د. إشيب ولد أباتي: موريتانيا: الهجرة والتهجير .. الدواعي.. والأسباب

د. إشيب ولد أباتي
الكتابات العربية عن مجتمعنا العربي على تخوم الصحراء العربية الكبرى، بدأت منذ القرن الرابع الهجري / 9 الميلادي، وكان ” أبن حوقل” من السابقين الاوائل في رحلته التجارية من بغداد، إلى مصر، ومنها إلى اقطار المغرب العربي، وجمع مادة كتابه ” صورة الأرض”، فذكر الكثير عن مجتمع مدينة ” أودغشت” في وسط موريتانيا باعتبارها أكبر الحواضر التي شكلت مركزا عمرانيا، وتجاريا، وثقافيا بين الحواضر العربية ، وتجار الحواضر الافريقية الذين كانوا ينقلون اليها بضائعهم، ومنها بضائع التجار القادمين من القيروان، وسجلماسة، وتلمسان، ومن حواضر أخرى من بلادنا.
كما عرض ابن حوقل مظاهر الصراع الاجتماعي داخل الوحدة الاجتماعية، بين الإثنيتين: العرب، والأمازيغ، وبينهما توجد عناصر افريقية تشكل اليد العاملة في العمل المنزلي للطهي، والغسل، وكذلك العمل في الزراعة بعد كل موسم امطار..
ولعل ذلك الصراع المذكور، حصل احتواؤه مع قيام حركة ” المرابطون” في منتصف القرن العاشر، حيث قادت مشروعا وحدويا، ووجهت بوصلة الصراع الاجتماعي في الاتجاه الصحيح لمواجهة الحروب الصليبية في اسبانيا، و ل” يوسف بن تاشفين” وابنه “علي” دورهما التاريخي في صد العدوان في الحروب الصليبية على أهل الأندلس في معركة الزلاقة سنة سنة474 هجرية، وتلا ذلك اسقاط الأنظمة العميلة التي تحالفت مرة أخرى مع الفونسو، مثل “ابن عباد”، في قرطبة،وغيره من ملوك الطوائف، ومنذ القرن السادس عشر اشتد الصراع بين الغزاة البرتغاليين، وبين إمارة “المرابطون”الجنوبية – موريتانيا -، واستغرق الصراع ثلاثة قرون مسحت فيها جميع الحواضر تدميرا، لم يبق منها إلا آثارا من الأسوار المركومة،، وهذا يشير إلى ضراوة المواجهات، ثم حصل النزوح الجماعي، وبداية استئناف الاجتماع البدوي، ونشوء عصبيات قبلية لم تذكر قبل في مصادر التاريخ، و ما إذا كان مصدر الانتساب القبلي، هو إلى المناطق، أو لشخصيات كان لها نفوذها الاجتماعي، أو العسكري، أو الديني.
وفي القرن التاسع عشر حصل صراع بين الفرنسيين القادمين من الجنوب، السنغال بعد احتلاله، وبين البرتغاليين الذين كان مركزهم مدينة ” نواذيبو” الحالية، والدير بالذكر ان الصراع بين كل من البرتغال والفرنسيين، كان بالوكالة في حروب قبلية..
