محمود كامل الكومي: في ذكرى حرب تموز، نقدم مقتطفات من روايتي “قصفة زيتون وعنقودوكروم”

محمود كامل الكومي
هذا الجزء من الرواية بفضح المؤامرة الصهيو امريكية وآلرجعية العربيةو عملائهم في الداخل المصري على مصر وجمال عبد الناصر.
أحداث الرواية:
كان الحوار يتردد، يلمع الشرر أمام عينيها، وصَداه دقاتٌ مبتورة في أسماعها، طنينٌ، على وقعه تخلع ملابسها وتراقص شياطينها:
الملكة “هيروديا”: ستأتينني برأس “يوحنا المعمدان”.
“سالومي”: ماذا فعل، يا أمي؟
الملكة “هيروديا”: ليندم على انتقاده لي، وتتبع سهراتي في الهوى والانحلال.
“سالومي”: وكيف يا مليكتي؟
ولتدفعها للفعل، ذكّرتها الأم بتجاربها الكثيرة في العشق، التي تنقلت خلالها من مخدعٍ إلى آخر، حتى إن الملك يسيل لعابه عليها
فردت سالومي: لقد ضاجعتُ نصف رجال القاعة، ولا أتذكّره!
الملكة “هيروديا”: اتبعي خطتي ولا تعقّبي… يجب أن تفتني الملك، وتثيري أحط غرائزه، حتى يتوسل إليكِ أن تدخلي فراشه، حينها تشترطين عليه رأس “يوحنا المعمدان”.
وهكذا، رقصت “سالومي” عاريةً في حفل الملك “هيرودس”، فقدم لها رأس “يوحنا المعمدان” على طبقٍ من ذهب.
فورًا… طارت مع دفقات الدخان الكثيف الذي غطى عينيها، وكاد أن يُطبق على رئتيها.
وقبل دخول قاعة المرقص، ابتسمت لنفسها في المرآة، ثم راحت تداعب صدرها بأناملها، حتى فاض الدم من ثدييها.
جونسون، بلحمه ودمه، يتوسّط المائدة، بعيدًا عن المكتب البيضاوي وبيته الأبيض.
في صدر القاعة، النجمة السداسية، وخطّان أزرقان يمتدان من أعلاها وأسفلها، ويحفّ المائدة خيوط العنكبوت.
إلى جانب جونسون، تجلس ماتيلدا، طباخة السّم، تتأهب لتقديم الديك الرومي على طبقٍ من ذهبٍ لخفافيش الظلام.
تجول عيناها في أرجاء المائدة، يغوص بصرها في وجوه الحاضرين، تتجمّد مقلتاها على وجه من بدأ بالكلام، فتلين كلماتها، وهي تدغدغ عواطف جونسون حتى أعطافه.
تتماهى ماتيلدا مسترسلةً تلقائيًا:
ماتيلدا: كان لا بد من قتل “جون”، فصداقته لمخلص جعلته يفرض على إسرائيل تفتيش مفاعل ديمونة، رغم رفض “مخلص” لعرضه بالتنازل عن “أم الرشراش”، التي احتلتها إسرائيل عام 1949، مقابل بناء جسر بين مصر والسعودية.
لذا، كان لا بد من وجودك، يا سيادة الرئيس، لتعيد الأمور إلى نصابها، وتنفّذ بروتوكولات حكماء زعبوط.
يبتسم جونسون، ويميل بظهره إلى الوراء، فتزداد أساريره انشراحًا.
تمسك ماتيلدا يده، تداعبها بحنان، تضغط عليها، ثم تضغط على قلبه قبل أن توجه إليه سؤالها:
ماتيلدا: أوروبا الغربية والأصدقاء يغدقون الهدايا على تل أبيب؛ فرنسا وجنوب أفريقيا سترسلان عشرين طائرة بطواقمها، بريطانيا منحت إسرائيل الخطة الجوية لحرب 1956، ألمانيا الغربية منحتها كافة أنواع الأسلحة الهجومية، ومليارات الماركات تعويضًا عن جرائم النازي. شاه إيران يوفّر البترول لإسرائيل حتى ما بعد الحرب.
فمن سيصطاد الديك الرومي، إذن، يا سيادة الرئيس؟
كانت عينا جونسون شاخصتين نحو ماتيلدا، يكاد يبتلع دهشته وانبهاره، فيما سُهاد ما زالت مقلتيها مثبتتين على وجه ماتيلدا، وقد استفاقت على سؤالها الموجّه للرئيس.
فالتقطت الخيط الرفيع، وغزلت به الطبق الذي سيُقدَّم عليه الديك الرومي، مرددةً:
سُهاد: عصمت صار المسؤول عن الملف السياسي للحرب عند باب المندب؟
لحظتها، انقلب الاجتماع إلى صالة رقص وغناء، وصبّ الخمر في الأقداح، ورُفعت الكؤوس تشرب نخب الاصطياد.
سرعان ما أتى الأدهم بمعدات الصيد، و”مليكه” يحث رئيس المحفل أن تعجل الذئاب بالصيد، وإلا تعاظمت القومية العربية، وصار كلاب المحفل فريسة للفرسان، وضاع حلم الدولة الواحدة من النيل إلى الفرات، وبدت زعامة “مخلص” تستعيد أرض الزيتون والكروم، لتغطي أشجارها عالم الأحرار.
ابتسم جونسون، ثم ارتمى في أحضان ماتيلدا، التي أدارت الهاتف لتُسمِع جولدا مائير غنج مؤامرة الخامس من حزيران:
جونسون: أيتها الحيزبون، هذا أمرنا بمنح إسرائيل كل الصور التي تحتاجها من أقمارنا الصناعية التي تراقب “المحروسة”، وتحديدًا المواقع العسكرية تمهيدًا للحرب القادمة، التي استعدت لها إسرائيل منذ أربع سنوات.
