نجاح أبو سنينة: تجربتي مع مجموعة قصصية بعنوان ‘من أين يأتي الثلج’ للكاتب طه درويش

نجاح أبو سنينة: تجربتي مع مجموعة قصصية بعنوان ‘من أين يأتي الثلج’ للكاتب طه درويش

فوز أبو سنينة

كنتُ محظوظةً بأنْ أهداني الأديب الأردني طه درويش مجموعته القصصية “من أين يأتي الثلج”، الصادرة حديثاً عن دار “الآن ناشرون وموزعون” في العاصمة الأردنية عمّان.
أنا لستُ مؤهلةً  في الحقيقة لأكتب مراجعة عن كتاب ما، إذ إنني ما زلت أتحسّس درجاتي على سلم الكتابة، لكنني كقارئة نهمة، أحبُّ عادةً أن أدون ملاحظاتي، وأن أكتب قصصي التي أعيشها بين سطور الكتب، وأخط تلك المشاعر التي تهديني إياها، وهذا ما حاولت أن أقوم به هنا.
مكث الكتاب هناك بعض الوقت بين الكتب الجديدة، ينتظرني ويستدعيني لأقرأه. شدّني العنوان كثيراً، ذكرني بالأيام الطفوليّة، وببراءة الأسئلة فيها، قبل أن يقتحم العلم عالم الخيال، ويفسد عليّ نسختي من تفسير هطول الثلج!
لذلك، عندما ضربتُ موعداً مع المجموعة أخيراً، سعدتُ لأن القصة التي تحمل على كاهلها عنوانها هي القصة الأولى فيها، إذ كنتُ أنوي خلسة أن أراوغ الترتيب وأبحث عنها لأقرأها أولاً.  أردتّ بشدة أن أكتشف “من أين يأتي الثلج” من خلال كلمات طه درويش، أن أعرف درجة بياضه وحرارته تلك التي يوحي بها العنوان، لأجدني أدخل فجأة عالماً قارصاً من الحزن، محملاً بالموت، بكل تلك الآلام التي نعيشها ونعجز عن وصفها أو التعبير عنها، فأخد طه درويش على عاتقه عناء سماع دقات قلوبنا وصرخاتنا الصامتة وترجمتها إلى أحداث ومواقف وكلمات تختزل كلّ التعب.. كما فعل في هذه الجملة مثلاً:
“جلستُ القرفصاء على عتبة البيت. مكشوفاً كنتُ للريح، والبرد، وعواصف الثلج. وغفوتُ في مكاني.” (صفحة ١٥)

بعد أن انتهيتُ من الصفحات الأولى، أكملتُ القراءة بحذر أكثر، لتأتي قصة “هديل” تحمل إيقاعاً سريعاً،   شعرت معه بقرب حدوث أمر جلل، أمر كبير كانت تهيئني الكلمات المتعاقبة لاستقباله.

تسارعت نبضات قلبي خوفاً مع الإيقاع واللغة لأجدني، وأقتبس: “انغرستُ أمامها، تجمدتْ نظرتي على جثة الحمامة؛ مهروسةً كانت والأرض تنزف من تحتها” (صفحة ١٩). ليكون مشهد الموت أمامي مرة أخرى رمزاً لما هو أقسى وأصعب، حيث ينزف السلام ومعه الإنسانية مُلطخةً الضمائر النائمة كإسفلتٍ عارٍ.

أغمضت عينيّ لبرهة محاولة أن أوقف سيل الحزن الذي انبثق في داخلي، ثم قلبتُ الصفحة لأغوص مع أمجد؛ في صورة موت آخر، عمق آخر، بُعد آخر.. وأتساءل؛ هل الشعور بالذنب موت؟ هل العجز موت؟ هل الفراق موت؟ أيهما أقسى على النفس والجسد؟ أيهما بارد كالثلج أكثر؟

أسرَتني الصفحات، لم أجد القوّة على تركها، تفاءلتُ بالعنوان القادم؛ “نوم لذيذ”، أكملتُ القراءة، لأراني غارقةً مرة أخرى في جرعة من الألم الذي يتسلل إلى داخلي مع اللغة الشعرية الرائعة، والوصف الذي يؤجّج المشاعر، ويرمّز كل ما هو واضح ولا نجرؤ على الإفصاح عنه. لتكون هذه الجملة ترجمةً لما أردتُ القيام به في تلك اللحظة:
“استندتُ إلى جدار، وبكيتُ كما لم أبكِ في حياتي، سقطتُ أرضاً، النعاس يهاجمني، ووجدتني أغرق في نوم لذيذ!” (صفحة ٣٠).

عندما وصلتُ إلى قصة “تابوت،” كنتُ قد امتلأت بالموت حد الشبع، لكنني وجدت في هذه القصة سخرية وكوميديا سوداء لم أكن أتوقعها، جعلتني أبتسم رغم شحنة الخيبات والخسارات التي تحتويها، لتنتهي القصة بعد التساؤلات المتعددة عن سبب خوفنا من الموت، بهمسة رقيقة في أُذن، تعيد كلّ شيء إلى نصابه ولو مؤقتاً.

