مهدي مبارك عبد الله: جهود ماكرون للاعتراف بالدولة الفلسطينية – تحليل وتوقعات

مهدي مبارك عبد الله: جهود ماكرون للاعتراف بالدولة الفلسطينية – تحليل وتوقعات

 

مهدي مبارك عبد الله

ما زالت فرنسا تتباهى أمام العالم بأنها بلد الحرية والديمقراطية والثقافة وأنها تقبل الآراء المتغايرة وتسعي للسلام والعدل ووقف الظلم والعدوان عن الشعوب المقهورة ولكن الحقيقة غير ذلك تماما والتاريخ والواقع يشهدان كيف اتخذت فرنسا هذه الشعارات ستارا لتخفي وراءه وجهها القبيح وتاريخها الأسود بعدما صنعت حضارتها وتقدمها على أنقاض الجثث وجماجم للشيوخ والأطفال والنساء ونهبت ثروات الشعوب والبلاد قديما وما زالت تعيش على خيرات البلاد التي احتلها ومما لا شك فيه أن فرنسا احتلت ارض الغير وارتكبت جرائم ضد الإنسانية ومارست الابادة الجماعية وسياسات التجويع والتدمير لتحقيق منافعها الخاصة وتمكين قبضتها وسيطرتها على ثروات البلدان ومواردها الاقتصادية وما هذا إلا غَيض من فيض وما خفي أعظم.
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يأتينا اليوم وبيده يافطة خادعة بعدما فاته القطار ونسيه الزمان وافل نجمه وضاع مجده ليمثل علينا دور السياسي الحكيم الانسان الحريص والمتعاطف مع قضيتنا وقتل اهلنا وتجويع اطفالنا وهدم منازلهم وتدمير حياتهم وقصف خيامهم ليطل علينا بتسويغ وتبرير سياسي ضعيف ويقظة متأخرة وحماسة استعراضية واصرار فوقي يقارب في طرحه لغة التحدي والمواجهة حين فاجأ وسائل الإعلام العالمية بإعلانه اعتزام بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية في يونيو/ حزيران المقبل من منطلق)  الواجب الأخلاقي والمطلب السياسي ) وفق شروط يتفق عليها المشاركون في مؤتمر أممي يعقد في نيويورك بين 17 و20 حزيران الجاري تحت شعار حل الدولتين بعدما طالب الأوروبيين بضرورة تشديد الموقف الجماعي وتكثيف الضغط على إسرائيل إذا واصلت منع المساعدات الإنسانية مع تزايد تدهور الوضع الإنساني في قطاع غزة بسبب استمرار سياسة المحاصرة والتجويع وأن فرنسا قد تفكر في تطبيق عقوبات قاسية على بعض المستوطنين ولا يزال ماكرون على راس الكارثة يحمل الآمال العريضة ويعول عليها بأن تغير الحكومة الإسرائيلية موقفها وأن تتكرم في نهاية المطاف باي استجابة إنسانية ( يال المهزلة ومرحا للعار واهله ).
الملاحظ  في هذا المسار انه مقابل انتفاضة وحماس الرئيس ماكرون الفجائية نحو الاعتراف بدولة فلسطينية هنالك قلق وتخوف من بعض الدبلوماسيين والخبراء الذين يرون إن هذه الخطوة ليس اوانها الان وانها لن تكون مجدية في الضغط على إسرائيل للمضي قدما نحو اتفاق سلام مع الفلسطينيين وأن هذا التحرك بحسب رائيهم قد يعمق الانقسامات الغربية داخل الاتحاد الأوروبي المنقسم اصلا وايضا مع امريكا أكبر حليف لإسرائيل لهذا يطالبون ان يترافق مع الاعتراف او يسبقه بعض الإجراءات الأخرى من بينها مثلا فرض العقوبات والحظر التجاري قبيل عقد المؤتمر المرتقب ومن الجدير التذكير هنا بان  فرنسا اعترفت بالدولة الإسرائيلية في عام 1949 وبقيت منذ 70 عام تدافع عن حقها في الوجود والعيش في أمان.