ستخرج طائراتنا من قاعدة “هويلس” في ليبيا، لتدمر المطارات المصرية من حيث لا يتوقع أحد. وسنرسل حاملة الطائرات “ساراتوجا” للسواحل الإسرائيلية، لتوفّر مظلة جوية فوقها يوم 5 يونيو 1967، في مواجهة أي هجوم مصري.
سنشارككم في الحرب لاحتلال مصر، والقبض على “مخلص”، وترك سيناء وشرق ووسط الدلتا لإسرائيل، كمساهمة من أمريكا في تحقيق الحلم الصهيوني الأكبر.
تنصت الحيزبون إلى مكالمة جونسون وهي تكاد تطير فرحًا، ثم تتجلى وهي تتابع صوته عبر أثير المسرة:
جونسون: تقوم خطتنا على استدراج مصر لمهاجمة إسرائيل أولًا، لتُدان أمام المجتمع الدولي كدولة معتدية.
لكن الحيزبون لم تنتظر، يدفعها ملوك الذهب الأسود.
(30) قبل الزلزال
يتسع صدى الأصوات، ويُرشق “مخلص” من كل جانب.
كانت قراراته حاسمة، تحمل شيئًا من الديكتاتورية، نعم، كان لا بد منها في أيام الثورة الأولى. ثقته بنفسه فرضت رأيه على الآخرين، لا حبًا في المال أو السلطة، بل لتعزيز الثورة، والقضاء على الخلافات الشخصية وتضارب الإيديولوجيات، وحتى لا تطفئ الأنواء جذوتها.
ورغمًا عنه… نفّذ “عمار”، ليثور التساؤل في صومعة الأحزان:
من أطاح بالنسر الذهبي شرق نهر الأردن؟ ولماذا؟
هل ارتبط “عمار” و”بدران” بمن باع جدّه فلسطين؟ فأطاحوا بالنسر إلى هناك، لأنه كان القادر على قيادة القوات؟
كان جريان مياه راكدة قد غطّى على “عصمت”، وأجّل محاسبته على حرب اليمن، فصار ورقة للتمويه على الأمريكان، وأنقذته من الحساب.
كانت مخالب الداخل والمحيط والخارج تنشب أظافرها، لتُدمِي الجسد. فتوجّس “مخلص”، فالوقت ليس للإثارة الآن.
لا يمكن السكوت على تهديدات إسرائيل بغزو سوريا.
الطائرات الأمريكية والبريطانية تتكدس في قاعدتي “هويلس” و”العدم”، فيما تجثم طائرات أمريكية محمّلة بالقنابل الذرية على أرض مطارات الجزيرة القبرصية.
إزالة القاهرة من الوجود؟ هذا لا يمكن أن يكون!
إذا كان المقصود أنا، ففداءً للقاهرة.
لا يمكنني البدء، وإلا وقعنا في الفخ.
بعد الزلزال
لماذا أغلق “عمار” و”بدران” أذنيهما عن سماع إشارات النسر من الأردن فجر الخامس من حزيران؟ كانت تحذّر من الطائرات المعادية المتجهة نحو “المحروسة”.
وقد أكدتُ عليهما موعد العدوان، وأعطوا التمام، ورغم ذلك… تعمّدا السهر، وصارت الغفوة في ساعة العدوان!
أشياء كثيرة بدأت تتزاحم في رأسه.
وتتزايد دقات النبض، وتخاصم الابتسامة الشفاه.
في عرض البحر، كانت ترشد العدو للطريق، وترسل التشويش والتصنت على قواتنا. ورغمًا عن ذلك، هاجمها العدو، ودمرها.
ثم حاول إلصاق التهمة بالجيش المصري، ليجعلها ذريعة لتدمير القاهرة بالقنابل النووية، وجلب الديك الرومي مذبوحًا.
سقط الأمريكان، حين اكتشفوا أننا صوّرنا، نحن والأصدقاء، طائرات إسرائيل وهي تنفذ “حرية” زائفة… فصمتوا مذهولين من المفاجأة.
فورًا، أصدروا الأوامر بعودة الطائرات النووية قبل أن تصل إلى القاهرة.
كان “مخلص” يحاول أن يستفيق، أن يمتص انفجارات القنابل في جوفه، أن يُحَصّل شهيقًا وسط الدخان، أن يجلد ذاته ويتخلّص من عبء الذنب.
لم يتنصّل من مسؤوليته، فوضع مصيره أمام شعبه، وقدم استقالته.
راح يفرد خيوط المؤامرة من ملفها، وقد تأكد أن بروتوكولات حكماء زعبوط لم تكن كذبة، بل واقع.
فالصراع صراع وجود.
كان محفل البنائين في إسرائيل ينتظر أن يأتي الديك الرومي مذبوحًا من القاهرة، لكن الهدف لم يتحقق، وفشلت الحرب.
راهنت “سهاد” أن يأتي طائعًا صاغرًا متجهم الوجه!
وظلت جولدا على الهاتف تنتظر، حتى ردّ عليها بعد سنوات… زوج سُهاد!
صار طوفان البشر جديرًا بأن يجعل “مخلص” يمتثل لإرادتهم.
وكان الواقع يكشف المؤامرة:
إنها “أُحد”… حين انتكس المسلمون رغم أن قائدهم كان الرسول.
وكم كان احتلال الألمان لباريس مهينًا، لكنهم تجاوزوا أحزانهم.
إذن، فحرب يونيو… نكسة عارضة في تاريخ أمتنا.
وصارت حرب الأستنزاف ودماء الشهداء تسيل تطهرا ووضوءا
وصلاة.
كاتب ومحامي. مصري