جبريل محمد: سنة عجفاء فكيف نواجه عطش الصيف؟

جبريل محمد
كثير من المؤتمرات العالمية والإقليمية والمحلية ناقشت وتناولت الاحترار الكوني والتغير المناخي وتأثيره على البيئة العالمية، والبيئات المحلية بشكلٍ مفصل.
ورغم تسلط الرأسمالية العالمية المسؤولة بالدرجة الأولى عن الانبعاثات التي تؤدي إلى هذا الاحترار والتغير المناخي؛ الذي غالبًا ما تتأثر به الأمم الفقيرة أكثر من الغنية، إلا أن إجراءات محددة لمواجهة هذا الاحترار الكوني لم تصل إلى شنّ حملة بيئية عالمية من أجل تقليص الانبعاثات، خاصة أن الولايات المتحدة الأميركية التي تعد من أكبر منتجي هذه الانبعاثات، هي أقل من يهتم بذلك؛ بينما لا تقوى الأمم الفقيرة على مواجهة الأزمة دون دعم الدول الغنية، وهو دعم ما زال ضئيلاً ولا يؤدي هدفه المنشود.
وبالاطلاع على ما تنشره “دائرة الأرصاد الجوية الفلسطينية” عن كميات الأمطار المتساقطة على الأراضي الفلسطينية، يتبيّن أن معدلها حتى صبيحة الحادي عشر من آذار لا يتجاوز 40% من المعدل السنوي التراكمي؛ وقد سجلّت نابلس أعلى كمية هطول قاربت 50%، فيما راوحت هطولات المطر على السلسلة الجبلية الغربية بين 35% و 40%.
ولما كان المعدل العام للهطول المطري في هذه السلسلة يراوح بين 550 و600 مليمتر، فإنه قد انتهى رسميًا فصل الشتاء، وبذلك نكون أمام سنة مجدبة.
صحيح أن معدل الهطول تجاوز الحد الأدنى العام وهو 250 مليمتراً، لكنه لم يغِذ المياه الجوفية تغذية جيدة أو بحدوده الدنيا؛ فالهطولات كانت خفيفة ومتفرقة، ولم يحصل هذا العام منخفضات عميقة ذات هطول عال يستطيع تغذية الآبار الجوفية، حيث مرت “فحول” الشتاء (شهري كانون أول وكانون ثاني) بحالة أشبه بالجفاف، مع طقس بارد وبارد جًدا وجاف في شهر شباط، وندرة هطول في آذار، ولا يُتوقع أن يغطي ما تبّقى من آذار النقص الحاصل في الهطول.
كما أن توقعات كل الراصدين الجويين حول تأخر موسم الشتاء إلى أواسط نيسان هي توقعات غير مضمونة، وبهذا فإننا أمام سنة جافة، سوف تتأثر بها الينابيع وعيون الماء سلبًا، وكذلك الآبار الجوفية، وحتماً سينعكس ذلك كله على الوضع المائي عموماً.
معدلات الهطول المطري وطرق تصريفها
يبلغ متوسط هطول الأمطار في الضفة الغربية وقطاع غزة حوالي 3,2 مليار متر مكعب في السنة، يتبخر منها كميات تتفاوت من 60 إلى 70%، ويتسرب إلى باطن الأرض حوالي 25%، فيما يجري المتبقي على شكل سيول باتجاه البحر.
كما يؤثر التباين التضاريسي لفلسطين على معدل سقوط الأمطار السنوي من 100 مليمتر في الأغوار إلى 650 مليمترًا في المرتفعات.
ويُضخّ حوالي 289 مليون متر مكعب من الآبار الفلسطينية، ونحو 40,6 مليون متر مكعب تأتي من تصريف الينابيع، و4,1 مليون متر مكعب من المياه المحلاّة، و84,2 مليون متر مكعب تُشترى من شركة ميكوروت الإسرائيلية.
في ضوء الإحصاءات السابقة، سنحصل هذا العام على 40% من المخزون المائي، وبطبيعة الحال سيؤثر الأمر على المخزون الاحتياطي المتوفر في الأراضي الفلسطينية، ما يؤدي إما إلى تقليص الضخ في الصيف انتظارًا لشتاء قادم، أو “الضخ الجائر” للمخزون الإستراتيجي للمياه، وهذا الاحتمال ضعيف، فهو ليس بيد الفلسطينيين وحدهم، إنما يتحكم به الاحتلال أيضًا.
انعكاس حالة الجفاف على حياة الناس
بناءً على ضعف الهطول المطري هذا العام، ستتأثر حياة الفلسطينيين عموماً من الجفاف، وأهم قطاع سيتأثر به هو القطاع الزراعي المهمّش من قِبل السلطة الفلسطينية، والذي لا يلقى الاهتمام اللازم، فالزراعة ليست مجرد وسيلة للسيادة على الغذاء فحسب، بل هي عنوان صمود وتحدٍ في وجه مشاريع الاحتلال الإسرائيلي المتعددة للاستيطان والتجويع والتهجير، وبالتالي فإن الزراعات التقليدية التي توفر سلة الغذاء الأساسية سيقل عرضها وتبعاً لذلك، سترتفع أسعار منتوجاتها.
