تصنيف الصراع في غزة كإبادة جماعية: تحديات قانونية وسياسية تعترض الطريق

تصنيف الصراع في غزة كإبادة جماعية: تحديات قانونية وسياسية تعترض الطريق

باريس-أ ف ب) – في ظل الروايات والصور المروعة الواردة من غزة، يتزايد عدد الأصوات التي تصف الحرب التي تخوضها إسرائيل في القطاع الفلسطيني بأنها “إبادة جماعية”، لكنّ خبراء قانونيين يحذّرون من أن اعتماد هذا المصطلح المشحون بالدلالات السياسية قد يكون له أثر عكسي.
ويرتدي اتهام إسرائيل بارتكاب “إبادة جماعية” ثقلا رمزيا أكبر، لكون هذه الدولة نشأت بعد محرقة اليهود (هولوكوست)، فيما عادت إلى ذاكرة الإسرائيليين الجماعية مشاعر الصدمة، إثر الهجمات الدامية التي نفذتها حركة حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
في حين ظهر مصطلح “الإبادة الجماعية” بسرعة في النقاش القانوني بعد أشهر قليلة من إطلاق إسرائيل حملتها العسكرية الهادفة إلى القضاء على حماس في غزة وتحرير الرهائن، وضع حلفاء إسرائيل طويلا هذه الحرب في خانة الدفاع عن النفس.
ولكن بعد حوالى 20 شهرا على اندلاع الحرب التي راح ضحيتها عشرات آلاف الفلسطينيين وخلّفت دمارا هائلا وجوّعت وشرّدت الكثيرين من سكان غزة، فضلا عن التصريحات التحريضية من بعض المسؤولين الإسرائيليين، بدأت لهجة الأوروبيين تتغير.
مع ذلك، لم يصل أي زعيم إلى حدّ وصف ما يحصل بأنه “إبادة جماعية”، باستثناء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وفي تصريحات أكد أنها تمثل وجهة نظر شخصية، قال وزير الخارجية البلجيكي ماكسيم بريفو “رأيي الشخصي هو أن الأمر أشبه بإبادة جماعية”، مضيفا “لا أعلم ما هي الفظائع الأخرى التي يجب أن تحدث قبل أن نجرؤ على استخدام هذه الكلمة”.
وتثير المأساة في غزة انقسامات أيضا في إسرائيل وبين اليهود أنفسهم، إذ بات يستخدم بعض هؤلاء هذا المصطلح لوصف ما يحدث في الأراضي الفلسطينية.
لكنّ إسرائيل التي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف حق رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو ووزير دفاعها السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ترفض رفضا قاطعا هذه الاتهامات “المشينة”.
وكان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد طلب إصدار مذكرات توقيف على الأسس نفسها في حق رئيس حماس في قطاع غزة يحيى السنوار، ورئيس المكتب السياسي في الحركة إسماعيل هنية، لكن الملاحقات توقفت بعد تأكيد مقتلهما. كذلك، أصدرت المحكمة مذكرة توقيف في حق قائد الجناح العسكري للحركة محمد الضيف، جرى سحبها في شباط/فبراير بعد مقتله.
وهنا السؤال، ما التداعيات القانونية والسياسية لمثل هذا التوصيف؟ وهل يكتسي استخدامه أهمية من أجل إنهاء المأساة؟
استشهد أكثر من 54 ألف فلسطيني، معظمهم من المدنيين، في الحملة العسكرية الإسرائيلية التي أعقبت هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وفق بيانات وزارة الصحة التابعة لحكومة حماس في غزة، والتي تعتبرها الأمم المتحدة موثوقة.
وأسفرت هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر عن مقتل 1218 شخصا من الجانب الإسرائيلي، معظمهم من المدنيين، وفق إحصاء أجرته وكالة فرانس برس استنادا إلى بيانات رسمية. ومن بين 251 شخصا خُطفوا خلال هجوم حماس، لا يزال 55 محتجزين في غزة، فيما أكد الجيش وفاة 32 منهم على الأقل.
من يصف ما يحصل في غزة بـ”الإبادة الجماعية”؟
من بين المنظمات الدولية، كانت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان (FIDH) أول من أعلن ارتكاب إسرائيل “إبادة جماعية” في كانون الأول/ديسمبر 2023، تلتها منظمة العفو الدولية بعد عام، ثم “هيومن رايتس ووتش”.