ومنذ الاستقلال الوطني سنة 1960م، عرفت موريتانيا، هجرات، يعتبر أولها جنودا واطرا ادارية، و ذلك بإيعاز من الفرنسيين، وازداد التواجد الافريقي في جميع اسلاك النظام السياسي من السلك الوزاري، والإداري، إلى الامن في الشرطة، ومؤسسة الجيش، وقد وجدوا في اقلية من البدو من العرقية ” البولارية” سندا في المجتمع المدني، رغم ارتباط، أن الأطر السنغالية،حددت علاقاتهم بأسرهم في مدن السنغال عامل ارتباط بالخارج، بدلا من التفاعل مع البناء الاجتماعي العام وحتى الإثني، ثم بدأوا تجنيس خريجي الجامعات السنغالية، وذلك لتمكينهم من العمل في مؤسسات الحكم، بينما الاقلية الوطنية البدوية، كانت تمتهن تنمية الأبقار على الضفة الموريتانية للنهر …
وصار جميع الأفارقة الوافدين، والقرويين، يشكلون نسبة 5% حسب الإحصاء السكاني الرسمي،،
وفي أواخر الستينات، والسبعينات واجهت موريتانيا حقبة الجفاف الذي قضى على الثروة الحيوانية، وأدى إلى الهجرة الداخلية من البوادي إلى القرى، ومع انعدام الظروف المعيشية، انتقل معظم سكان القرى إلى المقاطعات، ومنها إلى الولايات، وكانت العاصمتان: السياسية، والاقتصادية قبلة الهجرة الموسمية، وأحيانا الهجرة الدائمة، و أدى ذلك إلى تداعيات، انعكست على انظمة المجتمع وضعفها عن تقديم الخدمات في التعليم، والصحة،، والاسكان، فتحولت العاصمة إلى أحياء من الأكواخ، و في مواجهة التحديات الداخلية، ظهر عجز الدولة، فتأثر البناء الاجتماعي العام بتفككه، رغم الاستثمار بالأسماء القبلية سياسيا من طرف البقبليين في انظمة الحكم، لكن غاب التكافل، والتضامن الاجتماعيين..
ذلك أن التنقل عم جميع المناطق، ومن المدن، والقرى، كالحوضين: الشرقي، والغربي، ومن الوسط، ومن الشرق إلى الغرب حيث العاصمة السياسية نواكشوط، و في عقدي السبعينات والثمانينات تفاقمت الأوضاع الاجتماعية، ونما الوعي بضرورة الهجرات التي لازال تيارها يؤثر في الوحدة الاجتماعية، والنمو الديمغرافي، وهو المهدد فعلا للمجتمع نظرا لكون المجتمع، خلا من شبيبته، وهذا يعرض لفقدان الأمن، وحماية النساء والاطفال، وانخفاض معدل النمو الديمغرافي، ويتوقع أن يصل التحدي النظام السياسي، والوحدة الجغرافية..
وكانت بداية الهجرة الخارجية تلك التي اتجهت نحو اقطار افريقيا الغربية، واستانف الموريتانيون نشاطهم التجاري الموروث من تراثهم الفينقي، وتلاه ذلك تيار الهجرة نحو اقطار الخليج لتغطية الحاجة لشرطة الإمارات، وقطر بينما في المغرب العربي كان اتجاه العمالة الموريتانية نحو ليبيا،،
بينما التيار الثالث والأخير للهجرة بدأ في أواخر التسعينات نحو أوروبا، وامريكا الشمالية التي عرفت هجرة الشباب خلال السنتين الاخيرتين فقط أعلنت الدوائر الجمركية الأمريكية عن تسلق 14الف شاب للحائط بين المكسيك، وامريكا، ولازال معظمهم في الحجز دون الحصول على الإقامات، والظاهر أنهم لا يشغلون بال الحكومة لا بالتدخل لادخالهم، واعطائهم اقامات للعما، أو ارجاعهم…!ومجموع هذه الهجرات، يقدرها البعض بنصف مليون نسمة، والبعض بثلاثمائة الف نسمة علما ان تعداد السكان في حدود اربعة ملايين وسبعمائة نسمة.