قلبتُ الصفحة، وعلى وجهي كانت ما تزال تلك الابتسامة حاضرةً لتطالعني قصة “صهيل الأسئلة”، فانطلقتُ معها بسرعةٍ كحصان جامح متخيلة خيبة حُبٍّ كان واندثر- ربما- وألوم ال “هي” أنا أيضاً، وأسألها: “أكان لا بد أن تأتي؟”  (صفحة ٤١).

أمام قصة “الميت” جلستُ بإجلال فرضه عليّ العنوان، والرهبة التي تصاحب مرور موكب جنازة. هكذا كانت القصة، مليئة بالرهبة، والمشاهد، والمشاعر، والوصف، والحنين، إلى أن تركتني أتأمل التجربة التي خضتها بين سطورها؛ حتى غادرتني الكلمات وبقيت وحدي.

أخذتُ نفساً عميقاً، عليّ أن أنتقل من “الميت” إلى “فرح”. وبين الشهيق والزفير المتكرّرين أعدتُ ترتيب أفكاري التي تبعثرتْ كذرات الغبار في المقبرة. مؤلمةٌ هي الكلمات عندما تصفعنا بالحقيقة، ومؤلمٌ هو الموت حتى في أبهى صوره للخلاص. كان البطل في “فرح” يستخفّ بكل ذلك ليزيد من مشاعر الألم: “ما أريدك أن تعرفه أنني ألقيت القبض على نفسي، يا صديقي، غارقاً ومغموراً بفكرة الهزء من الموت، بدأت أقبل على قراءة صفحة الوفيات في الصحف اليومية بلذة وشغف…” (صفحة ٥٥).

هل في الموت لذة؟
هل في الكلام متعة ما؟
 هل يحرمنا الموت من لذة الكلمات؟ أم هل يريحنا منها؟
“يجب أن تتكلم. من غير المعقول أن تبقى صامتاً. الصمت يولد الجنون. تكلم حتى ولو مع نفسك.” (صفحة ٦٣). لقد ملأتني قصة “ذو الكفن الأبيض يبتسم” بكل هذه الأسئلة. بقيتُ محدقة بها قليلاً، أُحاول أن أحلل ما بها من معانٍ، لكنها أكبر من أن أترجمها بكلمات قليلة، لذلك تركتها وقلبتُ الصفحة علني أعثر على “المفتاح” لتلك الابتسامة، فوجدتُ نفسي وجهاً لوجه مع مجاعة غزة، وآلامها، ومجازرها ومعاناتها.

 وتردّد في داخلي صدى هذه الكلمات: “في الغرفة بشر تتكدس أكداساً في ساحة موت، تضيق الغرفة والبشر الساكن يتململ في علبة سردين. وأنا الرأس الناجي من مجزرتي أتسلل خفية، من تحت الأرجل أتدحرج كالكرة المطاطية، يتأرجح عقلي بين مجاميع البشر الطوفان، أمنحهم من صلب دماغي مفتاح الغرفة.” (صفحة ٦٨)، لأعود وأتساءل: هل في الموت لذة ما لا يعرفها إلا من نبذته الحياة على حين مذبحة؟

بعد أن وصلتُ إلى نهاية الكتاب، لم أعرف أي موت أتوقعه من القصة الأخيرة “أوراق نبيل عبدالسلام”، أو أيّ ألم. فكانتْ الأصعب والأعمق على الإطلاق في نظري، وخير نهاية تختم هذه الرحلة. كان فيها صرخات المخيم، وموت الطفولة، فيها الضفة الغربية المنهوبة، والإنسانية المغيبة، فيها وجع سوريا والسودان ونزف بيروت والجنوب، فيها الحنين للأم، للوطن، للزمن الجميل، للذكريات، للطفولة، للصداقة، للحب، للشعر، فيها مرآة لكلٍّ منّا، تعكسها الكلمات المختبئة بين أوراق نبيل عبد السلام.

 كم كانت مؤلمةً حدّ الجمال سطورُ هذه المجموعة المليئة بخوالج مأساتنا العربية، وموتنا البطيء من الداخل أمام ما يحدث من ظلم وقهر وإبادة. موتٌ باردٌ كالثلج، لا حرارة فيه من الكفن ولا دفء من المقبرة، أغلقت الكتاب وأنا أعود إلى السؤال من جديد:
من أين يأتي كل هذا الثلج؟  ليجيبني طه درويش ببساطة عميقة في الصفحة ١٦:
” من الروح.. الثلج ينبع من الروح…”
صدقتَ “طه درويش”، وما أحوج أرواحنا إلى شفاءٍ بمرهم الكلمات ومواساةٍ بالأدب.

كاتبة فلسطينية/ أردنية مقيمة في إيطاليا.