عبد الحكيم العياط: أزمة صحية عالمية غير مرئية: ما سبب انهيار المستشفيات رغم التطورات الطبية؟

عبد الحكيم العياط
يُعَدّ النظام الصحي من الركائز الأساسية التي تقوم عليها استدامة المجتمعات البشرية وتقدّمها، إلا أن العالم يشهد اليوم انهيارًا متسارعًا في هذه النظم، نتيجةً لمجموعة من العوامل البنيوية والمترابطة، أبرزها العزوف المتزايد عن المهن الصحية، وشيخوخة القوى العاملة في القطاع، وتفاقم ظاهرة هجرة الأطر الصحية من دول الجنوب نحو الشمال. هذا التدهور يُنذر بأزمة إنسانية عالمية إذا لم تُتخذ تدابير حاسمة وعاجلة على المستويين الوطني والدولي.
تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن العالم سيواجه عجزًا يُقدّر بـ10 ملايين من العاملين الصحيين بحلول عام 2030، خاصة في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب متداخلة، أبرزها التراجع الملحوظ في إقبال الشباب على ولوج المهن الصحية بسبب قساوة ظروف العمل، وانخفاض الأجور مقارنة بمستوى التكوين والتضحية المطلوب، بالإضافة إلى الإجهاد النفسي والجسدي الذي يتعرض له المهنيون خاصة في ظل الأزمات مثل جائحة كوفيد-19. وقد أظهر تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية سنة 2023 أن معدل الإرهاق المهني Burnout بين الممرضين بلغ 52٪ في بعض الدول الأوروبية، بينما فاقت النسبة 60٪ في مستشفيات دول الجنوب في أعقاب الجائحة.
تُعاني النظم الصحية في العديد من الدول من تركيبة عمرية غير متوازنة داخل القوى العاملة. ففي أوروبا مثلًا، يبلغ متوسط عمر الممرضين 44 سنة، بينما يصل متوسط عمر الأطباء في إيطاليا وألمانيا إلى أكثر من 50 عامًا، وفقًا لتقرير الاتحاد الأوروبي لسنة 2023 حول وضعية الموارد البشرية في الصحة. هذا الاتجاه يُهدّد بحدوث فجوة خطيرة في الكوادر المؤهلة خلال العقد المقبل، خاصة مع التقاعد الجماعي المتوقع لعدد كبير من الأطباء والممرضين. وفي اليابان، التي تُعدّ من أكثر الدول تقدمًا صحيًا، تجاوزت نسبة الأطباء الذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا حاجز 35٪، مما يطرح تحديًا كبيرًا أمام نظام الرعاية الصحية المتقدم هناك، الذي يواجه في الآن ذاته ضغطًا ديموغرافيًا هائلًا بفعل شيخوخة السكان.
تشهد الدول العربية، بدرجات متفاوتة، تداعيات مقلقة للأزمة العالمية في القطاع الصحي، حيث تتفاقم التحديات المرتبطة بنقص الكوادر البشرية، وضعف البنى التحتية، وهجرة الأطر الصحية نحو الخارج. ففي بلدان مثل السودان واليمن وسوريا، أدى النزاع المسلح وتدهور الأوضاع الاقتصادية إلى شبه انهيار كامل للأنظمة الصحية، مع تدمير المستشفيات وهجرة آلاف الأطباء والممرضين. أما في بلدان أخرى أكثر استقرارًا كالمغرب ومصر وتونس، فتواجه الأنظمة الصحية اختلالات بنيوية نتيجة الخصاص المزمن في الأطباء العامين والمتخصصين، وارتفاع معدلات الهجرة نحو أوروبا والخليج. على سبيل المثال، تشير إحصائيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالمغرب إلى أن حوالي 7 آلاف طبيب غادروا البلاد خلال العقد الماضي، في حين تؤكد نقابة الأطباء التونسيين أن أكثر من 3 آلاف طبيب هاجروا في السنوات الخمس الأخيرة فقط، معظمهم إلى فرنسا وألمانيا. وفي دول الخليج، ورغم الإمكانات المالية الكبيرة، تعتمد الأنظمة الصحية اعتمادًا شبه كلي على الكوادر الأجنبية، ما يطرح تحديات مرتبطة بالاستقرار الوظيفي ونقل الكفاءات. وتشير تقارير صادرة عن جامعة الدول العربية إلى أن المنطقة العربية بحاجة إلى أكثر من 1.5 مليون ممارس صحي بحلول 2030 لتلبية الحاجيات الأساسية للسكان. ورغم بعض المبادرات المشجعة في مجالات التكوين الطبي والرقمنة الصحية، فإن غياب رؤية إقليمية مندمجة واستراتيجية مشتركة يُعدّ من أبرز العوائق التي تحول دون تحقيق السيادة الصحية في العالم العربي.