في قرارٍ مُدوّ صدر في كانون الثاني/يناير 2024، دعت محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب جنوب إفريقيا، إسرائيل إلى الامتتناع عن ارتكاب أي فعل من الأفعال المصنفة ضمن إطار الإبادة الجماعية، محذِرة من “خطر حقيقي ووشيك” بإلحاق “ضرر لا يُمكن إصلاحه” بالفلسطينيين.
من دون أن تنظر في جوهر القضية، أصدرت محكمة العدل الدولية أوامر موقتةً في كانون الثاني/يناير وآذار/مارس وأيار/مايو 2024 تُلزم إسرائيل بالسماح بوصول المساعدات الإنسانية ومنع التحريض على الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها. وامتنعت إسرائيل عن تنفيذ هذه الأوامر رغم طابعها الملزم قانونا.
على صعيد الأمم المتحدة، حثَّ وكيل الأمين العام للمنظمة الأممية للشؤون الإنسانية توم فليتشر قادة العالم في خطاب صادم في منتصف أيار/مايو على “التحرك لمنع الإبادة الجماعية”.
كذلك، تحدّث مؤرخون إسرائيليون، مثل عاموس غولدبرغ وعومير بارتوف، عن “إبادة جماعية” في غزة.
في تقرير مطول نشرته صحيفة “ذي غارديان” في آب/أغسطس 2024، روى بارتوف، وهو باحث أميركي إسرائيلي معروف بتخصصه في شؤون الهولوكوست، كيف خلص، عقب الهجوم الإسرائيلي على رفح في جنوب قطاع غزة، إلى أن بلاده “مذنبة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وأعمال إبادة جماعية ممنهجة”.
ما المقصود بهذا المصطلح؟
الإبادة الجماعية مفهوم صاغه عام 1944 البولندي اليهودي رافائيل ليمكين، وقد عرّفته اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، الصادرة عام 1948 على أنه يشمل الأفعال المرتكبة “على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”.
وهذه الأفعال هي “قتل أعضاء من الجماعة” أو “إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة أو “إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا أو “فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة” أو “نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
ويسمح فعل واحد من هذه الأفعال بتوصيف الوضع على أنه “إبادة جماعية”. لكن يجب أن يرتكب أي من هذه الأفعال “بقصد التدمير”.
مع ذلك، يؤكد جميع الخبراء القانونيين الذين قابلتهم وكالة فرانس برس أنه، خلافا للفكرة السائدة بأن الإبادة الجماعية هي “جريمة الجرائم”، فإن القانون الدولي لا يُرسي تراتبية للجرائم، إذ إنه يُعادل من حيث العقوبة بين جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية.
في غزة، “نشهد عنفا جماعيا واسع النطاق يُمارَس على المدنيين”، على ما يؤكد الخبير في معهد “نيود” NIOD الهولندي ثييس بوكنيغت.
ويقول بوكنيغت “هناك سياسة تهدف إلى ضمان تهجير السكان المدنيين أو موتهم”، من دون أن يُخلص في هذه المرحلة إلى أن ما يحصل يمكن تعريفه بأنه “إبادة جماعية”، رغم وجود “علامات مميزة” تتسق مع هذا التصنيف.
ويؤكد المحامي الفرنسي الإسرائيلي أومير شاتز بأنه “لا شك في أن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية قد ارتُكبت وتُرتكب” في غزة، مشيرا إلى الدمار الهائل والحصار الشامل الذي تفرضه إسرائيل على المساعدات الإنسانية منذ الثاني من آذار/مارس وخفّفته بصورة طفيفة في الأيام الأخيرة، والتهجير القسري للسكان.
ويضيف “لا حاجة إلى أن يكون المرء حائزا شهادة دكتوراه في القانون ليدرك أنه لم يعد هناك بنية تحتية، ولا مدارس، ولا مستشفيات، لا شيء”.
من جانبها، تقول “جمعية الحقوقيين من أجل احترام القانون الدولي” (جوردي) “بصفتنا محامين، نرى أن مؤشرات جريمة الإبادة الجماعية قائمة، لكن هذا النقاش لا ينبغي أن يُؤخّر الأولويات الإنسانية العاجلة”.
أي آثار مباشرة لاعتماد هذا التصنيف؟
تُلزم اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، كل الدول الأطراف “منع” الإبادة الجماعية، أي الكشف عن العلامات قبل وقوع هذه الجرائم، والعمل على منعها، وفق ما أكدت محكمة العدل الدولية عام 2024.
مع أن النص لا يُحدد الوسائل التي يُمكن من خلالها تحقيق ذلك، لكن ثمة مجموعة واسعة من التدابير لممارسة الضغط، بينها وقف شحنات الأسلحة، وفرض عقوبات سياسية أو اقتصادية.
