د. طارق ليساوي: ميكانزمات تغدية بنية الفساد السرية والعلنية..

د. طارق ليساوي: ميكانزمات تغدية بنية الفساد السرية والعلنية..

 

د. طارق ليساوي
قامت الدنيا ولم تقعد بعد ان تم اختراق قاعدة بيانات الصندوق الوطني  ب” cnss “، و تسريب وثائق خاصه لقرابة مليوني منخرط، ومن ضمنهم كبار الشخصيات وعلية القوم، ورغم التضارب الروايات بشأن صحة الوثائق المسربة، والتي اجتاحت وسائط التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم،  الا ان كفة الصحة ترجح كثيرا مقارنة مع كفة التزوير أو التدليس كما قالت الجهات المسؤولة ،  خاصه وان هذه الجهات تأخرت في الرد بالنظر إلى جسامة و ضخامة حجم الشبهات التي مست الذمة  المالية لمسؤولين كانت أسماءهم واردة بقوه ضمن الكثير من الاحتجاجات الشعبية التي عرفها المغرب طوال السنوات الماضية وخاصه ضمن حراك 20 فبراير 2011..

سؤال أين الثروة؟

كما أعادت هذه التسريبات “الويكليكسية ” سؤال أين الثروة؟ و سؤال إفلاس مؤسسات عمومية في حجم الصندوق الوطني الضمان الاجتماعي والصندوق المغربي للتقاعد وغيرها من الصناديق السرية والعلنية والبيضاء والسوداء وخاصه ان هذا الصندوق هو المعول عليه ضمن مشروع التغطية الصحية الشاملة والتأسيس لما سمته “حكومة الشعارات وحكومة زواج المال بالسلطة”،  ب “الدولة الاجتماعية”..

قضية القرن

 لقد شاءت الاقدار الإلهية في هذا البلد ان يكون هذا الصندوق بالذات هو ساحة لتصفيه الحسابات، فقد شهد الصندوق محاكمة و صفها الإعلام المحلي بقضية الأمر «القرن»، فقد باشرت المصالح القضائية التحقيق في الاتهامات التي طالت 25 من المسؤولين الكبار بالمؤسسة، وقد بدأت المحاكمة عام 2011، وصدرت أحكام قاسية بحق 25 متهماً، و تعود وقائع هذه الفضيحة إلى عام 2002، حيث تأكد أن نتائج الأموال المنهوبة من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي  خلال أكثر من 30 سنة من التدبير تجاوزت 115 مليار درهم، منها 47,7 مليار درهم مجموع الأموال التي صرفها الصندوق من دون حق من خلال اختلاسات وصفقات مشبوهة.

أرقام فلكية

ففي سنة 2002، كشف تقرير لجنة تقصي الحقائق التي أحدثها البرلمان والتي ترأسها البرلماني رحو الهيلع، حول الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ووجهت اللجنة أصابع الاتهام حينها إلى المدراء العامين الذين تعاقبوا على رأس إدارة الصندوق وهم: محمد كورجا (1972 /1971) و امحمد لعلج (1995 /1992) ورفيق الحداوي (2001/ 1995) ومنير الشرايبي (2001)..ولإعطاء صورة عن هول وجسامة الضياع المالي الذي تكبده الصندوق خلال العقود الثلاثة الماضية، أورد التقرير أن هذا الضياع يقارب موارد الدولة لسنة 2001 بما فيها عائدات الخوصصة ( 136 مليار درهم)، كما أن هذا الضياع يفوق مرة ونصف  النفقات العمومية للتسيير لنفس السنة ( 75.5 مليار درهم )، ويمثل ما يقارب ست مرات نفقات الاستثمار لنفس السنة، كما أن هذا الضياع يمثل حوالي 8 في المائة من المديونية الخارجية للمغرب إلى غاية آخر سنة 2001، ويقارب ثلث الناتج الداخلي الخام لسنة 2000 (354.3 مليار درهم).

المال السايب يعلم الإختلاس..

وعزا التقرير الصادر عن لجنة تقصي الحقائق البرلمانية حينها “سبب تبديد هذه الأموال إلى سوء التسيير والتبذير، والاختلالات والاختلاسات المباشرة وغير المباشرة، التي تعرضت لها مالية المؤسسة وممتلكاتها”، لينطلق بعدها ماراطون من المتابعات القضائية التي همت عشرات المسؤولين والأطر البارزة حينها في الصندوق. وباشر قاضي التحقيق بالغرفة الرابعة بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء بعد سلسلة من الأبحاث القضائية التحقيق في هذا الملف، الذي كان يحقق فيه بناء على تقرير هذه اللجنة، ليقرر سنة 2011 متابعة 28 متهما، وإحالتهم على استئنافية الدار البيضاء.
وبعد ثلاث عشرة سنة من آخر تقرير لمفتشية المالية في اختلالات تدبير الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في سنة 1989، تقرر إحداث لجنة برلمانية جديدة في سنة 2002، وبعدها بتسع سنوات باشرت المصالح القضائية البحث في الملف ومتابعة المسؤولين في سنة 2011، لتستمر المحاكمة أزيد من خمس سنوات ويتقرر الحكم على 25 متهما في القضية قبل أن يتم استئنافها، لتقرر غرفة جرائم الأموال لدى محكمة الاستئناف في الدار البيضاء إنهاء فصول القضية وتأييد الحكم الابتدائي.
و قد قررت المحكمة في حكمها الصادر عن قسم الجرائم المالية الحكم على عشر متهمين بينهم المتهم الرئيسي بإرجاع مبالغ لفائدة الدولة تقدر بحوالي 31 مليار درهم في المجموع، يتعلق الأمر بمصطفى جبوري الذي حُكم عليه بإرجاع مبلغ 294 مليون درهم، وسعيد برويلة بـ82 مليون درهم، ومحمد بن المودن بإرجاع مبلغ يناهز 10 مليارات درهم، ومحمد الودغيري بمبلغ 32 مليون درهم، وعلي باعدي بـ13,9 مليارات درهم. كما حكمت المحكمة على بنعيسى الأبيض بإرجاع مبلغ يقدر ب ـ200 مليون درهم، ومصطفى أبوزيد ومحمد عدلاني والعربي الزياني وأحمد الخياطي بإرجاع مبلغ يناهز 7,44 مليارات درهم تضامناً في ما بينهم، فيما قضت في حق رفيق الحداوي بإرجاع المبالغ المحكوم بإرجاعها على المتهمين الآخرين، أي 31 مليار درهم لفائدة الدولة المغربية. كما ستتم مصادرة ممتلكات المتهمين المدانين في حدود المبالغ المحكوم بإرجاعها.

صفعة قوية

و عودة إلى التسريبات التي كشفت عنها الوثائق “السنيسيسية” المسربة -على وزن الوثائق “الويكليكسية”- فإن المعطيات التي تم نشرها تعد بحق صدمة و  “تصرفيقة” ذات  تأثير صادم تكلف البلاد و العباد  أزيد من  30 سنة من العجز التنموي، و  تختلف كثير ا عن  “التصرفيقة” التي رأينا بعض حيثياتها في مقطع مصور أبطاله السيدة شيماء و رجل سلطة، التصرفيقة التي نتج عنها عجز أصاب القائد و قدرته إحدى الطبيبات ب 30 يوما، هذه “التصرفيقة” الرمضانية التي لازالت بطلتها و زوجها و شقيقها في قفص الإتهام و لازالت أطوار محاكمتهم مستمرة ، حظيت باهتمام واسع و تحركت المساطر بسرعة البرق ، لكن مهما يكن فالخلاف محدود و لا تتجاوز دائرة تأثير “الصفعة”  بضعة اشخاص ..لكن الصفعة التي كشفت عنها الوثائق المسربة ، صفعة صادمة و الأرقام الخيالية التي يتحصل عليها بعض علية القوم، تكشف حجم المأساة ..

تضارب الروايات

 و الجدير بالذكر، أني  لا أعلم و لا أجزم  أي الروايتين أصدق: رواية الصندوق التي غلب عليها منطق التهديد و المنع، أم الرواية التي جاءت في الوثائق المسربة ، و التأكد من صحة الوثائق أو بطلانها يتطلب حجج داحضة ..و إلى ذلك الحين، سنفترض ان هذه الوثائق مشكوك في أمرها ، و لكن ذلك لا يمنع من التعامل مع ما جاء في الوثائق من منطلق “البينة على المدعي واليمين على من أنكر” و الصندوق بما أوتي من موارد و إمكانيات، فإنه غير مطالب بالأقوال و إنما الأفعال ، لا يقبل منه  اليمين و إنما توضيح الشبهات و الإتهامات بما يدحضها و يبطلها بالحجج و البراهين ..
خاصة و أن المؤشرات الأولية ترجح  درجة الصحة ، هذا فضلا على أن الاختلاسات السابقة التي شهدها الصندوق طيلة العقود الماضية، تعزز صدقية ما تم تداوله، و المهم من الاختلاسات السابقة التي تم تحديدها و رصدها برلمانيا و قضائيا ، و الوثائق المقرصنة المشكوك في صحتها، تتضمن جوابا شافيا و كافيا  عن مصير الثروة العمومية التي تتبخر دون حسيب او رقيب و من الجيد فتح تحقيق شفاف و صارم للتأكد من درجة صحة ما تم تداوله من معلومات و أجور فلكية..

ما خفي أعظم

 و شخصيا، منذ أن ولجت لقطاع الإعلام كمستثمر أتيحت لي فرصة للإطلاع على ملفات و قضايا فساد من الحجم الكبير ، لذلك لا أستغرب ما يقال و ما يتم ترويجه فما خفي أعظم، و ما ستكشفه الأيام أكبر و أخطر ، و كما يقول المغاربة ” لي في رأس الجمل فرأس الجمالة..”

مفارقة غريبة

 لكن المشكل بنظري ، هو ما موقف  الطبقات و الفئات الاجتماعية  التي تبيع أغلى ما بيدها أي صوتها الانتخابي ب 200 درهم أو قفة لا تتعدى قيمتها في أحسن الاحوال 400 درهم.. ؟! في مقابل حصول شخصيات عمومية و سياسية على ملايير ممليرة دون وجه حق ، بينما المواطن المسحوق الذي يتطلع للدعم العمومي الشهري الذي لا يتعدى في الغالب 500 درهم و يصارع و يكافح من أجل  تغطية صحية لا تشفي من مرض أو علة الله تعميق المرض و تحويله من عضوي إلى تفسي و من عرضي إلى مزمن ، و لأجل هذا الفتات يُجلد ظهره من أجل بالصعود و النزول من أجل  يستقر  مؤشره ، بل و الأدهى من ذلك البعض يبيع صوته لمدة خمس سنوات ب 200 او 1000 درهم، بمعنى  أقل من نصف درهم في اليوم …و صدق من قال الله يجعل الغفلة بين السياسي و المواطن ..

تغدية دورة الفساد

من غير المجدي منهجيا، تحميل المسؤولية للمختلسين و لناهبي المال العام، فهؤلاء مذنبين و ينبغي محاسبتهم بكل تأكيد، لكن قبل محاسبتهم لا بد من محاسبة الأغلبية الصامتة، التي صنعت هؤلاء عن قصد أو غير قصد، فالصمت على هذه الممارسات يضمن إستمراريتها و يزيد من فرص تأبيدها،  فعندما يستيقظ المواطن من غفلته و يخرج نفسه من دورة الأنانية المفرطة و يعلم أن الغنى الفاحش للقلة ليس مصدره تفوق أو ذكاء او فرادة هذه الفئة ، و إنما  مصدره نهب المال العام و الحصول على مكاسب ضخمة نتيجة للقرب من دوائر السلطة ، و على حساب تفقير الغالبية الساحقة، و عندما يدرك الفقراء و باقي الطبقة المتوسطة أن صعوبة العيش و حالة الضنك التي يعيشونها هي نتاج لزواج فاسد بين السلطة و المال، هذا التحالف الأسود يدمر الحاضر و المستقبل ..المهم الله يلطف بالبلاد و العباد و القادم لا يبشر بخير .. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ..
كاتب و أستاذ جامعي من المغرب