من جهة أخرى، تعمّق ظاهرة هجرة الأطر الصحية من الدول النامية هذا التفاوت العالمي في التوزيع العادل للموارد الصحية. ففي إفريقيا، يُهاجر نحو 25٪ من خريجي كليات الطب سنويًا نحو أوروبا أو أمريكا الشمالية أو أستراليا، بحثًا عن ظروف عمل أفضل. ووفقًا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنميةOECD لعام 2022، فإن 27٪ من الأطباء و16٪ من الممرضين العاملين في كندا وُلدوا خارج البلاد، أغلبهم من دول آسيا وإفريقيا. هذا الاستنزاف البشري يُضعف بشكل خطير قدرات الدول المصدّرة لهؤلاء المهنيين على الاستجابة للاحتياجات الصحية لمواطنيها، مما يُفاقم من هشاشة نظمها الصحية. وفي بعض الدول الإفريقية مثل نيجيريا وغانا، تُقدّر خسائر الدولة الناتجة عن هجرة الأطباء بما يفوق 2 مليار دولار سنويًا من حيث تكلفة التكوين فقط، ناهيك عن الخسائر المرتبطة بضعف الخدمات الصحية.
ويُلاحظ أن بعض البلدان، مثل المملكة المتحدة، أصبحت تعتمد بشكل كبير على استقدام العاملين الصحيين من الخارج لسد الخصاص المزمن، حيث أشار تقرير هيئة الخدمات الصحية الوطنية NHS إلى أن أكثر من 40٪ من التوظيفات الجديدة في القطاع الطبي خلال عام 2022 كانت من خارج البلاد، مع اعتماد كبير على الهند ونيجيريا والفلبين. وتزداد المفارقة حدة حين نعلم أن بعض هؤلاء الأطباء والممرضين يتم استقدامهم من بلدان تعاني أصلًا من خصاص حاد في كوادرها الصحية. وقد أثار هذا الأمر نقاشًا أخلاقيًا دوليًا حول ما يُعرف بـ”الاستنزاف المنظم للكفاءات”، الذي قد يُعدّ شكلًا جديدًا من أشكال التبعية البنيوية.
ولا يقتصر التراجع على البلدان النامية، إذ تُواجه دول مثل فرنسا وكندا نقصًا حادًا في عدد الأطباء العامين، وارتفاعًا في فترات الانتظار داخل المستشفيات. ففي كندا، أظهر تقرير صادر عن الجمعية الطبية الكندية في 2023 أن 6.5 مليون مواطن لا يتوفرون على طبيب أسرة، وهو رقم غير مسبوق في بلد متقدّم. وفي فرنسا، تفاقمت ظاهرة “المناطق الطبية البيضاءzones blanches “وهي مناطق لا يتوفر فيها أي طبيب عام، مما يدفع بعض المرضى إلى التنقل لمسافات طويلة من أجل تلقي أبسط أشكال الرعاية الصحية. وتشير توقعات وزارة الصحة الفرنسية إلى أن البلاد ستفتقر إلى 15 ألف طبيب عام بحلول 2035 إذا استمرت الاتجاهات الحالية.
أمام هذا الوضع المتأزم، تدعو الهيئات الدولية إلى بلورة سياسات شاملة تهدف إلى تحفيز الشباب على الانخراط في المهن الصحية، وتحسين ظروف العمل والأجور، وتعزيز أنظمة التكوين، مع تبنّي آليات دولية لضبط وتنظيم هجرة الكفاءات الصحية بما يحفظ توازن النظم الصحية في البلدان النامية. وتقترح بعض المبادرات الأممية اعتماد آليات تعويض مالي من الدول المستقبِلة إلى الدول المُصدِّرة للكوادر، كما تدعو إلى تعزيز سياسات التكوين المستدام والمُراعي للخصوصيات المحلية. كذلك هناك توجه نحو تطوير مهن الدعم الصحي مثل تقنيي الصحة والمساعدين الطبيين، لتخفيف العبء عن الأطباء والممرضين، ولخلق بيئة عمل أكثر تكاملًا وفعالية.
إن تفكك النظم الصحية لا يُهدّد فقط الأمن الصحي للدول، بل يُقوّض كذلك الاستقرار الاجتماعي ويزيد من الفوارق الطبقية. وبالتالي، فإن معالجة هذه الأزمة تتطلب إرادة سياسية قوية، وتعاونًا دوليًا عادلًا، ورؤية استراتيجية بعيدة المدى تُعيد للقطاع الصحي جاذبيته ومكانته المركزية في سلم الأولويات. إن الوقت لم يعد يسمح بالحلول الترقيعية، بل يستوجب سياسات مبتكرة وعادلة تستند إلى مبادئ التضامن العالمي وحق الجميع في الرعاية الصحية الكريمة.7