أحمد الكافي يوسفي: الميتافيزيقا وتوتراتها: تحليل فلسفي للصراع الروسي-الأوكراني

احمد الكافي يوسفي
مقدمة: نحو “ميتافيزيقا بلازيسية”
ههنا يمكن الحديث، بضرب من التأويل، عن ميتافيزيقا مغايرة تتجاوز خطاب “المابعديات” و”الموت”: من “ما بعد الميتافيزيقا” أو “موت الميتافيزيقا” إلى “الميتافيزيقا البلازيسية” أو “الميتافيزيقا الانفجارية”.
في هذه الصيغة الجديدة، لم تعد الميتافيزيقا حبيسة المجردات العليا أو المقولات المعزولة عن الواقع، بل تتموضع في قلب الأحداث، تُؤطر الصراعات وتحدّد السياسات، كما تُعيد تشكيل معنى السيادة والوجود والموت. في هذا السياق، يمكن أن نشهد، من خلال ما يعيشه الإنسان المعاصر، تفعيلًا مغايرًا للميتافيزيقا لا بوصفها نظامًا فكريًا مفارقًا، بل باعتبارها فضاء توتر ومأزق فلسفي حين تنزل من عليائها لتلامس أرض الواقع: أرض الحروب، والتضحية، والموت، والسيادة.
1) صراع على الوجود
الميتافيزيقا، كما تتجلى في الحرب الروسية الأوكرانية، لم تعد أطروحة في الوجود بل أصبحت جزءًا من الصراع على الوجود نفسه. وهذا التوتر هو ما يكشف عن تمزق الميتافيزيقا حين ترتبط بالممارسة: إذ كيف نفكر في “الروح” أو “القيمة” أو “الهوية” حين تُوظَّف لتبرير الحرب، أو تُساق لتأويل الموت السياسي والوطني؟ إننا أمام لحظة ميتافيزيقية بامتياز، ولكن لا بوصفها تطهّرًا عقليًا، بل بوصفها تمزقًا في قلب الواقع الكارثي الذي يقوم على النووي والذكاء الاصطناعي.
2) بين كانط وواقعية الكارثة
حين سعى كانط إلى إرادة جعل الميتافيزيقا “علمًا”، كان يأمل في انتزاعها من تقلبات الرأي وتيه التأملات الحرة، واضعًا لها منهجًا نقديًا صارمًا، لتسلك “الدرب الملكي” نحو اليقين العقلي، تمامًا كما حدث في الفيزياء أو الرياضيات. غير أن ما نشهده اليوم هو مسار “يؤرّضن” الميتافيزيقا، يخلع عنها سمة التجريد النظري، ويربطها بالمعيش البشري، حيث الحرب، والموت، والسيادة، والخوف من الفناء النووي.
3) الميتافيزيقا الروسية والميتافيزيقا الغربية
في قراءته الفلسفية للحرب الروسية الأوكرانية، يقترح سلافوي جيجيك تأويلاً ميتافيزيقيًا للصراع، حيث لا يدور النزاع حول الأراضي أو الهيمنة الجيوسياسية فحسب، بل حول تصوّرين متناقضين للروح الإنسانية والسيادة والوجود. في هذا السياق، يميز جيجيك بين ميتافيزيقا روسية تؤمن بأن السيادة التامة للدولة تعتمد على استعداد مواطنيها للموت من أجلها[1]، وبين ميتافيزيقا غربية ترى أن الموت هو ببساطة النهاية وأنه لا توجد ضمانة عليا[2].
الميتافيزيقا الروسية، كما يعرضها جيجيك، تقوم على تصور ديني للسيادة مؤسَّس على الشهادة والخلاص، كما يتجلى في خطاب البطريرك كيريل الذي يصرّح: نحن ننتظر الرب يسوع المسيح الذي سيأتي في مجده العظيم، ويدمّر الشر، ويحاكم كل الأمم[3]؛ بينما تُقدّم الميتافيزيقا الغربية مفهومًا دنيويًا للسيادة مؤسَّسًا على قيم الحرية، العقل، وسيادة القانون.
هذا التباين لا يظل نظريًا، بل يتجلى في تصور كل طرف لما يعنيه أن يكون إنسانًا. وهنا يكتب جيجيك بوضوح: إنها حرب بين روح وروح، تواجه فيها رؤيتان وممارستان متناقضتان لما يعنيه أن تكون إنسانًا[4].
4) الميتافيزيقا و النووي: جدليّة السيد والعبد
الصراع النووي ليس منفصلًا عن الروحي، بل هو في قلب الصراع من أجل نزع الاعتراف من الآخر وتحويله إلى موضوع في إطار مغامرة بالحياة من أجل الحرية. النووي هنا، بما هو عنصر من عناصر الحرب وممكن يتعلق بالكارثي، نزّله جيجيك منزلة “جدلية السيد والعبد”.