وفي مقابل الظروف الطاردة للموريتانيين في بلادهم.. بدأت الدعاية الأوروبية التي تزامنت معها الزيارات الموسمية لرئيسة المفوضية الأوربية الصهيونية، ورئيس الحكومة الاسبانية،، وكثر الحديث اعلاميا عن الهجرة العكسية من أوروبا الى موريتانيا، وإعادة توطين المهاجرين فيها على غرار، المحاولة الفاشلة التي قامت بها “بريطانيا”لتوطين اللاجئين في “رواندا “مقابل المال،، غير أن الدعاية في وسائط التواصل الاجتماعي في أقطار غرب افريقيا، كشفت المستور، وهو أن المغرب العربي، يعمل الأوروبيون بمختلف وسائل الضغط، والإغراء ، وذلك في سبيل توطين الأفارقة، لأنه مناطقة شاسعة، وغنية بالخيرات، وخلال فترة وجيزة يمكن تغيير التركيبة الاجتماعية في اقطار مثل موريتانيا، وليبيا، وتونس، وهذا التخطيط غير معد من طرف انظمة الحكم، ولا من مراكز البحوث الاجتماعية الوطنية لمراكز الإحصاء السكاني، او من الأكاديميين، بل من طرف المنظمات الأوروبية، والهيئات التبشيرة، وسياسة، رؤوس شياطين المفوضية الأوروبية، غير أن مخططات من هذا القبيل، ستغير التركيبة الاجتماعية، وبالتالي فقدان الهوية العربية الاسلامية، وتهجير ابناء موريتانيا، وليبيا، واقتطاع المغرب العربي من خريطة الوطن العربي،، ومعروف أن ملايين من الشعب الليبي خارج بلادهم جراء الحرب الأهلية، وكذلك مئات الآلاف من المورتانيين في المهاجر…
وكانت المفاجئات في موجات المهاجرين بطرق غير متوقعة إلى المدن الموريتانية، والليبية، فعمت الجريمة، والقتل، والسرقة، علاوة على ما سيترتب عن التوطين لإعادة خريطة المنطقة، الامر الذي يذكر بمأساة العرب في ” زنجبار” في بداية الستينات، حيث هجر العرب، الى عمان، بعد الإبادة الجماعية في مدن الجزيرة..!
ففي موريتانيا ارتفع منسوب الصراع، وصار سياسيو الاقلية الإفريقية، يدافعون عن الهجرة القادمة من الدول الإفريقية، ويوزعون الاتهامات بالعنصرية، والعرقية في موريتانيا بين العرب، في حين أن العنصرية، وتصفية الأقلية ذات الأصول من الإثنية ” البولارية”على سبيل المثال، لا زالت تمارس في مالي، والسنغال، وبوركينا فاسو،،وحتى العبودية قائمة في البناء الاجتماعي في كل دول الساحل، فلا زال يحرم دفن الميت في مقابر الأسياد، إذا لم يكن من أفراد رأس الهرم الاجتماعي..!! وهذا لم يكتب عنه داخل الأقليات في الاقطار المذكورة.
والموريتانيون يعرفون ذلك علم اليقين خلال الاحتكاك الثقافي الحاصل، والتفاعل الاجتماعي،، وهذه الظاهرة في افريقيا يعلن عنها في حالات الصراع الحاد، كما عبر لمجلس ” لوموند” الرئيس الأسبق “عبد الله واد”، لظلم الزمن الحاضر لابنه، حين سجن في عهد الرئيس السنغالي الأخير على أساس أن الأخير من اسفل الهرم الاجتماعي، ورغم ان هذه الاقطار الشقيقة تدين بالإسلام في معظمها، والاسلام حرم الاستعباد، والاستغلال، والتمييز بين البشر على أساس العرق، واللون..
بينما المنظمات الأوروبية تستثمر سياسيا التفاوت الاجتماعي بين الفئات الاجتماعية في المجتمع الموريتاني فقط، وتفسر الحرمان الاجتماعي العام – الذي سبب هذه الهجرات التي لم تتوقف، ولن تتوقف في المستقبل المنظور – على أساس التمييز في المكانة الاجتماعية في مجتمع بناؤه لازال قبليا، ككل المجتمعات العربية، والإفريقية، طبعا انتهت العبودية، وقضي عليها، وجرمت قانونيا، وحوربت ميدانيا بالحملات الموسمية خلال العقود الثلاثة الأولى من نشأة الدولة الموريتانية.. أضف إلى ذلك أن العمالة الرخيصة في المنازل تشغلنها العاملات الماليات، والسنغاليات.
