هجرة الأطباء المغاربة: أزمة تستدعي التغيير الفوري

هجرة الأطباء المغاربة: أزمة تستدعي التغيير الفوري

د. خالد فتحي
غالبًا لما يُطرح موضوع هجرة الأطباء المغاربة إلى الخارج للنقاش، ننساق وراء جدل ظل وفيًا لمنطق قديم:  التباكى والأسف، ووعظ بدون حدود ، دون أن نغوص فعليًا في جوهر الأزمة. لكن، في خضم هذا السياق، نظم الفريق الاستقلالي بمجلس المستشارين ندوة جريئة تحسب له ،قد  كسرت هذا النمط المألوف من المقاربات، وطرحت الموضوع بشجاعة وعمق، كاشفة عن تداخله المعقد مع قضايا التكوين الطبي ، والأنظمة الصحية، والهشاشة المؤسساتية. لقد خرجت هذه الندوة عن النمط الإنشائي البلاغي الاستعراضي ، واقتربت أكثر من مكامن الخلل، ما جعلها نقطة ضوء في نقاش ظل لسنوات أسيرًا لخطاب المظلومية أو التبرير.
نحن لا نواجه مجرد “نزيف” بالمعنى المجازي، بل هدرًا مؤسسيًا ممنهجًا للكفاءات، يجعل من الطبيب المغربي سلعة قابلة للتصدير في سوق عالمي يعرف تمامًا كيف يصطاد العقليات المتميزة. لكن، وقبل أن نواصل جلد الذات، يجب أن نعترف: الظاهرة عالمية، وهجرة الأطباء ليست حكرًا على المغرب أو حتى على دول الجنوب. فالمشتغلون في المهن الطبية هم من بين أكثر الفئات ترحالًا وتنقلاً عبر العالم. والسبب؟ ربما يكمن في قسم أبقراط ذاته، الذي لا يُقسم فيه الطبيب على خدمة الوطن، بل على خدمة الإنسان. الطبيب، بطبيعته، لا يعترف بالحدود السياسية أو الهويات المغلقة؛ أينما وُجد الألم، وُجد هو، وأينما طُلب منه أن يُنقذ حياة ويؤدي رسالته بإتقان، ذهب. إنها نفسية مهنية كونية، لا تُلجم بالعِرق، ولا بالدين، ولا حتى بالانتماء الوطني.
في مقابل هذه الرؤية الإنسانية الواسعة المتحررة التي يحملها الطبيب، نجد رؤية ضيقة يحملها البعض من السياسيين والاقتصاديين والإداريين، تُحمّل الكفاءات مسؤولية الرحيل بدل أن تُحاسب وتنقد بجد السياسات التي دفعتها للمغادرة. من هنا تنشأ المفارقة: من يخدم البشرية يصفه البعض بأنه قد أدار ظهره للوطن، بينما الحكومات، ولا أقول الوطن، لم توفر له الحد الأدنى من مقومات الممارسة والكرامة.
الأرقام صادمة جدا. إذ تشير المعطيات المحدثة إلى أن المغرب يتوفر فقط على 30 ألف طبيب، أي ما يعادل 7.5 أطباء لكل 10,000 نسمة، في حين توصي منظمة الصحة العالمية بحد أدنى يبلغ 25 طبيبًا لكل 10,000 نسمة. وفي مقابل هذا الخصاص البنيوي، نجد أن حوالي 15 ألف طبيب مغربي يعملون في فرنسا وحدها، منهم 7 آلاف متخصص. والأسوأ أن عدد الأطباء الأجانب الذين طلبوا العمل في المغرب بعد فتح المجال أمامهم، لم يتجاوز 50 طبيبًا فقط، معظمهم من دول إفريقية وعربية.
هذه الأرقام لا تُظهر فقط ضعف الجاذبية الطبية للمغرب، بل تعري خللًا في السياسات الصحية، وفي الرؤية الاستراتيجية والتعليمية.