ومن جهة ثانية، لن يكون توافر الأعلاف الطبيعية الناشئة عن المراعي خصبًا هذا العام (لتسهم في تقليص الاعتماد على الأعلاف المصنعة)، ما يعني أن الطلب سيزيد على الأخيرة، التي سترتفع أسعارها، وستستمر سلسلة ارتفاع أسعار اللحوم، الناتجة عن زيادة الكلفة في التربية الحيوانية.
عدا ذلك تترتب آثار مباشرة على الاستهلاك الصناعي للمياه، ما يزيد الطلب على المياه، وحينها سيرتفع سعرها الذي سينعكس على سعر المنتج النهائي لهذه الصناعات.
أما الاستهلاك المنزلي للمياه، فمن واقع تجارب السنوات السابقة، لوجود محافظات كاملة عطشى، ومع هطول مطري دون المعدل، هذه الأزمة الدائمة التي لم تجد لها حلاً جذريًا حتى الآن ستتفاقم، وليس هناك من إمكانية لاستيراد المياه سواء على المستوى العملي أم المستوى الاقتصادي، حيث جرت العادة في ضوء نقص السلع المحلية الاعتماد على استيرادها؛ إذ اُستورد محصول البندورة أكثر من مرة من تركيا أو غيرها، أما المياه فاستيرادها لا يزال خارج إطار الممكن.
هل من إعلان رسمي عن “عام جفاف” من السلطة الفلسطينية؟
عادة، تنشر الدول في مثل هذه الظروف إعلانًا رسميًا بالجفاف يقتضي بموجبه اتبّاع سياسات معينة لمواجهته على الصعد كافة، سواء من ناحية الاستهلاك المنزلي والصناعي أم من جهة الاستهلاك الزراعي للمياه، فضلاً عن سياسات تُلزم بدعم مربيّ المواشي بالأعلاف، وتقليص المساحات المزروعة بمحاصيل تحتاج إلى كميات كبيرة من مياه الري.
لكن في ضوء تخلي السياسات النيوليبرالية عن التدخل الحكومي في الاقتصاد، لم تهتم الحكومة بإصدار إعلان كهذا، وبيان سياساتها تجاه النتائج المترتبة على وضع الجفاف هذا العام؛ بحيث يُترك المواطنون، سواء كانوا مزارعين أم صناعيين أم مجرد مستهلكين منزليين للمياه، يتدبرون شؤونهم بأنفسهم دون أي دعم أو تدخل حكومي، أو توجيهي بتقليص المساحات المزروعة التي تتطلب استهلاكًا عاليًا للمياه، التي تكون عادةً محاصيل ذات طابع تجاري وتوّجه تصديري.
وهنا تكمن مشكلة التخطيط الحكومي لتطوير مصادر المياه، حيث رهنت الحكومة نفسها باتفاقات مع سلطة الاحتلال في المجال المائي، تجعل من الاحتلال مسيطرًا على هذا القطاع إلى حد كبير، فيما تقف الحكومة عاجزة عن إيجاد سبل إبداعية لتجاوز هذا الأمر في الحالات الطبيعية، فكيف يكون الحال تحت وطأة الجفاف؟
وفي المقابل، مؤسسات المجتمع المدني المختصة بقطاع المياه، لم تعر الأزمة اهتمامًا كافيًا؛ ولم تقدم حتى الآن أي توجيهات لمواجهة هذا الظرف الاستثنائي، مع أنها لطالما أدارت مشاريع متعلقة بالتغير المناخي والاحترار وتأثيره على الزراعة، لكن تلك المشاريع ظلت مجرد تقارير وتوصيات لم ترّقَ إلى درجة مباشرة التخطيط والتنفيذ لمواجهة الأزمة.
هل الجفاف كارثة طبيعية؟
كثير من الدول حين يصيبها الجفاف ترى ذلك كارثة طبيعية تستوجب خططًا لمعالجتها، والتعويض على المتأثرين بها، بتنفيذ سياسات الدعم التي ترفضها السياسات النيوليبرالية، إذ يقودها صندوق النقد والبنك الدوليين.
ونحن هنا في مناطق السلطة الفلسطينية نعاني كارثة طبيعية مستدامة ليس بسبب الجفاف الطارئ، بل بسبب تجفيف الاحتلال المتعمد لمواردنا المائية.
فإذا كانت السنة الحالية سنة جفاف، تُرى هل ستساهم وزارة الزراعة، بـ “صندوق التعويض عن الكوارث الطبيعية”، في تعويض الخسائر الناجمة عن الجفاف؟ مع أن الخبرة السابقة مع هذا الصندوق لم تكن إيجابية في ظروف مناخية أقل حدة من الظرف الحالي.
ما الحل؟
حسناً، لا مجال للتحكم بالظرف الطبيعي الطارئ، لكن لا بد من سُبلٍ لتخفيف وطأته على المواطنين وعلى الحياة العامة، ما يتطلب اجتماع كل المهتمين بهذا المجال، وتشكيل خلية أزمة تحدد التحديات وآلية مواجهتها بسياسات تخفف من العواقب المترتبة على الجفاف.
وهنا لا بد من التعاون بين الفاعلين في هذا الحقل، مؤسسات حكومية وغير حكومية، أملاً في أن يكون الموسم القادم موسم خير، كما يقول البسطاء من شعبنا.
خاص بآفاق البيئة والتنمية