والكثير من المراقبين للشأن العام في موريتانيا، يتوجسون من إعلان الاتفاقية التي يظهر أنها قائمة على أساس ضبط الهجرة غير المنظمة،، ذلك ان كلا من الحكومة الموريتانية، والمفوضية الأوربية أعلن عن خلو اعلان الاتفاق من عملية تهجير المهاجرين من أوروبا إلى موريتانيا، ولكن موجات الهجرة من كل من السنغال، وجمهورية مالي، لم يكن متاحا ضبطها في حدود مفتوحة مع محدودية الامكانيات البشرية، والأمنية، وغياب عنصر التعاون للحد من المهاجرين..
ومع ذلك حاولت السلطات الموريتانية، أن تفتح مجالا لمواساة الأشقاء الأفارقة في مالي، لذلك حددت منطقة قريبة من الحدود مع مالي منذ 2017م. وجعلها مركزا للواء المهاجرين جراء الحرب في مالي، ومخيمها، تقطنه ساكنة بلغت مائتين وسبعين الفا، حسب ما اعلنته الحكومة في تصريحات رسمية، وكذلك مكتب الأمم المتحدة في نواكشوط ، ولعل من المهم الإشارة إلى أن اللجوء إلى ضبط الهجرة، لم يحل دون السماح للمهاجر الإفريقي بالبحث عن عقد عمل، أو يكون متزوجا من موريتانية..
لكن المخيف حقا، أن مجتمعات غرب افريقيا، تشهد تحولات اجتماعية، وسياسية، ونموا ديمغرافيا متسارعا جدا، والنظم السياسية الثورية الجدية التي أيدناها جميعا نظرا لما قامت به من قطع علاقاتها السياسية والعسكرية مع فرنسا الاحتلالية، نراها في سياستها غير المستقرة تربك الموريتانيين بعلاقتنا السياسية مع أنظمة افريقية توسعية، وهذا لا يشجع على الذي كان مؤملا من أنظمة تحررية، بينما هي الآن تشكل طوقا خانقا، قد يستغل لحصار كل من موريتانيا، أو الجزائر، أو تونس، أو ليبيا، وذلك لاحداث اضطرابات محتملة ، وفي ظل اكتشاف الغاز في موريتانيا بنسبة كبيرة للغاية يمكن استغلالها لمدة نصف قرن على الأقل، جعل ربما يجعل منها لعنة – الثروات الطبيعية – في بلاد العرب، بهيمنة النفوذ الأمريكي، والفرنسي، والانجليزي، ولذلك فموريتانيا بحاجة إلى مراجعة عامة لسياتها الاجتماعية، وحصرا في:
الدعوة لعودة المهاجرين، وإيجاد فرص عمل لهم لمواجهة التحديات الداخلية، واستغلال ريع الطفرة الاقتصادية للتنمية المستدامة، وذلك ابتداء من السنتين المقبلتين، و وضع آلية للهجرة من – الى موريتانيا، فضلا عن الإصلاح السياسي، والحد من الفساد المستشري في المجالين الإداري، والمالي، ثم الإصلاح التشريعي، وانتهاج سياسة اجتماعية لتحقيق العدالة الاجتماعية لفصل الحقوق المدنية للمجتمع المدني عن الحقوق السياسية للنخب السياسية التي تعزف على وتيرة تهييج العامة عرقيا، أو قبليا، او فئويا، وتجاوز التضييق الخانق على الحراك السياسي، بدلا من استبداله بالأحزاب القبلية، والجهوية، والعرقية، والفئوية، وهي احزاب مفرخة، وتابعة للحزب الحاكم، وكلها لم تشكل معارضة، والدليل على ذلك تصويتها في عهدتي الانتخابات الرئاسية لصالح الرئيس الحالي. بينما الأحزاب الممثلة للشارع العام، وتتصدر الحراك السياسي الوطني من القوميين الوحدويين من الناصريين، والبعثيين، ممنوعون طيلة خمس وستين سنة من إعطائهم التراخيص وفق قانون الأحزاب المشرع منذ التسعينات …
(يتبع)
كاتب عربي موريتاني