عبدالحميد البجوقي: الإيقاعات والانعكاسات.. تحليل لرواية “طبول الوادي” للكاتب العماني محمود الرحبي

عبدالحميد البجوقي
تعرفتُ على الروائي العماني محمود الرحبي أثناء زيارتي إلى عمان نهاية شهر ماي من السنة الجارية ، لقاء صدفة أو يكاد. عَلِمَ أحد أصدقائي المغاربة برحلتي إلى مسقط، وأشار علي أن أتصل بمحمود الرحبي، قال لي أنها مناسبة وفرصة للتعرف على روائي عماني متميز، وإنسان راقي متعدد المعارف، ناولني صديقي المغربي رقم هاتف محمود وهو يلح: ” ستكتشف إنسانا رائعا، وأديبا مبدعا، لا تُفوِّت هذه الفرصة..” والحقيقة أن وصف صديقي المغربي للمبدع محمود الرحبي كان أقل مما اكتشفتُ فيه أثناء لقائنا، ليس فقط كأديب وروائي وباحث، بل بالأساس كإنسان. انتابني شعور أنني أعرف محمود منذ زمن بعيد.. وقبل مغادرتي أهداني بعض أعماله، كانت منها رواية “طبول الوادي”، نص روائي متعدد الأبعاد، بالإضافة إلى الحبكة وعناصر التشويق والكشف، نص دخلتُ من خلاله إلى المجتمع العماني، إلى تفاصيل وجودية وأخرى لها علاقة بالحرية، وبخيوط ربطتني بالمنفى والشعور بالاقتلاع الذي يلاحقُني وكل المنفيين، خارج أوطانهم وداخلها.
لستُ ناقدا ولا باحثا، ولا أتقن فن تفكيك النصوص الأدبية، لكنني ككاتب وروائي وجدت نفسي مُنْغَمساً في ثنايا النص وتيماته المتعددة، تتصدرها تيمة الحرية، وارتأيت نقل انطباعاتي عن هذا العمل قدر المستطاع وفي حدود القراءة وليس النقد.
1 ـ الحرية كمحور وجودي
الرواية تنسج خيوطها حول تيمة الحرية، وتُفَعّلها ليس فقط عبر شخصية البطل “سالم” الذي يهرب من قيد القرية إلى فضاء المدينة، بل تمتد هذه التيمة لتشمل الأب، والمكان، وحتى الجمادات والكائنات. الكاتب لا يقدّم الحرية كحق سياسي أو اجتماعي فقط، بل كقيمة وجودية تنعكس في كل تفاصيل السرد، من السيجارة الأولى إلى اختيار المصير بعد وفاة الأب. وتتخذ الحرية أيضًا شكلاً أسلوبيًا حين يدمج الكاتب بين الفصحى والعامية واللغات الأجنبية، في تعبير عن انفتاح الشكل الروائي ذاته على الآخر.
2 ـ القرية مقابل المدينة
الرواية تقوم على ثنائية الحياة بين زمنين ومكانين: وادي السحتن (رمز التقاليد والقيود) ووادي عدي (رمز التحرر والانطلاق). يتبادل البطل سالم وزهران الأمكنة والأدوار، مما يعمّق فكرة أن الحرية نسبية، وأن لكل شخصية رؤيتها في تعريف السعادة والانتماء. ويقدّم هذا التبادل النقدي رؤية تأملية حول التحوُّل الاجتماعي في عمان، حيث لا تُقدَّم المدينة دومًا كفردوس، ولا القرية كجحيم، بل كلاهما يتبدلان بحسب وعي الفرد.
3 ـ التأنّي وتوزيع الزمن
اللافت في هذه الرواية هو التأني في الكشف السردي؛ الكاتب لا يكشف عن مزاج الشخصيات ولا تحوّلاتهم دفعة واحدة، بل على مراحل مدروسة. هذا التدرج يعكس حبكة سردية تمنح القارئ فرصة التأمل، وربما المشاركة في صياغة مصير الشخصيات. التكرار الرمزي، مثل العودة المتأخرة إلى القرية، يشكّل بُعدًا تأمليًا في السرد يُحاكي فلسفة النضج والقرار.
4 ـ أساليب ولغات الحوار
الكاتب ينوّع في أساليب الحوار واللغة، ما بين الفصحى والعامية واللغات المكسّرة، لعله يروم التعبير عن تعددية المجتمع العماني. وهو يُضفي بذلك طابعًا واقعيًا، ويُكسر الأحادية الثقافية. كما يستخدم الكاتب الخطاب التأملي والأمثال المصنوعة بأسلوب خاص يعكس عمقًا فلسفيًا، مثل قول سالم ، الشخصية الرئيسية في الرواية: “حين يكون لديك سقف فإنك الثابت كمركز والعالم يدور حولك”.ص 111.
5 ـ الإشارات التاريخية والبعد الواقعي
تضمنت الرواية إشارات واضحة إلى مذابح زنجبار في الستينيات، وأبدع الكاتب في توظيفها بخلفية ذكية دون إقحام مباشر، مما يربط التجربة الفردية بسياق أوسع من المنفى والاقتلاع والبحث عن ملاذ.
خلاصة
“طبول الوادي” رواية هادئة من الخارج، لكنها صاخبة من الداخل، تحمل صدى طبولها على هيئة حرية تُقرع في الذات واللغة والمكان. استطاع محمود الرحبي بحساسية فنية أن يرسم تحوّلات الفرد العُماني بين عالمين، مُوظِّفًا تعددية لغوية ونمطا سرديًّا لتأكيد فكرة مركزية: الحرية ليست فقط في المكان والزمان، بل في الوعي بهما.
مدريد