فخطاب بوتين وميدفيديف، حسب جيجيك، يردد صدى فينومينولوجيا الروح لهيغل، وتحديدًا جدلية السيّد والعبد. فعندما ينخرط وعيان ذاتيان في صراع حياة أو موت، وإذا كان كلاهما مستعدًا للمخاطرة بكل شيء، فلا يظهر منتصر — أحدهما يموت، والناجي يفتقر إلى الاعتراف. التاريخ والثقافة الإنسانية يعتمدان على حل وسط أولي: أحد الجانبين “يحول عينيه” ويصبح العبد. ميدفيديف يفترض أن الغرب “المنحط، المتعتي” سوف يحول عينيه، لكن كما علمتنا الحرب الباردة، في مواجهة نووية، لا يوجد منتصرون — كلا الجانبين يهلك[5]
5) من الهوية إلى التعدد
أن نسأل بأن “نُنسّب” من خلال القول “بالنسبة لكذا… أما بالنسبة لكذا…”، هذا يعني مغادرة براديغم الهوية والوحدة إلى براديغم مغاير يقوم على إنشاء التعدد والاختلاف. هذا البراديغم الذي يُكثّر ويُنشئ الاختلاف هو شكل من “خطاب المواكبة” أو “زواج المتعة” بهذا الذي يحدث وما ينفك يتغير ويُقلق ويُرعب. وهو زواج لا يجري على السنن والشرائع الدارجة، بل هو مروق وتطليق وممارسة أبغض “الحرام” عند الناس، أي التفكير القائم على تكفير المعتقدات الدارجة.
6) الفلسفة كمواكبة فكرية للكارثة
السؤال عن هذه الحرب بما هي واقع عيني يعني أن الفلسفة ليست خطابًا متعاليًا عن الواقع، مستغرقًا في تأملاته الميتافيزيقية على الطريقة “الحداثية الديكارتية”، ولا منقطعًا إلى عالم المثل على الطريقة “الميتافيزيقية الأفلاطونية”، بل هي خطاب “مواكبة”. مثلما يواكب الإعلامي والسياسي والفنان ورجل الشارع الحدث، كذلك الفيلسوف، بالدلالة “النقدية الاجتماعية”، يواكب ما يحدث وما ينفك يتغير.
“إن من مهمة الفلسفة، بالنظر إلى هذه ‘الوقائع القاسية’، أن تطرح أسئلة طفولية من مثل: لماذا لا يستطيع البشر أن يحتمل بعضهم بعضًا؟ ما الذي يدفعهم إلى الاستعداد إلى إبادة بعضهم بعضًا بالأسلحة النووية؟”[6]
خاتمة: الفلسفة كإقحام للالتباس
مهما يكن مصير هذا الصراع وحتى لو تحوّل خطر نهاية العالم إلى مجرد حدث عابر في نشرات الأخبار، فإن ما يهم في الفلسفة المغايرة — نهجًا نقديًا منغرسًا في اللحم والتحت والأرض — هو “مأزقة” العابر وتفجير النووي من داخله علمًا وممارسة. لأن “القنبلة النووية هي نحن” كما يقول بيتر سلوتردايك، لكننا نحن أيضًا “المضاد للقنبلة النووية”، وهو ما يزيد الالتباس التباسًا.
الفلسفة هنا لا تقدم حلًا ولا تعزية، بل تُعيد توتير الدلالة، توتّر مقولات مثل “السيادة” و”الهوية” و”الروح” من الداخل، وتُظهر أن ما نعيشه ليس فقط صراعًا سياسيًا بل أزمة ميتافيزيقية تمسّ معنى أن نكون بشرًا. بهذا المعنى، تصبح الفلسفة أسلوب زعزعة كل يقين، ومقاربة لا تفصل بين الفكر والممارسة، بين المعنى والواقع، بين الحياة والموت.
الهوامش:
[1] Slavoj Žižek, “The full sovereignty of a state depends on its citizens’ willingness to die for it,” in Ukraine’s fight against Russia is a metaphysical struggle for survival, The Kyiv Independent, Dec. 24, 2024.
[2] Ibid.: “Western Europe operates with the knowledge that there is no higher guarantee — death is simply the end.”
[3] Ibid.: “We await the Lord Jesus Christ who will come in great glory, destroy evil, and judge all nations.”
[4] Ibid.: “This is a war of spirit against spirit, pitting two mutually exclusive visions and practices of what it means to be human.”
[5] Ibid.: “In Hegel’s framework… in a nuclear confrontation, there are no victors — both sides perish.”
[6] Ibid.: “It is the task of philosophy, in the face of such ‘brutal facts,’ to ask childish questions…”
باحث في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة