مسقط اختبار لالتزام ترامب

نجاح محمد علي
على الرغم من تداخل الأزمات وتقاطع المصالح الكبرى ، و ما حملته أحداث مابعد “طوفان الأقصى” من نتائج وتداعيات، لا تبدو إيران كدولة تبحث عن افتعال المشكلات بقدر ما تبدو كقوة إقليمية تفرض وجودها بثقة واقتدار. لقد نجحت، رغم العقوبات والضغوط القصوى، في تثبيت معادلة تقوم على السيادة الوطنية والكرامة، مقرونةً بإصرارٍ على امتلاك أسباب التقدم التكنولوجي والمعرفي، وعلى رأسه الطاقة النووية السلمية. في هذا السياق، جاءت جولة المفاوضات في سلطنة عمان كعلامة فارقة، لا مجرد محطة تفاوضية عابرة.
ما يجري في مسقط ليس مجرد جولة أخرى من جولات الملف النووي، بل هو اختبار حقيقي لجدية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يحاول العودة إلى طاولة التفاوض من بوابة “القوة”، بعد انسحابه أحادي الجانب من اتفاق 2015، رغم أنه كان اتفاقًا دوليًا أقرّه مجلس الأمن بإجماع نادر. فهل يسعى ترامب لإعادة إنتاج الاتفاق بشروطه، أم أنه يجرّب حظه في مقايضة الاستقرار الإقليمي بصفقة ذات طابع استعراضي؟
عُمان، كعادتها، استضافت هذه المفاوضات بروح الحياد والوساطة الحكيمة، على أرضية تؤمن بأن الحلول المستدامة تأتي من الحوار لا من التهديد. وهنا يكمن الفارق الجوهري: بين من يلوّح بالبارجة والمُسيّرة، ومن يمدّ يده على قاعدة الاحترام المتبادل والالتزام بالقانون الدولي.
القيادة الإيرانية، المستندة إلى شرعية داخلية ومشروعية دولية نابعة من صلابة الموقف واستقلالية القرار، لا تتعامل مع المفاوضات كوسيلة لتفادي الحرب فحسب، بل كفرصة لإثبات حقها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، ضمن منظومة معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية (NPT). وهي معاهدة تنص على التزامات متبادلة، من بينها تمكين الدول غير النووية من الوصول إلى التقنية السلمية، لا معاقبتها عليها.
التسريبات من المفاوضات تُظهر أن الهدف المرحلي هو التوصل إلى اتفاق يشكل قاعدة لحوار موسّع لاحقاً. إيران لا ترى أن مهلة الشهرين التي حدّدها ترامب كافية لصياغة اتفاق معقّد ومتكامل، اللهم إلا إذا عاد ترامب للاتفاق السابق، لذلك فإنها تدفع نحو صيغة انتقالية، تُبقي الباب مفتوحاً للحل الشامل، دون أن تُفرّط بحقوقها.
وليس خافياً أن انسحاب ترامب من الاتفاق السابق لم يكن مجرد “تراجع سياسي”، بل كان إعلاناً عن سياسة ضغط قصوى قادها البيت الأبيض ضد إيران، مدعوماً بكيان الاحتلال وبعض الأنظمة الإقليمية. لكنّ ما لم تحسبه واشنطن جيدًا، أن طهران لم تركع، بل طوّرت برنامجها النووي السلمي أكثر، ورفعت نسبة التخصيب، وباتت أكثر قدرة على التفاوض من موقع القوي.
ترامب يراهن على أن رفع وتيرة التهديد، من خلال حشد القوات وزيادة التحركات في المنطقة، سيُجبر إيران على التنازل. لكن، كما تُظهر التجربة، فإن إيران تزداد صلابةً كلما اشتدت الضغوط. وهذا ما يُفسر حرصها على أن تأتي المفاوضات بشروط واضحة: لا تفاوض تحت التهديد، ولا اتفاق يُفرغ من مضمونه عبر ضغوط خارج النص.
التصعيد الذي يمارسه ترامب وحلفاؤه ليس فقط عديم الجدوى، بل يُهدد المنطقة كلها بالفوضى. أي مغامرة عسكرية في هذا التوقيت ستكون كارثية على الجميع، ولن تستثني أحدًا من لهيبها. ولعل تحركات كيان الإحتلال المستفزة، ومحاولات إشعال الجبهات في غزة ولبنان وسوريا، تأتي في هذا السياق المتوتر، الذي لا يخدم سوى أجندات قصيرة النظر.
على الجانب الآخر، تعرض إيران نموذجًا ناضجًا في السلوك السياسي والدبلوماسي: الانفتاح على التفتيش الدولي، التفاعل مع المبادرات، وتأكيد الطابع السلمي للبرنامج النووي. هذه رسائل واضحة للمجتمع الدولي بأن طهران ليست هي الطرف الذي يعطّل الحوار، بل الطرف الذي يدفع نحوه، بشروط الكرامة والمصالح المتبادلة.
في البعد الاقتصادي، تدرك إيران أن الطاقة النووية السلمية تمثل ركيزة للتنمية المستدامة، خصوصاً في ظل تزايد الضغوط على الموارد التقليدية. ولهذا فإن إصرارها على امتلاك التكنولوجيا النووية ليس ترفًا ولا تحديًا عبثيًا، بل ضرورة وطنية لخلق فرص العمل، وتطوير القطاعات الطبية والصناعية، ومجاراة العالم في ثورته التكنولوجية.
ومع ذلك، فإن الرؤية الإيرانية تتجاوز الشأن الداخلي، إلى الإطار الإقليمي والدولي. إذ تؤمن بأن استقرار المنطقة لا يتحقق من خلال سباق التسلح أو فرض الإرادات، بل من خلال احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها. ولهذا فإنها تعتبر الاتفاق النووي محطة نحو بناء منظومة أمن جماعي إقليمي، يكون فيها التعاون أساسًا لا المواجهة.
ومن هذا المنطلق، فإن التفاوض في مسقط ليس مجرد ملف تقني، بل هو مرآة تعكس طبيعة الصراع الأوسع: بين من يريد فرض نظام دولي جديد قوامه الهيمنة والغطرسة، ومن يسعى لإعادة التوازن عبر التمسك بالقانون الدولي وحقوق الشعوب. هنا يظهر الفرق بين مقاربة ترامبية قائمة على منطق الصفقة، ومقاربة إيرانية قائمة على مبدأ السيادة والكرامة.
إن موقف إيران لا يقوم على الرفض المطلق، بل على الاستعداد للاتفاق، بشرط أن يكون عادلاً، شاملاً، وقابلاً للتنفيذ. وقد أثبتت طهران – بشهادة الوكالة الدولية للطاقة الذرية – أنها التزمت بكل بنود الاتفاق السابق، قبل أن يُخرقه الطرف الأميركي. ولهذا فإن أي اتفاق جديد يجب أن يتضمن ضمانات حقيقية، لا مجرد وعود قابلة للتراجع عند أول تغير سياسي في البيت الأبيض.
المشهد الحالي يؤكد أن خيار الحرب لن يحقق مكاسب استراتيجية لأحد. بل على العكس، سيؤدي إلى انقسام دولي، وخلق فراغات أمنية، وفتح أبواب لعوامل عدم الاستقرار. أما المفاوضات – رغم صعوبتها – فإنها تفتح نافذة للأمل، بشرط أن تكون قائمة على احترام التعهدات، لا على ابتزاز الشعوب.
إن العالم يراقب ما يجري في مسقط، بعيون تتساءل: هل قرر ترامب أن يتحمّل مسؤولية الانسحاب غير المبرر من الاتفاق السابق؟ أم أنه يسعى لفرض اتفاق جديد يضمن مصالحه الإقتصادية المرتبطة بسعر السوق ، على حساب المبادئ الدولية؟ الجواب حتى الآن غير محسوم. لكن المؤكد أن إيران، كما أثبتت مرارًا، لن تدخل في مساومة على سيادتها أو تتنازل عن حقوقها المشروعة.
المفاوضات في مسقط، إذن، ليست اختبارًا لإيران، بل اختبار لترامب نفسه. هل يملك الشجاعة السياسية للاعتراف بالواقع؟ أم أنه سيواصل طريق العناد، إلى حيث لا يُجدي الندم؟
صحافي استقصائي خبير في الشؤون الإيرانية والإقليمية