قد يكون من الصواب القول سياسيا ان الرئيس ماكرون اصبح كمن يسير في حقل الغام واسع ويقطع الصخور بيديه وهو يخوض مسار دبلوماسي صعب ومعقد نحو هذا الاعتراف وإعادة الزخم لما يسمى حل الدولتين ورسم معالم خارطة طريق جديدة لإقامة دولة فلسطينية مع ضمان ( أمن إسرائيل ) التي ترفض مسبقا من خلال حكومة نتنياهو والكنيست كل التحركات الفرنسية والسعودية الجارية للاعتراف بالدولة الفلسطينية ولا تكترث بالمناشدات والضغوط الدولية المتزايدة عليها بشأن ضرورة وقف اطلاق النار والدخول في مفاوضات جادة لأنهاء الحرب في غزة حيث يوجد مليونا شخص محاصرين ومهددين بالموت جوعا وعطشا وقصفا وعلى الضفة الاخرى يقف الرئيس الامريكي ترامب يتحدث بجنون عن فكرة الاستحواذ على ارض غزة لبناء مشروع استثماري عقاري هل يمكن لأي دولة في العالم تدعي أنها ديمقراطية وحضارية أن تستمر في فرض مثل هذا الحصار الفظيع والمروععلى الاطفال والنساء والشيوخ الابرياء.
البعض من المتأملين يقولون انه على فرضية تحقبق أي نجاح عملي على الارض ستصبح فرنسا التي تضم أكبر عدد من اليهود والمسلمين في أوروبا أول بلد غربي من الوزن الثقيل يعترف بدولة فلسطينية مما قد يمنح قوة دفع معنوية لدول أصغر تنتقد اسرائيل باتخاذ قرار مماثل للاعتراف بالدولة الفلسطينية على غرار ما فعلت عدة دول أوروبية اعترفت بدولة فلسطين مثل إيرلندا وإسبانيا والنرويج وسلوفينيا وبلجيكا وغيرها في إطار دعمهم لحل الدولتين الذي أفرغ من محتواه بالكامل منذ أن أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صفقة القرن في فترته الرئاسية الأولى كسبيل وحيد لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط حيث فقد الفلسطينيون حينها أي ثقة بالتسوية والسلام بعد اعترافه بالقدس كاملة عاصمة لإسرائيل ومنحها السيادة على مستوطناتها في الضفة الغربية.
فرنسا وأستراليا وبريطانيا وامريكا لم تعترف حتى الآن بدولة فلسطين في الوقت الذي تبنت فيه 147 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة وان هذا الاعتراف سيفح الباب لمن يدافعون عن فلسطين للاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود وامكانية التوحد دوليا لمكافحة من يرفضون وجودها مثل إيران وغيرها والعمل الجماعي لضمان الأمن في المنطقة في حين ان اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية باعتبارها قوة عظمى اقتصادياً وعسكرياً وعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد يمثل دعم سياسي مهم لمطالب الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على أرضهم ( شطحات وهمية وعمى طوعي ).
في ذات الاتجاه لايزال ماكرون المتعثر يضغط على أستراليا وبريطانيا وعدد اخر من الدول الغربية للانضمام إلى جهوده الدولية للاعتراف بالدولة الفلسطينية كما ويقود تحركات فاعلة لحشد دعم عالمي لاتفاق سلام جديد في الشرق الأوسط يعزز القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية بحسب زعمه للوصول إلى تسوية دائمة وعادلة رغم ان الكنيست الإسرائيلي سبق له ان صوت بالأجماع على قرار رفض إقامة دولة فلسطينية ما يعني ان ( المصعد معطل ).
قمة حل الدولتين المقررة في نيويورك ستركز على أربعة محاور أساسية اولها الاعتراف بالدولة الفلسطينية كطعم لصيد السمكة وثانيها تطبيع العلاقات بين دول المنطقة وهو الغاية والهدف وإصلاح السلطة الفلسطينية كلام لذر الرماد في العيون ونزع سلاح حماس البند الاخير الذي يمثل الكعكة التي وضع فيها السم حيث تثور المخاوف والشكوك فلسطينيا حول حراك ما كرون للاعتراف بالدولة الفلسطينية باعتباره لعبة سياسية مكشوفة تصل حد المؤامرة الخفية.
