة.
رنّت في أذني كلمات جورج جرداق، شاعر النغم الرومانسي، بصوت أم كلثوم الذي يتمايل كنسيم ليلي:
هذه ليلتي وحلم حياتي… بين ماضٍ من الزمان وآتِ
ليل زيورخ كان هادئًا، لكنه لم يكن خاليًا من الهمس. كان يمسح الغربة بكفٍّ من ثلج، ويشعل في داخلي دفءَ الوطن.
الهوى أنت كلّه والأماني… فاملأ الكأس بالغرام وهاتِ….
نظرت إلى مقهى على ضفة النهر، كانت أنوار الشموع تتلألأ في زجاجه، وابتسامات العشاق تنعكس على وجه الماء. تخيّلت أن كأس النبيذ الذي يتبادلون به النظرات، هو ذاته الكأس الذي تحدّث عنه الشاعر، مملوء بالغرام والحنين.
لكن فجأة، خطفني صوت الذكرى:
وديارٌ كانت قديمًا ديارًا… سترانا كما نراها قفارًا…
فكّرت في قريتي… في ذاك المبنى الكبير الذي يشبه سرايا مهجورة، نطلق عليه “السرايا”، يطلّ على “داير الناحية في قريتنا ” وشاطئ النهر، الذي طالما ذكّرني بشاطئ المنصورة وطلخا، حيث المراكب الصغيرة تهمس بلغة الماء، وحيث عبق التاريخ لا يزال يلوّن جدرانه وسقوفه العالية.
سوف تلهو بنا الحياة وتسخر… فتعالَ أحبك الآن أكثر….
كأن الأغنية كانت تنبّهني: لا تؤجّل الحب، لا تؤجّل الحنين. ففي غربتك الباردة، وفي قلب ليل زيورخ النظيف حدّ الجفاف، لن يعزّيك شيء سوى أن تحب الآن… وتحب أكثر.
قد أطال الوقوف حين دعاني… ليَلمّ الأشواق عن أجفاني….
عند تقاطع شارعين، رفعت رأسي، فرأيت منزلًا قديمًا من الطراز الأوروبي، لكنّي لم أره كما هو، بل رأيت “السرايا” في قريتي، تعلوها أشعة الغروب، وسمعت في داخلي صدى الضحكات القديمة في الساحة أمامها. كما كان صديقي المرحوم” فهيم حسين ” يطلق علي ساحتها (كازينو التل)
وليكن ليلُنا طويلًا طويلًا… فكثيرُ اللقاء كان قليلًا….
نحتاج ليلًا يمتدّ، كليالي الريف، حيث لا يُقاطع حديث الحنين سوى صوت ضفدع أو وقع نعلٍ على أرضٍ رطبة. أمّا هنا، فكل شيء ينتهي بسرعة. حتى الليل لا يعرف كيف يطيل المقام.
يا حبيبي وأنت خمري وكأسي… وغدي في هواك يسبق أمسي…
أدركت أنني لم أخرج من قريتي، بل حملتها معي… في حقيبتي، في صوتي، في الأغنية التي لا تموت، وفي هذا النص الذي أكتبه الآن على رصيف بارد… وقلبٍ دافئ.
هذه ليلتي، فقِف يا زمان..!
يا ليت الزمن يسمع. كنت سأطلب منه أن يتوقّف عند هذه اللحظة: لحظة صدق، تجمع بين برد زيورخ ودفء “السرايا”، بين نغمة شرقية وهمسة غربية، بين الحنين… وبين فنٍّ جميلٍ يعبر الجغرافيا والزمن، ويجعل من الغربة مرآة للوطن، ومن الحبِّ وطنًا لا يُنسى….!
كاتب وباحث مصري