الطب اليوم يعيش في قلب ما يمكن تسميته بـ”السيولة المهنية” في زمن العولمة. الكفاءات تتنقل بحرية عالية، والأنظمة الصحية في الشمال تستفيد من أطباء مكوّنين على حساب دافعي الضرائب في الجنوب. لكن هناك جانب مظلم لهذه العولمة: الدول المتقدمة، التي تُحكم إغلاق حدودها في وجه الهجرة غير النظامية، لا تجد حرجًا في استقطاب الكفاءات من الدول النامية دون تعويض أو شراكة عادلة. وما يزيد الطين بلّة أن هذه الدول تواجه أزمات ديمغرافية خطيرة: شيخوخة السكان، تصحر طبي في مناطق نائية، وعزوف متزايد عن دراسة الطب بسبب كلفته ومدة تكوينه الطويلة. والنتيجة؟ نهب منظم لكفاءات دول الجنوب، التي تكوّن وتُعد، بينما تُستغل دون مقابل.
لذلك، لا مفر من فتح نقاش عالمي أخلاقي وعملي حول آليات عادلة لتوزيع الكفاءات وتبادلها، بما يُنهي منطق “الاستقطاب دون التزام”.
بعيدًا عن لغة الأرقام، كثير من الأطباء المغاربة لا يهاجرون فقط بحثًا عن الأجر أو التخصص، بل قرفًا من الجو العام والمزاج الثقافي السائد. وبالتالي هجرتهم ثقافية، وليست اقتصادية. ففي مجتمع يُحتفى فيه بالتفاهة، وتُبخس فيه قيمة المعرفة، وتُغيّب فيه القدوة العلمية، يشعر الطبيب بالغربة داخل وطنه. يرى من يتعب أقل منه ويكسب أكثر، يرى من يضحك على الشاشات يُكافأ، بينما هو يَسهر في غرف العمليات ويُهمل. هذه الهوة الرمزية بين الطبيب ومجتمعه، لا تُحل بالوعظ، ولا بالدعوات العاطفية للبقاء. بل تحتاج إلى ثورة ثقافية تعيد الاعتبار للعلم والعلماء، وتربط النجاح بالكفاءة لا بالصوت العالي أو الظهور الإعلامي، على أن تكون هذه الثورة مشروعًا واقعيًا لا مجرد شعار.
ربما يوجد الحل الناجع خارج المنظومة الصحية نفسها، التي ليست إلا انعكاسًا لمنظومات أخرى تؤثر فيها. تخضع هجرة الأطباء لمسار مركب يمكن تلخيصه في ثلاث عقد:
1- التكوين: الطبيب يُدرَّب محليًا، بتمويل عمومي.
2- الاستقطاب: دول الشمال تبحث عن الجاهز، وتستقطبه بقوانين مغرية.
3- التوطين: الطبيب يُدمج في منظومة صحية أجنبية، ويُسهم في تقويتها بينما بلده الأصلي يُضعف.
غالبًا ما يُطرح “الحل السهل”: إقناع الأطباء المهاجرين بالعودة. لكن العودة لا تُجدي شيئًا إن لم تتغير البيئة نفسها التي دفعت إلى الرحيل أول مرة. في غياب مشاريع بحثية، وبنيات تحتية، وحوافز مهنية، وحرية أكاديمية، فحتى من يعود سيجد نفسه في صراع يومي.
ما نحتاجه فعليًا هو:

تحسين جذري في شروط العمل والتكوين والتقدير.

شراكات بين القطاعين العام والخاص

خريطة وطنية للتكوين والتخصص والتوزيع الجهوي.

ميثاق دولي عادل يُنظم انتقال الكفاءات ويحفظ حقوق الدول المكوِّنة

ثورة ثقافية تعيد الاعتبار للطبيب والمعلم والباحث، بوصفهم ركيزة البناء الوطني لا عبئًا على الميزانية.

الطبيب لا يُقسم على الولاء لوطنه فقط، بل على الولاء للحياة. حين يرحل، لا يخون، بل ينقذ ما تبقى من كرامته المهنية والإنسانية. وإذا أردنا أن نحافظ على عقولنا داخل حدودنا، فلا بد أن نوسع تلك الحدود بسياسات ناجعة… حتى تسعهم.
وإلا، سنواصل تصدير الأدمغة، ونُبقي الوطن يئن في صمت… من دونهم.
كاتب مغربي