السؤال هنا ماذا يعني اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية ولماذا يأتي في هذا التوقيت بالذات تحت النار والموت والدمار وما سر هذا الاندفاع والحماس الفرنسي الغريب للاعتراف بالدولة الفلسطينية رغم إنه ماكرون كان في السابق  يفضل المفاوضات الطويلة على الاعتراف الأحادي الجانب المتسرع وهل سيكون للاعتراف تأثير عملي على مجريات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وهل اعتراف فرنسا بدولة فلسطينية يعتبر خطوة جيدة بالاتجاه الصحيح لحل الدولتين كما يروجون باعتباره أداة لدفع عجلة الحل السياسي ام ان ( وراء الاكمة وما ورائها ) رغم ان جميع المؤشرات حول القمة المنتظرة في نيويورك تثير الشكوك والتساؤلات حول أهدافها المخفية وجدواها الحقيقية وما ورائها.
خاصة في ظل تركيز جدول أعمالها كشرط اولي على نزع سلاح حماس ضمن المحاور الأربعة الأساسية هذا الشرط الذي سيعطل حتما أي مسار تفاوضي يضمن حقوق الفلسطينيين كما انه يثير المخاوف والشكوك فضلا عن أن اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية مشروط باعتراف دول عربية أخرى بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها على رأسها السعودية كما تراهن باريس أيضاً على لبنان بعد إضعاف حزب الله وعلى سوريا بعد سقوط نظام الأسد حليف إيران التاريخي وربما لاحقا العراق والجزائر وقطر وتونس وغيرهما.
في الجانب الاخر ايضا هنالك تساؤلات اكبر يلفُّها الغموض حول شكل الدولة الفلسطينية القادمة بعد الاعتراف والتي سيقبل بها الفلسطينيون وما هي حدودها وهل القدس الشرقية عاصمتها ومن يضمن الا يكون الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية مجرد تصريح شفوي او تعهد خطي ليس له أي قيمة قانونية ولا يقيم لاحقا الدولة المستقلة التي يطالب بها الفلسطينيون مع الفهم الواضح جوهريا ان ما يريده ماكرون من خلال إعلانه المشروط هو أن يضع حدوداً لما يمكن أن تقبل به بلاده في الشرق الأوسط حفاظاً على مصالحها ومكانتها التاريخية.
قمة نيويورك قد تكون فخ ومحاولة فرنسية خبيثة لتصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة كمدخل اولي لفرض تسوية سياسية مختلة تراعي أمن كيان الاحتلال على حساب الحقوق والتطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني فحين يُختزل السلام الشامل والعادل في نزع سلاح طرف يرزح تحت الاحتلال دون ضمان زوال الاحتلال ذاته تصبح الدعوات إلى مثل هذه الدولة الفلسطينية المزعومة مجرد غطاء سياسي لإخضاع الفلسطينيين وليس لتحريرهم بالإضافة الى مخطط دمج إسرائيل إقليميًا ودوليا في المنطقة ليكون الاعتراف الشكلي والهزيل هو نهاية عملية السلام خصوصا ان اسرائيل لا زالت ترى مسالة الاعتراف مكافأة للإرهاب وخيانة لجميع أطراف النزاع مالم يتضمن خطة واضحة لإنهاء حكم حماس في غزة ونفي قادتها وضمان عدم مشاركتها في الدولة المعترف بها مستقبلا.
هنا لابد لنا ان نسأل مرة اخرى ما الذي دفع بالرئيس ماكرون على حين غرة بالتوقف عن دعم وتأييد إسرائيل والمطالبة بحقها في الدفاع عن النفس وتجاهل مأساة الغزيين طول هذه الفترة على الرغم من غضب الشعب الفرنسي العارم ولماذا غير ماكرون نهجه من حالة التريث والكمون في التعامل مع النزاع الإسرائيلي الفلسطيني الى الانطلاق والمبادرة بعدما كان يحذر من ذلك في عام 2025 حين  رد على اعتراف إيرلندا وإسبانيا بالدولة الفلسطينية بقوله لا ينبغي أن نتخذ قراراتنا مدفوعين بالعواطف وعدم الفهم والتسرع ولا بد من التفكير الجماعي المتأني وتهيئة الظروف الدولية قبل اتخاذ أي خطوة وقرار.
الحقيقة لا غرابة في حديث الرئيس ماكرون عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية فهي فكرة سياسية براغماتية مقبولة منذ زمن بعيد عند شخصيات الطبقة السياسية الفرنسية وقد تحدث عنها الرئيس متيران في الكنيسيت عام 1981 كما رفعت فرنسا في عام 2010 التمثيل الفلسطيني لديها من المندوبية إلى البعثة الفلسطينية واصبح الدبلوماسي الذي يقود البعثة الفلسطينية في فرنسا يحمل لقب سفير وقد دعمت باريس تكتيكيا مرات عديدة الى إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود 1967 إلى جانب إسرائيل.