على سبيل المثال، سيبدأ الاتحاد الأوروبي مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، بناءً على طلب تقدمت به دول أعضاء عدة في نهاية أيار/مايو.
ويُعلق أومير شاتز “كان ينبغي التحرك قبل ذلك بكثير. في أوروبا، وكذلك في الولايات المتحدة حيث كان بإمكان (الرئيس السابق جو) بايدن أن يطلب وقف (الحرب) في أي وقت”.
لكن بعض الدول، مثل ألمانيا والولايات المتحدة، وهما الموردان الرئيسيان للأسلحة لإسرائيل، ترفض أي إعادة نظر في تعاونها العسكري أو التجاري، ما يُعرّضها لاتهامات بالتواطؤ في “الإبادة الجماعية”.
من هنا، تُقاضي نيكاراغوا برلين أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بـ”تسهيل ارتكاب هذه الإبادة الجماعية” من خلال “دعمها السياسي والمالي والعسكري لإسرائيل”.
وترى جمعية “جوردي” أن “المنطق نفسه” ينبغي تطبيقه على الصراعين في أوكرانيا وغزة. وتقول “الاتحاد الأوروبي يُطبّق حزمة العقوبات السابعة عشرة على روسيا لأنها تنتهك القانون الدولي بالاستيلاء على الأراضي بالقوة واستهداف المدنيين ومنشآتهم. هذا بالضبط ما يحدث في غزة”.
وتخلص “جوردي” إلى أن اعتماد تدابير صارمة من عدمه يتوقف في نهاية المطاف بشكل أساسي عند “إرادة” حلفاء إسرائيل. وتوضح “في الواقع، هذه مسألة سياسية وليست قانونية”.
توصيف للتاريخ
يشير ثييس بوكنيغت إلى أن إثبات جريمة الإبادة الجماعية “صعب للغاية”، سواء على مستوى الأفراد أو الدول، “لأنه يجب إظهار وجود نية قصدية وإثباتها كتفسير وحيد لما حدث”.
ويلفت الخبير إلى أن قضاة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، التي أُنشئت عام 1994، احتاجوا إلى أكثر من عشر سنوات لإعداد “الإشعار القضائي” بشأن إبادة التوتسي في رواندا، مُعترفين بها كحقيقة ثابتة لا تقبل الجدل.
يمكن الاعتراف بالإبادة الجماعية من جانب محكمة دولية، أو الأمم المتحدة، أو الدول فرادى، إلا أن هذا التوصيف أثار جدلا واسعا.
على سبيل المثال، تُقر تركيا بمجازر الأرمن التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، لكنها ترفض مصطلح الإبادة الجماعية، على الرغم من اعتراف حوالى ثلاثين دولة بها.
بسبب هذه الصعوبة في إثبات النية، طلب المحامي أومير شاتز في كانون الأول/ديسمبر 2024 من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية محاكمة ثمانية قادة إسرائيليين بتهمة “التحريض العلني والمباشر على الإبادة الجماعية”.
ويسرد التقرير الواقع في 170 صفحة والمُقدم إلى المحكمة الجنائية الدولية تصريحات عدة لقادة بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بما في ذلك تصريح وزير الدفاع السابق يوآف غالانت الذي أشار إلى أن إسرائيل تشنّ حربا ضد “حيوانات بشرية”، وتصريح الوزير اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش الذي تحدث عن “إبادة شاملة” في غزة.
ويقول خبراء إن تصريحاتٌ حديثة أخرى لسموتريتش المؤيد بشدة لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتهجير الفلسطينيين قسرا من قطاع غزة، قد تشكل تحريضا على الإبادة الجماعية. ففي أيار/مايو، أكد سموتريتش أن سكان غزة، بعد نزوحهم جنوبا، سيبدأون “بالرحيل بأعداد كبيرة إلى دول ثالثة”.
ويرى شاتز أن “إثبات التحريض يعني إثبات النية”.
في نهاية المطاف، القاضي هو من يُصنّف الجريمة كإبادةٍ جماعية، وله الحق في بدء الملاحقة القضائية، وفق ما تؤكد ماتيلد فيليب-غاي، المتخصصة في العدالة الجنائية الدولية ومؤلفة كتاب بعنوان “هل يُمكن محاكمة بوتين؟”.
وتقول “لا يُمكن للقانون أن يوقف الحرب. العدالة ستتدخل بعد الحرب. التوصيف مهمٌ جدا للضحايا، ولكنه سيأتي لاحقا”.