كما طالبت بأجراء حل عادل لقضية اللاجئين وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والحفاظ على وضعية القدس عاصمة للدولتين ولا زالت فرنسا تعتبر بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية مصادرة غير شرعية للأراضي وأن مفاوضات السلام بين الطرفين لابد أن تكون على أساس خطوط 1967 وان استمرار الاستيطان مخالف للقانون الدولي ومع ان عودة الرئيس ترامب للبيت الأبيض ابرزت تحدياً كبيرا للسياسة الفرنسية في الشرق الأوسط خوفا من ان يقوم بتنفيذ بعض مخططاته مثل ضم أجزاء من الضفة الغربية اواعادة انتاج صفقة القرن بطريقة جديدة ولكن التسريبات بعد زيارته الخليجية تؤكد انه قطع وعد لولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعدم معارضة المبادرة الفرنسية السعودية او التشويش عليها.
المادة الثالثة من اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933 تنص على أن الوجود السياسي للدولة ليس مرهوناً باعتراف دول أخرى وأي دولة ليست بحاجة إلى اعتراف دول أخرى بها لتكون موجودة من هنا فان اعتراف فرنسا أو أي دول أخرى بالدولة الفلسطينية لا قيمة ولا اعتبار له من الناحية القانونية لإعلان كيانها.
للحقيقة وامانة التحليل والمنطق نؤكد بان فرنسا كإحدى أكبر دول أوروبا وأول دولة عضو في مجموعة G7 حين تعترف بالدولة الفلسطينية قد يدفع هذا كل دول الاتحاد الأوروبي إلى حقبة جديدة في هذا الشأن وان تصورات باريس المعلنة ليست بعيدة عن وثيقة السلم التي اقترحها رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت ووزير الخارجية الفلسطيني انذاك ناصر القدوة في 17 تموز 2024 الذي يحمل الجنسية الفرنسية ومتزوج من سيدة فرنسية ويسكن في فرنسا وقريب من دبلوماسية الإليزيه.
وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس خلال زيارة أجراها إلى بؤرة استيطانية قبل اسبوعين شمال الضفة الغربية المحتلة أعلن تحديه للقانون الدولي وتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الداعية للاعتراف بالدولة الفلسطينية وقال محذرا إن حكومته ( ستبني الدولة اليهودية على أرض الواقع ( ذات السيادة والحدود والسكان والجيش وانتم ( ابنوا باعترافكم دولة فلسطينية على الورق ) لن يكون لها أي أثر على الارض ولا فائدة ترجى منها.
يبدو لي أن الرئيس ماكرون عبر سعيه المتواصل لعقد المؤتمر وتحدي اسرائيل كانه يريد أن يسجل بصمَتَه الرئاسية في سيرة فرنسا التاريخية مع فلسطين سيما وهو يبحث عن إنجازات خارجية لا يجدها في بلاده ليضع نفسه على لوحة الشرف مع زعماء فرنسيين سابقين كبار مثل ( ديغول وميتران وشيراك ) الذين تجرأوا على فعل ما لم تفعله كثير من قيادات العواصم الغربية الأخرى وهنا نتوقف لنسأل اخيرا أيبقى بعد كل الذي ذكرناه فلسطيني او عربي في العالم ذو ضمير حي يرى في فرنسا بلدا للإنسانية والديمقراطية والحريات ويمكنها ان تفعل للشعب الفلسطيني أي خير يذكر غير العويل والصراخ في المنابر وتسطير بيانات الشجب والاستنكار والادانة مثل حال العرب تماما.
بقي ان نقول رغم كل هذه السوداوية واستشراء نظرية المؤامرة هل من أمل صادق في العودة إلى طريق سلام يعيد لحل الدولتين مكانته وتطبيقه وهل تتوقع باريس من إسرائيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية التي تريد الاعتراف بها رغم انه وكيف ينبغي لنا الا ننتظر قيام دولة فلسطينية لها سيادة واستقلالية بمساعدة فرنسية او اوروبية او امريكية او سواها ونحن نعلم حقا ان الطريق الوحيد لعودة ارض فلسطين لأصحابها وحماية شعبها هو مواصلة الكفاح المسلح ضد هؤلاء الصهاينة المجرمين والجبناء.

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية

[email protected]